ملخص
اعتمد الانقلابيون في خطابهم على دعوات التظاهر كدليل على السند القبلي والشعبي المناصر للقيادة الجديدة والانقلاب يؤجج من سياسات الحرب الباردة الجديدة
جاء انقلاب النيجر والجوار الإقليمي مشغول بظروف عديدة، ليوظف المتمردون الواقع المحيط بكل معطياته، فهل يستطيع الوضع الجديد أن يفرض مكانة للنيجر في ظل ما تواجهه من ضغوط؟ وما العوامل المساعدة في ذلك؟ وإلى أي مدى يبلغ التأثر المتبادل مع الجوار القبلي الإقليمي؟
بجانب عوامل عديدة وراء انقلاب النيجر يوظف البعد القبلي كفاعل ضمن الصراع الذي طاول النيجر، الذي استولى فيه الانقلابيون العسكريون على السلطة في نيامي نهاية يوليو (تموز) الماضي. وكان الجنرال عبدالرحمن تياني الملقب بعمر تشياني الذي عينته سلطة الانقلاب زعيماً جديداً للنيجر تولى قيادة الحرس الرئاسي منذ 2011، ومنح رتبة الجنرال في 2018. وأرجع تشياني سبب الاستيلاء على السلطة إلى عديد من المشكلات التي تعانيها بلاده كانعدام الأمن والفشل الاقتصادي والفساد وأمور أخرى، كما جاء في البيان الأول للانقلاب.
واقع وتراجع
ينتمي محمد بازوم الرئيس المطاح به إلى عرب النيجر الذين يمثلون ما يقدر بنسبة 1.5 في المئة تقريباً من السكان (إحصاء 2006)، ويعرف العرب في النيجر باسم (عرب ديفا) أو عرب المحاميد، وتشير المصادر إلى إطلاق الاسم على قبائل البدو العرب في شرق النيجر الموجودين في منطقة ديفا، ويقال إن معظمهم من البدو الرحل السودانيين إلى جانب وجود آخر لهم في تشاد وليبيا.
وكان بازوم فاز برئاسة النيجر في انتخابات مارس 2021 على منافسه ماهمان عثمان، الذي يعد أول رئيس منتخب في النيجر (1993-1996) والمنحدر من قبيلة الهوسا، كبرى قبائل النيجر التي تمثل نحو 50 في المئة من إجمالي السكان المقدر عددهم حالياً بـ27 مليون نسمة. وعلى رغم نجاح بازوم في الانتخابات شكل فوز ماهان عثمان في ثلاث مقاطعات استراتيجية في الجنوب الغربي، على رأسها مدينة نيامي العاصمة نقطة ضعف لبازوم، وكان هذا ما فسر به مراقبون رفض وعدم تقبل أنصار عثمان هزيمة مرشحهم، وكمؤشر سالب تجاه مستقبل نظام بازوم.
ضمن قرائن وحيثيات عديدة يرجع المراقبون الفشل في استمرارية النظام الديمقراطي الذي حققته النيجر عام 2021، إلى جانب التأثر بحيثيات الظروف الإقليمية في موجة الانقلابات التي ضربت منطقة غرب أفريقيا خلال السنوات الأخيرة وأطاحت حكومات في دول مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو، إلى البعد القبلي الذي تمثله القبائل الأخرى غير العربية.
لاحقاً اتضح تراجع شعبية نظام بازوم في حجم المناصرة الشعبية التي لقيها الانقلاب من مجموع قبائل متباينة ممثلة في أعداد المواطنين الذين أظهروا تأييدهم للانقلاب، ليعتمد خطاب القيادة الجديدة على هذا التأييد في تكراره الدعوات إلى التظاهرات الشعبية ضد ما يصفه المجلس العسكري بالتدخل الخارجي.
كما أعطى تحذير سلطات كل من بوركينا فاسو ومالي في بيانهم المشترك للحيلولة دون تدخل عسكري مناصر لبازوم بعداً إقليمياً مهماً، وكان البيان المشترك للدولتين الجارتين الذي صدر من العاصمتين واغادوغو وباماكو جاء بعد تلويح قادة دول غرب أفريقيا باستخدام القوة في اجتماعهم الذي عقدوه أخيراً بالعاصمة النيجيرية أبوجا.
