ملخص
الحفل الكارثي لترافيس سكوت بولاية تكساس الأميركية عام 2021 وشهد وفاة عشرة من الشباب والمراهقين اعتبره مصريون ضمن قرائن "عبادة الشيطان" وبناءً عليه إلغاء حفله... فما قصة عبادة الشيطان في مصر؟
"عبدة الشيطان يقيمون حفلات جنس جماعي ويشربون الخمر ويحرقون القرآن". "عبدة الشيطان يرتدون ملابس سوداء ويسمعون موسيقى (ميتال) لا سيما الـ(هارد) ويضعون مكياجاً وطلاء أظافر باللون الأسود". "عبادة الشيطان تقوم على ذبح الأطفال وشرب دمائهم وإقامة علاقات جنسية مع الحيوانات". "عبادة الشيطان هي الماسونية". "عبادة الشيطان هي الصهيونية". "الغرض من عبادة الشيطان تدمير العالم الإسلامي والعربي"، وفي أقوال أخرى "تدمير مصر".
"تدمير مصر" و"تدمير العالم الإسلامي أو العربي" هاجس يسيطر على أدمغة الملايين. هو خطر داهم يعتقد البعض أن جهات سيادية ومستقلة عديدة في الكوكب مسخرة لتفعيله. وفي القلب من وسائل التدمير "عبادة الشيطان"، هذه المنظومة أو العقيدة أو الثقافة أو الصرعة أو الطائفة الدينية التي تحولت إلى تهمة سابقة التعليب ينعت بها معارضون ويوصم بها مختلفون.
درء خطر الشيطان
اختلفت الآراء والمواقف الشعبية المتخذة في ضوء القرار الغريب الذي اتخذته نقابة المهن الموسيقية المصرية فجأة بإلغاء تصريح حفل مغنى الراب الأميركي المشهور ترافيس سكوت قبل أيام، الذي كان مقرراً له يوم 28 الجاري في مصر. الحفل –الذي نفدت تذاكره بالكامل بعد 15 دقيقة من فتح باب الحجز- أعاد عبادة الشيطان لبؤرة الاهتمام الشعبي بعد سنوات من آخر انتفاضة شعبية لدرء خطر الشيطان والوقوف في وجه عبدته وأتباعه ومن يقف وراءه ويدعم أفكاره، وذلك بحسب ما هو سائد في العرف الشعبي.
العرف الشعبي المصري يعرف الشيطان جيداً. إنه الشيطان الرجيم الذي ينسب له كثيرون كل فعل سيئ وكل تصرف خطأ وكل مشكلة تفرق بين صديقين أو حبيبين أو صديقين. وهو موضوع الدعاء في كل صلاة، حيث يدعو الجميع الله بأن يجنبهم وساوسه ويقيهم مخاطره ويحميهم من ألاعيبه. فهو مسؤول الشر الأول والمنوط به إفساد حياة الناس دنيا وآخرة، على حد إيمان الغالبية المطلقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الغالبية المطلقة من المصريين لا تعرف ترافيس سكوت، بمن فيهم القائمون على أمر نقابة المهن الموسيقية. قرار إلغاء حفل سكوت –الذي تم التدخل فيه لإيقافه من قبل جهات لم يتم تحديدها ثم تعلم الشركة المنظمة عن الإلغاء بعد فترة غموض- تم الإعلان عنه بهذه الكلمات، "تؤكد النقابة... ضرورة وضع الاعتبارات الأمنية والموافقات من الجهات المتخصصة على رأس الأولويات في ما يخص إقامة الحفلات، وذلك ضماناً وحماية لجموع الجماهير".
وبعد الإشارة إلى أن النقابة رحبت بألوان متعددة من الحفلات والفنون في الأشهر الأخيرة، جاء في بيان الإلغاء أنها حددت شروطاً وضوابط لـ"ضمان عدم المساس بالعادات والتقاليد الموروثة للشعب المصري"، وأنه "بعد استقراء واستطلاع آراء رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد ما ورد لنقابة المهن الموسيقية ونقيبها العام ومجلس إدارتها من أنباء تصدرت محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي، تضمنت صوراً ومعلومات موثقة عن طقوس غريبة لنجم هذا الحفل، يقدمها أثناء فقرته وتسخير أدواته من أجل إقامة طقوس تتنافى مع قيمنا وتقاليدنا المجتمعية الأصيلة قرر النقيب العام ومجلس الإدارة إلغاء الترخيص الصادر لإقامة هذا النوع من الحفلات الذي يتنافى مع الهوية الثقافية للشعب المصري".
