الأحداث الأخيرة التي عصفت بمدينة عدن اليمنية، منذ تعرضها لعمليات إرهابية استهدفتها من قبل الحوثيين وجماعات القاعدة، ورد فعل القوى الجنوبية التي سارعت إلى السيطرة على المواقع الحكومية وإعلان نواياها بإقامة سلطة جنوبية تعمل على مواجهة الإرهاب من ناحية، ومساندة التحالف العربي من ناحية ثانية، دفعت بالمراقبين والمتابعين من واشنطن إلى إعادة النظر في تطور السياسات تجاه اليمن، سواء كانت في منطقة الشرق الأوسط أو في الولايات المتحدة الأميركية.
وفي عودة إلى بضع سنوات إلى الوراء نرى أن أولويات أميركا وحلفائها العرب تجاه اليمن تحدّدت على الشكل التالي:
منذ الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصولاً إلى السنوات الأخيرة، ركزت الإدارات الأميركية المتعاقبة على موضوع مركزي في اليمن هو خطر القاعدة، وجاء بعده خطر تنظيم "داعش". فالجميع في واشنطن يذكر مؤامرات أنور العولقي زعيم القاعدة في اليمن، الذي أقدم على استهداف الولايات المتحدة. ومنذ تلك العمليات الإرهابية قررت واشنطن القيام بعمل دؤوب يتركز على ضرب وجود القاعدة في اليمن. وحالياً، أضافت إلى أجندتها استهداف أي وجود لـ "داعش".
وخلال حقبة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لم تتدخل الإدارة مباشرة في الحرب التي اندلعت بين القوى المؤيدة لإيران، ودول التحالف العربي وعلى رأسها السعودية والإمارات. ومن بين الأسباب التي دفعت الإدارة السابقة إلى عدم التدخل إلى جانب حلفاء واشنطن العرب ضد الحوثيين، كان الاتفاق النووي الإيراني الذي كبّل السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط إلى حدّ أن واشنطن كانت تضغط على حليفتيها الرياض وأبو ظبي من أجل وقف تدخلهما في اليمن ضد تنظيم اعتبرته واشنطن في ما بعد تنظيماً إرهابياً.
ومع انتخاب الرئيس دونالد ترمب تغيرت السياسة الأميركية بشكل عام ولو بسرعات متفاوتة. فأجندة واشنطن لدى اليمن لم تتغير كثيراً، خصوصاً أن أولويات ترمب كانت ولا تزال إيران في سوريا والعراق وأماكن أخرى.
في هذا الوقت استمرت الأجهزة الأميركية بمتابعة مباشرة لتحركات القاعدة واستهدافها بشتى الوسائل من دون الانغماس في الحرب الدائرة بين التحالف العربي وقوى الشرعية من جهة، والجماعة الحوثية من جهة ثانية. وجدير بالذكر أنه حتى في ظل إدارة ترمب، فإن قوة اللوبي المؤيد لإيران ومعه اللوبي القطري الإخواني تصاعدت داخل الكونغرس بعد انتصار الديمقراطيين في انتخابات مجلس النواب، ما أدى إلى صدور مشاريع قوانين لإرغام الإدارة على وقف الدعم للسعودية والإمارات في حربهما ضد الحوثيين. لكن ترمب لم يرضخ للضغوط، وفي المقابل لم يصدر أي موقف حاسم إلى جانب التحالف في المعركة.
الحوثيون استفادوا من إطالة أمد حملة التحالف ضدهم، وغياب أميركا. فحصلوا على أسلحة من إيران أهمها طائرات الدرون، والصواريخ الباليستية التي استخدموها ضد أهداف في العمق السعودي وهددوا باستخدامها ضد الإمارات.
إلى جانب الميليشيات المدعومة من إيران، استفادت جماعة الإخوان المسلمين من عدم التعبئة الأميركية إلى جانب التحالف، فنظّمت صفوفها في اليمن عبر تنظيمات محلية وعلى رأسها حزب الإصلاح، وتموضعت إلى جانب الحكومة الشرعية زاعمة أنها تواجه الحوثيين، بينما في الواقع حشدت قوتها لتنفذ سياسات أخرى عبر السيطرة على أجزاء من اليمن الشمالي ومناطق ما كانت تعرف بدولة اليمن الجنوبي.
كانت ميليشيات الإخوان تحتمي في ظل التحالف، بينما كان إعلامها يهاجم السعودية والإمارات، ولوبياتها في واشنطن تهاجم التحالف. وفي تلك السنوات كانت هناك أزمة سياسية أخرى عنوانها الحراك في الجنوب الهادف إلى إقامة سلطات ذاتية في دولة اليمن الجنوبي. وللمفارقة شاركت قواته في الدفاع عن اليمن الموحد لا سيما بعد وصول الحوثيين إلى أبواب عدن، وأوقفت تمددهم عندما كاد اليمن الشمالي أن يختفي عن الخريطة، وضربت ألوية العمالقة التابعة للحراك بقوة، وتمكنت من تحرير الساحل الغربي بمساعدة التحالف، وطرد الحوثيين حتى تعز.
غير أن قمة التعقيدات ظهرت بعد رؤية الجنوبيين قواتهم وهي تحرر مناطق اليمن الشمالي بينما الميليشيات الإخوانية تحاول اختراق مناطقهم. وفي ظل غياب السياسة الأميركية بفعل انشغال واشنطن بملفات أخرى، وعدم قدرة التحالف على فتح معركة أخرى قبل الحسم مع الحوثيين، قامت قوات الجنوب وبجهود ذاتية بطرد ميليشيات الإخوان، التي كانت تحتمي بصفة الشرعية، من عدن، فطالبت الرياض بشكل حازم بوقف إطلاق النار وفتح حوار سريع بين المجلس الانتقالي الجنوبي وحكومة عبد ربه منصور هادي. أما واشنطن فلم تصدر أي بيان إستراتيجي لأنها تنتظر النتائج على الأرض في الجنوب وأيضاً نتائج الحوار الرباعي الذي يضم حكومة عبد ربه منصور هادي والمجلس الانتقالي والسعودية والإمارات.
مع توالي الأحداث بات واضحاً هنا أن الإستراتيجيات الماضية لم تنجح في اليمن بالسرعة المطلوبة، وبالتالي ما يجب العمل عليه رسم إستراتيجيات جديدة تعمل على الخروج من المواجهة في الجنوب وحشد طاقات جميع الأطراف لتحرير الشمال من وجود إيران العسكري. وهذا يمكن إنجازه عبر اتفاق بين الجنوبيين وحكومة هادي يجري على إثره تنسيق كامل بينهما واعتبارهما عضوين أساسيين في التحالف العربي إلى جانب السعودية والإمارات. فميدانياً، من المفضل أن يقوم الجنوب بالدفاع عن نفسه ضد القاعدة و"داعش" وتجريد الإخوان من سلاحهم، بينما تقوم حكومة هادي وجيشها بالتركيز على تحرير اليمن من ميليشيات إيران. وهذا الأمر يضمن حصولها على دعم لا محدود من الجنوب، وتتحوّل الخصومة إلى تحالف قائم على الاعتراف المتبادل، مما يؤدي إلى إراحة السعودية والإمارات. ولعلّ أزمة عدن تقلب الموازين وتسهم في تحقيق نجاح إستراتيجي سريع.