ويدلل المراقبون عبر هذه الوقائع وفي ظل ما تشهده الأحداث الجارية من تطورات كدلالة على حجم ما تعانيه منطقة الساحل من إشكالات لا يزال فيها طموح النظام الديمقراطي المستند على الانتخابات حلماً بعيد المنال في التركيبة القبلية والإقليمية للمنطقة.
الهوسا
تمثل النيجر واحدة من أهم أقطار الساحل الأفريقي بعدد سكان يناهز الثلث لمجموع 80 مليون نسمة هي تعداد سكان دول الساحل الخمسة (بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر)، وتشكل قبائل الهوسا النسبة الغالبة في سكان النيجر إلى جانب كل من قبائل الجرما والطوارق والفولاني والصنغاي والكانوري والتبو والعرب، وتنحدر السلالة العربية كما أشرنا أساساً من عشيرة المحاميد فخذ قبيلة الرزيقات، والمنتشرين في إقليم دارفور بغرب السودان وكل من تشاد وليبيا.
تهديد أمني
تقول نجوى عابر أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر "يطلق اسم الساحل الأفريقي على الإقليم الواصل بين شمال أفريقيا أو ما يعرف بأفريقيا البيضاء (المغرب العربي) شمالاً وأفريقيا السوداء جنوباً. وقد تحمل تسمية الساحل دلالة على الخط الحدودي الذي يفصل بين البحر المتوسط وأفريقيا ما وراء الصحراء، وهي منطقة شبه جافة ذات سمات طبيعية وبشرية وحضارية متشابهة، تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً لتشمل السنغال وموريتانيا والنيجر ومالي وبوركينافاسو وأجزاء من نيجيريا إلى جانب تشاد انتهاء بالسودان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف عابر "عملياً يشمل مجال دول الساحل خمس دول هي موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، في منطقة عرفت بـ’قوس الأزمات الساحلي‘، إذ تلتقي الكتل الجيوسياسية الكبرى، وهي المغرب العربي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ومنطقة البحيرات الكبرى والقرن الأفريقي".
وتحدد الدراسات نطاق دول الساحل بنحو 5.4 مليون كيلومتر مربع، وهي تمثل تجمعاً بشرياً يقارب تعداده 80 مليون نسمة، يتوزعون بين دول فقيرة تعيش وطأة الفقر والصراعات الإثنية، والإرهاب، فضلاً عن أزمات سياسية ما بين انعدام الشرعية والعجز الحكومي وارتفاع مؤشرات الفساد المالي والاقتصادي.
ويشير المراقبون إلى تصنيف المنطقة خلال العقدين الماضيين كمنطقة تهديد أمني بسبب عدم قدرة الدول على السيطرة والتحكم على مناطقها خصوصاً الريفية منها، التي تنتشر فيها تجارة المخدرات والأسلحة.
وتوصف منطقة الساحل كذلك بمنطلق تفاعل بين شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء لمختلف أوجه التعاملات الشرعية وغير الشرعية، كما توصف كونها بيئة للإرهاب والصراعات وعمليات الاتجار بالبشر والمخدرات، إلى جانب عدم الاستقرار السياسي الذي تعانيه المنطقة أصلاً جراء الانقلابات المتعاقبة، وأفضت التدخلات الخارجية إلى مزيد من عدم الاستقرار ومشاعر كراهية متراكمة ضد الدول الغربية.
هذه العوامل مجتمعة تجعل من الصعب التحكم في كثير من أجزائها، كما يمثل عامل التداخل القبلي الذي تشترك فيه دول المنطقة في عدد من القبائل كالطوارق والعرب والهوسا أيضاً عاملاً غير مساعد للاستقرار في حيثيات الأطماع والتنازعات والتفلتات والتنقلات غير المنظمة للأهالي والتأثيرات المترتبة عن كل ذلك.