الشعب المصري بقواعده العريضة وجموعه الغفيرة لم يكن يخطط لشراء تذاكر سكوت التي تراوحت أسعارها بين 6500 وأربعة آلاف جنيه مصري (بين 210 و130 دولاراً أميركياً). الفئة المحدودة التي سارعت لشراء التذاكر حتى نفدت في خلال دقائق لم تر أو تفكر أو يطرأ على بالها المسائل المتعلقة بـ"الهوية الثقافية للشعب المصري" و"القيم والتقاليد المجتمعية الأصيلة" و"التقاليد الموروثة للشعب المصري" و"الطقوس الغريبة لهذا المطرب" وغيرها مما ورد في بيان النقابة.
عقيدة "فاسدة"
أدهم حاتم (29 سنة) وأصدقاؤه ممن نجحوا في شراء تذاكر سكوت يمضون جزءاً كبيراً من وقتهم في الضحك والسخرية على ما يثار على منصات التواصل الاجتماعي من قبل كثيرين ممن تعاملوا مع مقولة إن حفلات سكوت جزء من معتنق عبادة الشيطان ويحضرها أتباع هذه العقيدة "الفاسدة المدمرة" التي تعمل على هدم الإسلام والمسلمين. وهو يشير إلى أن البعض في الولايات المتحدة –حيث عاش حاتم 10 سنوات كاملة- يعتقدون أن سكوت يمارس طقوساً شيطانية وأنه يهدف إلى هدم المسيحية والمسيحيين.
لكن القاعدة العريضة من المصريين –ممن لم تسمع عن سكوت إلا من خلال "السوشيال ميديا" حين أطلق بعض "حكمائها" أحكام عبادة الشيطان تارة واعتناق فكر "الأفروسنتريك" تارة أخرى مع توليفة من الصهيونية والماسونية – تعتبر هدم الإسلام وكسر شوكة المسلمين الوجه الآخر لعبدة الشيطان.
قصر البارون
الأكبر سناً استحضروا القضية المشهورة التي صدمت تفاصيلها كثيرين في عام 1997، وذلك في زمن ما قبل تطاير شرر المعلومات ونصف المعلومات. وقتها كان زمن القيل والقال مع إعادة التدوير وإضافة مزيد من قبل من الاجتهاد من قبل كل قائل. استيقظ المصريون ذات صباح على أخبار تتصدر الصحف مفادها أن عدداً من السكان في المنطقة المحيطة بـ"قصر البارون" في حي مصر الجديدة (شرق القاهرة) أبلغوا الشرطة بعدما ظلت موسيقى صاخبة تصدر عن القصر، الذي لم يكن مفتوحاً للزيارة في هذا الوقت.
الصحف ونشرات الأخبار من جهتها جودت وأضافت من عندها أن الموسيقى لم تكن فقط صاخبة، بل مخيفة ومرعبة. وتبرع المارة وشهود العيان الذين تحدثوا لوسائل إعلام بالقول إن ما جرى في القصر –الذي ارتبط في المخيلة الشعبية نظراً لمعماره الشبيه بأفلام الرعب وكونه مهجوراً منذ عشرات السنوات- كان "ولا في الخيال".
وعلى رغم أن كل شهود العيان الذين أدلوا بدلوهم حينئذ لم يروا ما جرى في القصر، لكنهم قالوا إن مجموعة الشباب والشابات كانت ترقص على وقع الأغاني المرعبة، ومارسوا الجنس بشكل جماعي وتناولوا المخدرات واحتسوا الخمور ودنسوا الكتب الدينية لا سيما القرآن الكريم وذبحوا الحيوانات وقدموها قرابين للشيطان الذي يعبدونه.
