ملخص
يواظب فلسطينيون منذ عام 2015 على اعتبار الـ25 من يوليو كل عام يوماً تقليدياً للاحتفاء بالزي الفلسطيني تحت شعار "البس زيك مين زيك".
داخل قاعة معقمة بدرجة حرارة ورطوبة ثابتتين تمسك الفلسطينية براء بواطنة (35 سنة) المبضع والملقط بتركيز عال كأنها جراح داخل غرفة عمليات، فالثوب التاريخي الفلسطيني المطرز الذي تعمل على صيانته منذ أشهر عدة داخل المتحف الفلسطيني في بلدة "بيرزيت" (وسط الضفة الغربية)، يزيد عمره على 100، ويعتبر وثيقة تاريخية شاهدة على مراحل تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية شهدتها فلسطين في أوائل القرن الـ19.
خضعت بواطنة ومجموعة من المرممين الفلسطينيين إلى تدريبات متخصصة حول ترميم الأقمشة والأثواب التاريخية على مدار شهر خلال عام 2022 في متحف فكتوريا وألبرت في العاصمة الإنجليزية لندن، أحد أكبر متاحف العالم للفنون والتصميم، وهو ما أتاح لها فرصة التعامل مع أنواع مختلفة من الأقمشة والتدرب على صباغة وتحضير المواد الكيماوية، وممارسة الترميم الفعلي على أثواب من مجموعة المتحف الفلسطيني التي يعود أقدمها لـ1890.
مختبر نوعي
وأطلق المتحف الفلسطيني في الـ26 من يوليو (تموز) الجاري، مرافق جديدة متخصصة في حفظ وترميم وتخزين وتغليف الأقمشة والأثواب والمطرزات التراثية، التي تعد جزءاً حيوياً من التراث المادي الثقافي الفلسطيني، تضمنت مختبراً لترميم القماش التراثية هو الأول من نوعه في فلسطين الذي زود بالمعدات اللازمة للتكييف والتعقيم وتحضير المواد الحافظة اللازمة لصيانة وترميم مجموعة المتحف الدائمة التي تزيد على 300 قطعة تراثية، وكذلك المجموعات التراثية الخاصة بالمؤسسات والأفراد.
وقدم مدير وحدة المجموعات والترميم في المتحف الفلسطيني بهاء الجعية عرضاً حول مراحل تجهيز المختبر والمخزن والتدريب، موضحاً الأهمية الكبيرة لتجهيزها بما يخدم مجموعة الأثواب المحفوظة في المتحف، وأضاف أن "تبرع فلسطينيات من الخارج والداخل بمجموعات كبيرة ومميزة من الأثواب التراثية الفلسطينية التي ترمز لحقب زمنية مختلفة، أبرز الحاجة الملحة إلى ترميمها والحفاظ عليها بظروف بيئة ملائمة"، موضحاً أن "الترميم لا يهدف إلى تغير شكل الثوب أو إخفاء ما حل عليه عبر الزمن، وإنما للحد من الضرر الذي وقع عليه، وقد يظهر مكان الترميم بشكل مقصود كجزء يسرد تاريخ الثوب وما حل به".
وتبدأ عملية الترميم وفقاً لمتخصصين بتعقيم الثوب بمواد خاصة للتخلص من الحشرات ومن ثم تعريضه لدرجات حرارة متدنية دون الصفر لتنظيفه وتهيئته للتصوير الدقيق والتوثيق إلى أن يصل إلى مرحلة الترميم، في حين تركز عمليات التخزين على لف الأثواب في أوراق خالية من الحموضة داخل صناديق خاصة تحتفظ بدرجة حرارة ورطوبة ثابتتين.
برامج توعية
وتزامن افتتاح المرافق المتخصصة في بلدة "بيرزيت" التي جاءت بدعم من مؤسسة التحالف الدولي لحفظ التراث في مناطق النزاع (ألف)، مع إطلاق برنامج توعوي يقدم الإرشاد والتدريب للمؤسسات والأفراد المهتمين في مجال حفظ التراث المادي في فلسطين، إضافة إلى برنامج عام وتعليمي موجه للجمهور، يهدف إلى رفع الوعي حول الممارسات المثلى لحماية وحفظ التراث الثقافي الخاص بالمجموعات الإثنوغرافية (وصف الأعراق البشرية) والمطرزات في فلسطين، من خلال سلسلة من ورش العمل والمحاضرات والجولات التي أشار المتحف في بيانه إلى أنها ستعقد خلال الأشهر المقبلة، وكذلك إصدار دليل إرشادي خاص بترميم الأقمشة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمكن المتحف الفلسطيني عام 2021 من تشكيل مجموعته الدائمة الخاصة من الأثواب بعد حملة تمويل جماعي بعنوان "80 قصة وثوباً من الشتات للبلاد"، استعادت نماذج نادرة من الأثواب المطرزة من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وهولندا، التي عمل المتحف لاحقاً على تشخيص وضعها المادي وحاجتها إلى الترميم والتوثيق والتصوير، لتصبح في متناول الجمهور عبر موقع المتحف الإلكتروني.
