لم تكن الأستاذة الجامعية وصاحبة جمعيةRescue Me Crime Prevention مايا يموت، وهي لا تزال طالبة في الجامعة، مدركةً أنها ستحقق يوماً إنجازاً فريداً من نوعه، يحمل طابعاً اجتماعياً في بلدها لبنان. إلا أن إيمانها وقناعتها بـ "التغيير وبأن باستطاعة الفرد أن يُحدث نقلة نوعية في مجتمعه ولو بخطوات بطيئة"، كانت متجلية بوضوح وهي لا تزال شابة.
تحويل الحلم إلى حقيقة
روت يموت لـ "اندبندنت عربية" تجربتها التي خاضتها عام 2010، عندما كانت في الجامعة وكانت لديها محاضرة حول "تأهيل أوضاع المساجين والسجون"، وإذ بها تبادر بحماسة إلى اقتراح فكرة استبدال عقوبة السجن بتدبير اجتماعي لصالح "المنفعة العامة". حينها، أُعجبت بالفكرة الدكتورة المسؤولة عن هذه المادة وشجعتها "بشكل ممازح" على تقديم اقتراحها إلى مجلس النواب.
وبعد عام على تخرجها، حملت يموت دراستها إلى المجلس النيابي وهناك التقت أمين سر لجنة الإدارة والعدل فريد محمود، الذي "وقف إلى جانبها"، وقالت "عمل محمود عن كثب على متابعة هذا المشروع وساعدني في صياغة النص لتتحول الفكرة إلى اقتراح قانون يتضمن أسباباً موجبة وعدداً من المواد".
وفي السنة ذاتها من شهر مايو (أيار)، عرضت يموت قانونها على عدد من النواب من كتل نيابية مختلفة، فتبنّوه وقدموه بدورهم إلى المجلس النيابي. وبعد مكوثه في الأدراج ثماني سنوات، تبنّاه النائب الكتائبي سامي الجميل وقد وقّع عليه إلى جانب عدد من النواب هم: النائب السابق علاء الدين ترو وأنطوان سعد وزياد القادري وعلي خريس وعلي بزي وأمين وهبي وغسان مخيبر.
وقالت يموت "بعد ثماني سنوات من المتابعة والضغط، وبعد الوصول إلى إقرار هذا القانون، أدركت أن قناعتي ما لبثت أن تحولت إلى حقيقة وألاّ شيء مستحيل طالما هو نابع عن إصرار ومثابرة".
القانون لم يبصر النور نتيجة مخاض يموت الطويل من العمل الاجتماعي داخل السجون فحسب، بل أيضاً جاء في الوقت المناسب في ظل التّخبطات المالية والاقتصادية التي كانت ولا تزال تعصف بالبلاد في الفترة الأخيرة. وبحسب يموت "سيعمل على توفير أكثر من مليوني دولار أميركي في السنة من خزينة الدولة، التي تشمل التكاليف الواجب تأمينها للمساجين"، معتبرةً أنها "خطوة متكاملة مع إقرار موازنة عام 2019، إذ لها أبعاد إصلاحية".
تدبير المنفعة العامة للجميع؟
وفي حديث خاص، أوضح النائب علي بزّي لـ "اندبندنت عربية" أن "هذا القانون، وعملاً بكثير من الدول والأنظمة في العالم، يتّخذ بُعداً اجتماعياً للعقوبة، إذ يستبدل عقوبة السجن أو العقوبة الجنائية بتدبير اجتماعي يعمل على دمجهم داخل مجتمعهم وينمّي لديهم حس الانتماء".
وشرح بزّي إيجابيات هذا القانون، قائلاً إنه "يعمل على تعويض المال المدفوع للمساجين والسجون، الذي تتكلف به الدولة من خزينتها، من خلال عقوبة المنفعة العامة التي تسهم في الوقت عينه بالتخفيف من الضغط داخل السجون".
وعن موضوع الفوضى العارمة داخل الأربعة جدران، أكدت يموت "ضرورة تجنب إدخاله إلى السجن، خصوصاً أن حالة السجون يُرثى لها وذلك بسبب الاكتظاظ وقلة التنظيم"، موضحة أن "القانون اشترط أن يكون تدبير المنفعة العامة مرتبطاً فقط بالجنح غير الشائنة أو تلك التي لم يمر عليها سنة أو أكثر من العقوبة، كونها حصلت عن غير قصد أو من دون نية للأذية".