البلاك ميتال أدلة اتهام
وألقي القبض على الشباب والشابات وامتلأ أثير الإعلام بلقاءات إعلامية لأشخاص يروون ما جرى بناء على ما روي لهم، وفقرات مع خبراء علوم الاجتماع والنفس والتربية للحديث عن "الدين الجديد" الذي يهدد قيم الأسرة المصرية، والنتائج الخطرة الناجمة عن ترك الأبناء من دون رقابة الأهل وغيرها. بل ذهب البعض لدرجة عمل قوائم تساعد الأهل على معرفة إن كان الابن أو الابنة يعبدون الشيطان. وأبرز العلامات -كما جاء على ألسنة "الخبراء"- ارتداء الملابس السوداء، ووضع المكياج الغامق، والاستماع للموسيقى الصاخبة ولم تتردد "ميتال" كثيراً نظراً لعدم معرفة الغالبية بها، لكن ذاعت كلمة "بلاك" (بلاك ميتال) ربما لأنها أضافت قدراً مطلوباً من الإثارة.
الإثارة الأكبر جاءت من منطلق ضلوع عدد من أبناء وبنات فنانين وفنانات في المجموعة التي ألقي القبض عليها، وهو ما فتح أبواب فرع جديد من فروع توزيع الاتهامات حيث الفنانين والفنانات لا يربون أبناءهم وبناتهم، ويتركونهم في الملذات إلى آخر القائمة.
وعلى رغم أن التحقيقات الرسمية أثبتت أن المجموعة –التي يتم وصفها حتى اللحظة بـ"المتهمين"- لم تمارس طقوس عبادة الشيطان أو الجنس الجماعي أو تذبح الحيوانات، وإنها بحسب ما ورد في التحقيقات "ما فعلوه كان تقليداً لمظاهر أجنبية، وكل ما تم ضبطه شرائط كاسيت تحتوي على أغنيات كلماتها بعيدة تماماً عن مجتمعنا وعاداتنا"، إلا أن الهياج الشعبي توقف عند مرحلة "شباب مصريين يتشحون بالسواد ويعبدون الشيطان".
حتى الصحف التي نشرت نتائج التحقيقات والإفراج عن مجموعة الشباب والشابات تغاضت عن "البراءة" وعدم ثبوت أدلة "الاتهام" بعبادة الشيطان، وما زالت تشير إليهم بـ"المتهمين" وأغاني "البلاك ميتال" بأغاني الشياطين!
الوصم الثقافي
كما عكست الحوارات التي أدلى بها المحققون للإعلام وقتها ثقافة الخلط بين رفض مظهر وأسلوب حياة هؤلاء الشباب من جهة ووصمهم ثقافياً وأخلاقياً من جهة أخرى. وقال أحد المحققين في حوار صحافي نشر في ذلك الوقت، "أغلب هؤلاء الشباب بلا وعي ديني أو تربية. وعلى رغم عدم وجود عبادة شيطان في مصر، فإن هناك لا مبالاة وسوء تربية وتقليد أعمى وجهل".
وأضاف أنه لم يتم توجه تهمة للشباب والشابات، حيث القانون لا يعاقب على فكر ولن يعاقب على ترويج الأفكار التي تنطوي على تحقير وازدراء للأديان.
شكلت هذه القضية نواة الثقافة المصرية الشعبية في ما يختص بـ"عبادة الشيطان وعبدته". الأكثر إثارة هو أن عديداً من وسائل الإعلام التقليدية أخذت على عاتقها تقوية شوكة هذه الثقافة الشعبية، التي تعتبر عبادة الشيطان لوناً أسود وموسيقى صاخبة ووشماً. وكلما ظهرت صفحة على منصات "السوشيال ميديا" تجمع محبي موسيقى الـ"ميتال" أو أقيم حفل يرتدي رواده الملابس السوداء وبعضهم يزين جسده بالوشم (وهي الموضة المنتشرة بين البعض) تواترت التقارير الصحافية التي اعتبرها البعض تثقيفية أو توعوية عن عبادة الشيطان، وهي التقارير التي تعتبر هذا النوع من المعتنق ملابس وموسيقى فقط لا غير.