وأوضحت مديرة المتحف عادلة العايدي أن افتتاح مرافق جديدة متخصصة في حفظ وترميم الأقمشة والأثواب والمطرزات التراثية، عزز بشكل عملي قرار "يونيسكو" لعام 2021 الذي نص على إدراج التطريز الفلسطيني ضمن لائحة التراث الثقافي العالمي غير المادي، مشيرة إلى أنه "تمهيداً لتنفيذ مشاريع مستقبلية تهدف إلى نشر المعرفة حول الأثواب الفلسطينية وأهمية ترميمها وعرضها في إنتاج روايات عن تاريخ فلسطين وثقافتها ومجتمعها بمنظور جديد، أجرى المتحف في مطلع العام الماضي مسحاً ميدانياً لمجموعة كبيرة من القطع التراثية، وصل عدد الأثواب منها إلى 5 آلاف ثوب، يحتفظ بها أفراد ومؤسسات أهلية في المنطقة العربية".
هوية وطنية
وبناء على توصية وزارة الثقافة الفلسطينية، وقرار مجلس الوزراء الصادر عام 1999، يحتفل الشعب الفلسطيني في الـ27 من أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام بيوم التراث الفلسطيني، بهدف الحفاظ على هوية وتراث فلسطين من محاولات طمسه ونسيانه وتهويده.
وبعد أن نشرت وسائل إعلام إسرائيلية مرات عدة صوراً لعارضات إسرائيليات ومضيفات بشركة الطيران الإسرائيلية (العال) وهن يرتدين الزي الفلسطيني على أنه جزء من التراث اليهودي، يواظب فلسطينيون منذ عام 2015 على اعتبار الـ25 من يوليو من كل عام يوماً تقليدياً للاحتفاء بالزي الفلسطيني تحت شعار "البس زيك مين زيك"، إذ يرتدي الرجال فيه الزي التقليدي المعروف باسم "القمباز" وهو عبارة عن رداء طويل بقماش مقلم يحيط به حزام جلدي وتعلوه كوفية على الرأس، فيما ترتدي النساء أثواباً مطرزة.
ويتخلل الاحتفال بهذا اليوم إقامة مهرجانات في مختلف المدن الفلسطينية تتضمن أغاني تراثية قديمة وعروضاً كشفية، إضافة إلى عروض بالثوب التراثي ونقش الحناء والعرس الفلسطيني، وكذلك الدبكة الشعبية على أهازيج وأغاني شعبية.
وفي عام 2018 اعتمد الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشكل رسمي هذا التاريخ يوماً وطنياً للزي الفلسطيني، يرتدي فيه الفلسطينيون والمساندون لقضيتهم حول العالم الزي التقليدي.
ويرى رئيس جمعية الزي الفلسطيني الخيرية عزام أبو سلامة أن "تنظيم هذا الحدث سنوياً يهدف إلى توثيق علاقة الشعب الفلسطيني بأرضه وهويته الثقافية والتاريخية، والحفاظ عليها من محاولة السرقة والتزوير".
من جهتها قالت اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم عبر صفحتها الرسمية على "فيسبوك" إن "الفعاليات والنشاطات التي تسلط الضوء على الزي الفلسطيني التقليدي تعزز الوعي لدى الناس بأهمية الحفاظ عليه باعتباره تراثاً ثقافياً ورمزاً للهوية الفلسطينية، وفرصة للفلسطينيين للتعبير عن فخرهم به وتعزيز الوعي بقضيتهم".
تسليع التطريز
ومع الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي حلت على الفلسطينيين بعد النكبة عام 1948، بات التطريز الفلسطيني وفقاً لكثيرين حرفة آلاف من النساء لإعالة أسرهن وبشكل خاص داخل القرى والمخيمات، إذ يطرز أغلبهن من البيوت الوسائد والأثواب والسترات والشالات، وكذلك الحقائب ومفارش الطاولات وأطواق الشعر واللوحات وساعات الحائط وغيرها، لصالح تعاونيات أو متاجر أو جمعيات مختلفة في مقابل أجور متدنية، مما أدى إلى تحول حرفة التطريز من عمل مدفوع بالحب إلى رمز بصري للقضية والثورة، ثم إلى منتج ثقافي واستهلاكي، غير نموذج التطريز وأشكاله وألوانه والقطب المستخدمة، وفقاً لمتطلبات السوق والتجار.
وأشار كتاب "الصناعات التراثية في الأراضي الفلسطينية" لمؤلفه مهند حامد إلى أن "هذه المبادرات والجمعيات النسوية التعاونية وفرت للنساء دخلاً يعد زهيداً قياساً بالجهد المبذول، لكنها أسهمت أيضاً في تسليع أعمال التطريز الفلسطيني، وباتت هذه المنتجات بكل مستويات جودتها يقتنيها الأثرياء الفلسطينيون للتعبير عن تضامنهم مع قضية وطنهم أو لإبراز الهوية الوطنية".
وفيما تغرق المحال التجارية بالأقمشة والأثواب المطرزة الجاهزة بأسعار في متناول الجميع ويهيمن انتشارها على هيئة سلع تجارية، يرى فلسطينيون أن هذا لم يؤد إلى انقراض الثوب المطرز بل إلى خلق سبل جديدة للحفاظ على التطريز، عبر دمجه بعديد من المقتنيات والمشغولات التي تتسم في معظمها بألوان ونقوش مبتكرة، مما شجع كثيرين على امتلاكها واتساع ظاهرة الاهتمام بالتراث.