ملخص
ماذا ستفعل النخب السياسية السودانية لو انتهت حرب الخرطوم؟
قبل الحديث عما جرى في القاهرة خلال اليومين السابقين من حراك سياسي سوداني نشط فيه كل من المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير من ناحية، والكتلة الديمقراطية من ناحية ثانية، ربما تعين علينا التأمل في ما يمكن أن نرصده من أي احتمالات لتغيير قناعات النخبة السياسية السودانية بعد الحرب نحو الاتجاه الصحيح، وما إذا كانت تلك القناعات قبل الحرب أصبحت مختلفةً بعدها.
والتساؤل الذي يتصل بهذا المعنى هو ما إذا كانت الحروب الأهلية الطرفية في السودان، وهي حروب استمرت لأكثر من نصف قرن بدأت في الجنوب ثم في الغرب والشرق، قبل حرب الخرطوم الأخيرة تعني شيئاً مهماً لتلك النخبة السياسية والحزبية؟
تحليل الإجابة عن هذا السؤال ربما يكشف لنا طبيعة ردود فعل القوى السياسية السودانية من ناحية تأثرها بهذه الحرب ومدى تغير قناعاتها بعدها.
قناعات نخبوية
الذي سيفتح لنا تأويلاً لمعرفة ما إذا كانت قناعات النخبة السياسية قد تغيرت بعد الحرب، هو في تقديرنا يكمن في طبيعة الأحوال السياسية التي كانت قبلها، سواء تلك الأوضاع التي كانت تعكس انقساماً عمودياً بارز الهشاشة على ضعف التفكير الثوري في معسكر قوى الثورة، أو تحالف قوى ثورية انتهازية عملت لإفشال الاتفاق الإطاري.
ما كشفت عنه بعض تصريحات المجتمعين في القاهرة من تعبيرات دلت للأسف على أن لا شيء حدث في قناعات قوى حزبية اجتمعت في القاهرة خلال اليومين الماضيين، إذ كان سجالها السياسي باللهجة ذاتها التي كانت تراهن عليها قبل الحرب.
وراء دوافع اجتماعات القاهرة التي استقطبت طرفي الصراع السياسي في السودان ما بعد الثورة (الحرية والتغيير والمركزي، والكتلة الديمقراطية) ضغوط إقليمية ودولية عززتها ربما قناعة مصرية من خشية اتجاه أوضاع الحرب نحو خيارات خطرة على مستقبل الأمن القومي المصري، وهو ما تتفق فيه مصر مع القوى الحريصة على عدم انهيار الدولة المركزية في السودان لما في ذلك من تهديد جيوسياسي لمنطقة مركزية من أفريقيا.
ضغوط سياسية
الأرجح أن الغائب حتى اليوم عن تلك النخبة السياسية السودانية، هو أنها لم تنبته حتى الآن إلى أن وضع الحرب في السودان والانسدادات التي أدت إليها، سيكون اليوم بمثابة ورقة ضغط ستستخدمها القوى الإقليمية والدولية في خدمة مصالحها قبل كل شيء، ما يعني أن الوضع السياسي للقوى الحزبية السودانية سيكون ضعيفاً، وعليها فقط تحسين شروطه كوضع أزمة هي فيه الطرف الأضعف.
ربما كان هذا الوضع الذي أشرنا إليه من موقف القوى السودانية التي اجتمعت في مصر على ما فيها من تنافر مقبولاً حتى على ذلك النحو من الضعف إذا كانت هناك رؤية واحدة تنطلق من محددات متفق عليها لهوية الوطن وطبيعة حكمه بينها، لكن الاختلاف بينها ليس اختلاف درجة، وإنما هو اختلاف نوعي وانقسامي على هوية الوطن ومعناه وطبيعة تصورها للسلطة فيه، إذ إن لكل واحد من طرفي الصراع السياسي في السودان سرديته المختلفة عن مفهوم الوطن والسلطة.
الانسداد الذي أفضى إلى الحرب والذي كان سبباً لها مع أسباب أخرى يكمن في ذلك الانقسام الرأسي للقوى السياسية السودانية، وهو انقسام سيظل يعيد إنتاج التناقضات النسقية المتمانعة والنافية لأي إمكانية للتوافق في ما بينهما.
تغول سلطوي
وغني عن القول إن تمانعاً كهذا بين القوى السياسية السودانية في ظل الحرب سيعني، من ناحية، منح الفاعلين الدوليين والإقليمين في الأزمة السودانية سلطات أكبر في مساحات فرض أجنداتهم، وكذلك تمكين الطرفين المتحاربين من فرض أجندة أحدهما إذا ما انتصر في تلك الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذا أضفنا إلى ذلك أن وقائع المناخ الإعلامي المصاحب لأوضاع الحرب وتفسيراتها السياسية ساحة يغطي فيها إعلام "السوشيال ميديا" جزءاً كبيراً من أدوات التأثير، والمتغلب فيه هو صاحب التأثير الأكبر كونه الأكثر إنفاقاً وقدرات في استخدام تلك المنصات.
في ظل هذه الأحوال التي تخيم على القوى السياسية المشتتة والمشوشة في طبيعة أدائها السياسي بعد الحرب والفاقدة جميعها للشرعية المفوضة سيكون من الصعوبة بمكان استكشاف خط سياسي يجمع عليه السودانيون، على رغم إجماعهم اليوم على رفض هذه الحرب، وهنا تكمن المفارقة، فحين يدرك الجميع رفضهم لها ولا يملكون رؤية للبديل، ولا حداً أدنى من التوافق السياسي أقله على مستوى الاتجاهين الرئيسين لعنوان الاختلاف، فإننا هنا بإزاء تعقيد أكثر للوضع السوداني وبصورة أكبر مما كانت عليه الحال قبل الحرب.
مواقف مجانية
اليوم، ربما أدركت بعض القوى السياسية، لا سيما أولئك الذين كانوا ينعتون أنفسهم بقوى التغيير الجذري، ترف ما كانت تعبر عنه من مواقف مجانية غير واعية بخطورة وهشاشة وضع السلم الأهلي قبل الحرب وأثناء الانقلاب، لكن يمكننا القول إضافة إلى ذلك، إن غالبية وازنة منها ينطوي تعبيرها السياسي على مجازفات كبيرة فيما تصر حتى اليوم على أداء سياسي غير مجد ومؤذ.
مأزق النخبة السياسية السودانية اليوم بفعل هذه الحرب أكثر انكشافاً من حيث هشاشته، لكن على رغم من ذلك ثمة قوى حزبية مازالت تنطوي مقاربتها السياسية على عقلنة وإدراك للمتغيرات وترحب بشراكة القوى السياسية في أي حل سياسي لما بعد الحرب.
تجاذب أجندات
وكشفت هذه الحرب التي كان اندلاعها مؤجلاً، أن هناك من داخل بنية جهاز الدولة السودانية العام من كان يتلاعب مع القوى الثورية عبر إدارة خبيثة للأدوار، عرفنا ذلك في لحظة فض الاعتصام في الثالث من يونيو (حزيران) 2019، ثم تجدد مرةً أخرى في انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 الذي قاده عبدالفتاح البرهان، وأخيراً بدا واضحاً أن اندلاع هذه الحرب هو الفصل الأخير لمحاولات حيازة السلطة العارية بالقوة بعد نفاذ أدوار التلاعب بالوقت وبالقوى الثورية التي كشفت عن هشاشة كبيرة في جبهتها، كما منحت بضعفها وعجز رؤيتها وانقساماتها الرأسية الحادة فرصة قاتلة لقوى الردة للالتفاف على ما أنجزته ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2019.