تقارير "تثقيفية"
"شعر طويل، وشم، ملابس غريبة، شفاه وأظافر مطلية بالأسود. يذيلون جملهم دائماً بـ"نحن الخادمون نفعل ما نؤمر به". يستمعون إلى الموسيقى الصاخبة لا سيما "ميتال". يميلون للإطلالات السوداء. شعرهم طويل غير مرتب. يكتبون عبارات بالدم على الجدران. يمارسون الجنس بشكل جماعي. يستخدمون رقم 666 كثيراً"، وغيرها نماذج لـ"خدمات" إعلامية تساعد القارئ على معرفة علامات عبادة الشيطان!
مثل هذه "الخدمات" تسهم في تقوية أواصر الثقافة الشعبية المكتسبة حول "عبادة الشيطان" ويتم استحضارها ما إن يقرر أحدهم نعت ممثل أو مطرب أو فرقة فنية تقدم عروضاً يعتبرها البعض غريبة أو غير مستساغة للذوق الشعبي، وهو ما جرى بالضبط في واقعة المطرب الأميركي ترافيس سكوت.
ولأن شر البلية ما يضحك، فقد واجه البعض تلك الأجواء "الشعبية" التي مزجت بين مطرب لم يسمعوا عنه من قبل وطقوس شيطانية واستنفار أخلاقي لحماية العادات والتقاليد وقيم الأسرة المصرية بمقاطع من حفلات شعبية "معتادة" تنافس ما يجري في حفلات يتم نعتها بـ"المخيفة" ووصمها بـ"عبادة الشيطان". هذه المقاطع تحوي أغنيات شعبية كلماتها بالغة الفجاجة والغرابة. أما الأجواء، فأقل ما يمكن أن توصف به هو "المريبة". تداول هذه المقاطع حالياً يأتي مذيلاً بعبارة ساخرة هي "هؤلاء خايفين (خائفون) من ترافيس سكوت!!"
البعد الطبقي في تناول حفل "ترافيس سكوت" واعتباره من قبل كثيرين "سفه الأغنياء" أو "فسق الأثرياء" والربط بين "التعليم الأجنبي" والتشبه بالغرب ونبذ العادات المصرية ومعاداة التقاليد الشرقية إضافة بالطبع إلى متلازمة البعد عن الدين واضح وصريح، لكن حين وصل "الشيطان" نفسه منطقة شعبية، تم التعامل معه شعبياً أيضاً بطريقة مختلفة تماماً.
استعراض عبدة الشيطان
في صيف عام 2021، قررت مجموعة من الشباب الاحتفال بنقل جهاز عروس في قرية أتميدة في محافظة الدقهلية (شمال مصر) عبر "استعراض عبدة الشيطان" الذي بات ذائع الصيت في حفلات شعبية!
استعان الشباب بأسطوانات غاز وطفايات حريق لعمل أشكال والرقص حولها، فما كان من الأسطوانة إلى أن انفجرت وانطلقت الأسطوانة المشتعلة في اتجاه المدعوين، وهو ما نجم عنه إصابة كثيرين وبينهم فتاتان أصيبتا بكسور في الجمجمة. وعلى رغم ذلك تم اعتبار الحادثة "مؤسفة" من دون إشارة للشياطين.
الشياطين حكر على سكوت. الحفل الكارثي الذي أقامه سكوت في ولاية تكساس الأميركية في عام 2021، وشهد وفاة 10 من الشباب والمراهقين وإصابة العشرات يعتبره متابعون مصريون ضمن قرائن "عبادة الشيطان". وعلى رغم أن التحقيقات أثبتت أن الاختناق والزحام الشديد تسببا في وفاة الشباب مع عدم وجود عدد كاف من المنظمين لمنع تكدس الحضور والضغط على الواقفين أسفل المسرح، ولم توجه اتهامات لسكوت نفسه باستثناء انتقادات شديدة لأنه استمر في تقديم الحفل رغم المأساة، إلا أن الوفيات يتم التعامل معها باعتبارها ناجمة عن طقوس عبادة الشيطان.