وبناء على ذلك، لا يوجد أي خطر في دمج "مرتكبي الجريمة غير الشائنة" في المجتمع.
بدورها، أكدت المستشارة القانونية للنائب سامي الجميل لارا سعادة، في حديث لـ "اندبندنت عربية" أن "التجارب العالمية التي اعتمدت العقوبة البديلة، أثبتت أن نسبة تكرار الجريمة عند وضعها في إطار المنفعة العامة هي 30 في المئة، مقارنة بعقوبة السجن التي بلغت نسبتها 60 في المئة، وبالتالي من مصلحة وزارة العدل وقوى الأمن وكل المعنيين، الذين يعملون على هذا الملف، اتّباع هذه الطريقة ليصبح المجتمع أكثر أماناً، منعاً لتكرار هذه الجريمة".
فوائد التدبير على الفرد والمجتمع
عقوبة المنفعة الاجتماعية لها فوائد عدة على المجتمع والفرد، لذلك رأى الاختصاصي في العمل الاجتماعي الدكتور رائد محسن أنها "تعمل على تطوير مفهوم العدالة في لبنان وتعطي المرتكب فرصة تجنِّبه التداعيات النفسية التي تنتج من السجن. كما أن هذه الخطوة تعزله عن الاختلاط بمجرمين كبار أو مجموعات مؤذية، فإذا كان جرمه شيكاً بلا رصيد، سيكون عُرضة لجرائم كبرى خلال مكوثه في السجن، كارتكاب جرم تبييض الأموال فور خروجه، لذا فوائدها تكمن بالتخفيف من هذه الحالات لتشمل الجميع وليس المحكوم عليه فقط".
وعن آثارها على الفرد قبل المجتمع، اعتبر محسن أن هذا التدبير "سيسهم في تلقينه الإنتاجية، إلا أنها تختلف من عقوبة إلى أخرى"، مشدداً على "أهمية أن تتوسع هذه المادة لتشمل حتى المجرمين، خصوصاً أن عقوبة الإعدام لا تطبق اليوم في لبنان، فهي إما عقوبة مخففة أو محكوم عليه بالمؤبد".
وعما إذا سيشكل هذا الاقتراح خطراً على المصلحة العامة، أوضح محسن أنه "في ظل وجود مجرمين قاتلين، على إدارة السجون ووزارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية أن تجد طريقة ما كي يكون الشعار كل سجين منتج ولكن شرط أن تذهب إنتاجية هذا السجين إلى أهل الضحية أو عائلته".
وأكد أنه "لا يُفترض أن تكون هناك تداعيات سلبية على مجتمعه، إذا كانت هناك دراسة صحيحة للقانون".
ثغرات في القانون
وعلى الرغم من إيجابيات هذا القانون على المجتمع، إلا أنه في حاجة إلى تعديل في بعض بنوده وأبرزها تلك التي تتعلق بعدد ساعات العمل. وأشار بزي إلى أن "الحيّز الأكبر الذي دار خلال النقاش في اللجان المختصة، هو حول موضوع عدد ساعات العمل التي حُددت بثماني ساعات في اليوم والتي اعتبرها البعض كثيرة وغير منصفة".
وفي حديث مع المشرف على مديرية السجون القاضي رجا أبي نادر، كشف عن وجود "مشكلة في المادة 2 من القانون، إذ تحتسب مدة عقوبة العمل الاجتماعي بثماني ساعات عمل عن كل يوم"، معتبراً أنها "مشكلة أسوأ من عقوبة السجن".
وأوضح أبي نادر أن "ساعات العمل ستكون 2160 ساعة خلال تسعة أشهر وهي تُعد سيئة، ففي البلدان المتطورة كفرنسا، الحد الأقصى الذي يمكن أن يفرضه القاضي هو 400 ساعة، تُقسّم ضمن سنة ونصف السنة، أما في بريطانيا 200 ساعة خلال المدة الزمنية ذاتها"، لافتاً إلى أن "الهدف منها هو الحفاظ على حياته الاجتماعية، من دون إلحاق الأذى أو التأثير سلباً في مركزه في العمل أو في دراسته في الجامعة".