يؤكد مراقبون إقبال المنطقة على لعب مزيد من الأدوار الخطرة والمحتملة مستقبلاً ضمن تضاعف أعداد السكان المتوقع بلوغهم 200 مليون نسمة بحلول 2050، ويصف مراقبون الواقع بالمتغير لمزيد من التعقيدات بفعل العوامل المحلية والمتمثلة في الفقر واستغلال الجماعات المتشددة للواقع المعاش.
وأعطت الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" (الجنجويد) المحسوبة على قبيلة المحيميد المنتمي إليها قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو المشهور بـ"حميدتي" مثالاً حياً على واقع المنطقة، وخطورة الانفلات الأمني بها وما يترتب من أضرار.
فقد مناصرة
وفق ما أشرنا إليه يوصف انقلاب النيجر كونه إضعافاً لقوى "عرب الساحل" في فقدهم مناصرة سياسية بعد سقوط السلطة في النيجر، ويتوقع بعضهم تأثيرات قبلية تزيد من حجم تعقيدات المنطقة، أقلها هجرات مجهولة العواقب.
يقول المحلل السياسي السوداني عبدالله إبراهيم في قراءته لتأثر الإقليم بانقلاب النيجر "على عكس ما يتوقعه كثيرون، فإن انقلاب النيجر ضد الرئيس محمد بازوم سيضع البدو من عرب النيجر الذين استوطنوا وديان وبوادي كتم في شمال دارفور أمام خيار واحد فقط وهو عدم العودة للنيجر، بل وسيهاجر آخرون من النيجر نحو السودان وأماكن أخرى". ويضيف "فما حدث في النيجر ليس انقلاباً عسكرياً فقط، بل سيتبعه انقلاب اجتماعي من غالبية سكان النيجر ضد الأقلية هناك".
هذه التوقعات مصحوبة بوقائع ما يشهده السودان حالياً من حرب تشارك فيها مجموعات من القبائل العربية المنتمية لعدد من دول الساحل كتشاد ومالي والنيجر، وتأتي كدلالة مسبقة على ما يشكله العامل القبلي في منطقة الساحل بوجه عام من مخاطر، ودور غير مساعد على الاستقرار، أو على أي طموح تجاه شرعية ديمقراطية تسود المنطقة في القريب، مما يعطي عدم تفاؤل تجاه الجهود التي يقودها المجتمع الدولي عبر فرنسا والاتحاد الأوروبي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا إيكواس (ECOWAS) لإعادة الديمقراطية المفقودة في النيجر.
حزام الانقلابات
من جهته يقول الباحث والمحلل في الشؤون الأفريقية عباس محمد صالح إن "الانقلاب الأخير في دولة النيجر ستترتب عليه تداعيات إقليمية ملموسة على نحو ما شهدناه في الحالة الليبية منذ عام 2011 التي انعكست سلباً على الاستقرار في الساحل الكبير، ومن أهم النتائج توسع ما يمكن أن يطلق عليه ’حزام الانقلابات‘ في الساحل الكبير بما يعجل بحدوث تطورات مماثلة في تشاد باعتبارها من الدول المتوقع انضمامها لهذا الحزام".
ويتوقع صالح تحول "عرب الشتات" لكونهم مجموعات أقلية في بعض هذه الدول، إلى تهديد نشط عابر للحدود لا سيما في ضوء التقارير المتواضعة بانخراطهم في الصراع الدائر حالياً في الخرطوم بين قوات الشعب المسلحة السودانية وقوات "الدعم السريع" الذي يعتبر تجسيداً لهذا التهديد الناشئ ذي الأبعاد الإقليمية، إضافة إلى ذلك تهدد التطورات في النيجر حال الأمن والاستقرار الإقليمي، وتؤدي إلى زيادة زعزعة الأوضاع بشكل متزامن في ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى.
يضيف صالح "كذلك يؤجج الانقلاب في النيجر من سياسات الحرب الباردة الجديدة والتنافس بين القوى الغربية وروسيا من أجل النفوذ والهيمنة، وهو ما يدفع هذه القوى المتصارعة إلى التركيز في التأثير في توازنات الصراعات القائمة حالياً في دول المنطقة وتحديداً في السودان".