أما عن باقي الثغرات، اعتبر أبي نادر أنها تحد من فعالية النص ليصبح غير قابل للتنفيذ، مشيراً إلى أن المادة الأولى نصت على التالي "السجن لمدة لا تتجاوز السنة في الجنح غير الشائنة إذا قضي بها أساساً أو بعد التخفيف، أو بعد تطبيق العقوبات المخففة بموجب قانون حماية الأحداث"، متسائلاً "لم نفهم هنا لماذا هذا القانون المتعلق بالمنفعة العامة للراشدين، تطرّأ إلى موضوع الأحداث أو الأشخاص دون سن الـ 18 وهو قانون موجود منذ سنة 2008 ويوجد خلاله تدبير للمنفعة العامة؟ لماذا نخلط ونتطرأ لقانون ثان يرعى قانوناً خاصاً ويرعى الأحداث ويهتم بشؤونهم تحت اسم قانون حماية الأحداث؟"، مؤكداً أن "هذا الأمر سيشكل ضياعاً في المحاكم".
كما علق أبي نادر على "البند رقم 3 من المادة الأولى الذي ينص على إخضاع المحكوم عليهم بغرامة مالية، إلى الحكم بالمنفعة العامة"، مستغرباً هذه الخطوة. واعتبر أن "التدبير وُجد ليحل مكان عقوبة السجن لنحافظ على هذا الشخص ولنعزز انتماءه في مجتمعه، وليس للهروب من دفع الغرامة المالية التي فرضها عليه القاضي لأنه ارتكب جرماً".
تغرات
كما شدد على "ضرورة ذكر ما إذا كان مرتكب الجريمة محكوماً عليه مسبقاً، لأنه لا يمكنني أن أحكم عليه بالمنفعة العامة وأن أدعه يندمج مع المجتمع وهو يحمل في سجله جرماً ثانياً، وهذه إحدى الثغرات التي تحد من فعاليّة النص".
وقال "أردت أن أثير بعض النقاط لأن لبنان في حاجة إلى هذا القانون ومن المعيب أن يصدر بهذه الطريقة"، مطالباً بـ "وجود ممثلين عن وزارة العدل واختصاصيين خبراء في جلسات اللجان، لدراسة هذا المشروع بطريقة فعّالة".
القانون "ليس مقدساً" بحسب النائب بزي، "وهو قابل للتعديل إذا كان يحوي بعض الثغرات التي تعيق تنفيذه". من جهته، رأى الدكتور محسن أن "تحديد نوع المنفعة العامة لا يزال مبهماً"، قائلاً "لا يمكننا أن نطلب من شخص جريمته الاعتداء على الأطفال، أن يعمل في مخيم للأطفال، ومن المهم جداً أن نعي أهمية أن يكون هذا المجرم غير محكوم عليه مسبقاً، أي أن سجله العدلي خال من الشوائب".
وأضاف أن "دمج مرتكبي الجنح غير الشائنة في المجتمع يعتمد على نوعية الجرم، ويجب أن تكون هناك متابعة حثيثة من خلال وجود عاملين اجتماعيين، وهنا يكون دور وزارة الشؤون الاجتماعية بتقديم المساعدين والمساعدات الاجتماعيين عبر تخصيص ميزانية لهم".
الحلول المقترحة لتفعيل القانون
خلاصة الموضوع، ليكون العمل بالمنفعة العامة منتجاً فعلاً من الضروري والأهم بحسب القاضي أبي نادر، أن يكون هذا التدبير "مقبولاً ومحفزاً لمرتكب الجريمة، إذ عليه أن يتحمس له وأن يعمل على إصلاحه كفرد على المدى البعيد".
فبحسب المادة رقم 5 من القانون، الجهة التي ترفع التقارير إلى القاضي حول التزامه بعمله ليست موجودة، لذا طالب القاضي أبي نادر بـ "فتح مجال لرقابة إضافية ملحقة بالقاضي ومن قبله، لملاحقة الشخص المحكوم عليه بالتدبير، ليرى مدى جديته والتزامه بعمله على الأرض".
وتبقى هذه الثغرات وسواها "قابلة للمعالجة"، إلا أن مسألة عدد الساعات هي "الأهم"، إذ يتطلب البدء بـ "معالجتها فوراً ليصبح القانون نافذاً".