ملخص
تردّد محمد على باشا إلى حلقته الدراسية في الأزهر واستعان به المستشرق فانديك في الترجمة العربية من الكتاب المقدس
يُعتبَر القرن التاسع عشر، القرن الذي أخذت تتبلور فيه معالم النهضة العربية التي بدأت تباشيرها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ولعل أبرز العوامل التي أدّت إلى هذا التبلور: الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، إصلاحات محمد علي باشا، حركة الإصلاح العثمانية، الإرساليات الأجنبية، البعثات العلمية، الانفتاح على الغرب الأوروبي وغيرها. وهو الأمر الذي ترتّبت عليه نتائج مهمة، شكّلت انقلاباً في مجرى التاريخ العربي، وتمثّلت في: إنشاء المدارس والجامعات، انتشار الطباعة، ظهور الصحافة، إقامة دور النشر، تأسيس الجمعيات، إحياء التراث العربي، الاهتمام باللغة العربية وغيرها. وهي نتائج ما كان لها أن تتحقّق لولا روّاد نذروا أنفسهم لتحقيقها، وتنكّبوا إخراج شعوبهم من ظلام الانحطاط إلى نور النهضة، فنجحوا في كثير من الأحيان، وأخفقوا في أحيان أخرى.
وكان على المؤرّخين والباحثين أن يلقوا الضوء على هذه الحركة الفكرية المباركة، فأنصفوا بعض القائمين بها، وأغفلوا بعضهم الآخر. وكان على هذا القسم الأخير أن ينتظر فرصة سانحة تنفض عنه غبار الزمن، وتنتشله من ظلمة النسيان. وهو ما قامت به الباحثة اللبنانية منى عثمان حجازي في بحثها الصادر مؤخّراً عن دار نلسن، بعنوان "الشيخ يوسف الأسير / الأزهري والنهضوي" الذي تدرس فيه حياة هذه الشخصية النهضوية وآثارها، وترفع عنها وطأة الإغفال.
فرصة سانحة
لعل الصدفة وحدها هي التي جعلت فرصة إلقاء الضوء على الشيخ يوسف الأسير تسنح من جديد، ففي معرض قراءة الباحثة كتاب "دليل معالم صيدا الإسلامية" لعثمان حجازي، جذبها ما ورد فيه من سيرة الأسير، وأعجبتها أبيات شعرية نظمها ونقشت فوق الباب الأوسط للمسجد العمري الكبير في صيدا. فشكّل الانجذاب والإعجاب كلاهما الحافز لاتخاذ الشيخ موضوعاً لنيل شهادة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ. وأفردت الباحثة ثلاث سنوات من عمرها، بين العامين 1986 و1989، لإنجاز بحثها العلمي.
تتناول حجازي مراحل البحث، بدءاً من اختيار الموضوع، مروراً بالمصاعب التي واجهتها والآليات المعتمدة في مواجهتها، وانتهاءً بأقسام البحث. ففي مواجهة نقص المصادر وإغفال الباحثين، تلجأ الباحثة إلى خطوات عملية تتدارك بها النقص والإغفال، فتقوم بالزيارات الميدانية، وتُجري المقابلات المباشرة، وتزور المكتبات المختلفة، وتطّلع على بعض المخطوطات، ناهيك بالخطوات التقليدية المتّبعة في البحث العلمي، مما يؤدي إلى تجميع المادة الأولية للبحث، ويتيح لها إمكانية التحليل والتركيب والخروج بنتائج معيّنة، يُستخلص منها عصامية الشيخ، طموحه المعرفي، سعة ثقافته، تعدّد اهتماماته، وتنوّع مناصبه، ما يجعل منه رائداً نهضوياًّ بامتياز.
انسجاماً مع مقتضيات منهجية البحث العلمي، تضع حجازي الشخصية موضوع البحث في إطارها التاريخي والثقافي. لذلك، نراها تخصّص الفصلين، الأول والثاني، للعوامل السياسية والثقافية والفكرية للنهضة في القرن التاسع عشر. فتتوقف في الأول عند الإصلاحات الإدارية التي أحدثها الحكم المصري لبلاد الشام في عشرينيات القرن، والإصلاحات التي أدخلها نظام المتصرّفية في لبنان المتمثلة ببروتوكول 1964، والإصلاحات التي أصدرها بعض السلاطين العثمانيين المتنوّرين بمراسيم إصلاحية. هذه العوامل السياسية مهّدت لقيام النهضة بتمظهراتها المختلفة. وتتوقف في الفصل الثاني عند الدور الذي لعبته الإرساليات الأجنبية الذي شكّلت المؤسسات التربوية أهم تجلياته، ومنها، على سبيل المثال، مدرسة عينطورة، جامعة القديس يوسف، الكلية السورية الإنجيلية وغيرها. ولا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى التنافس بين المرسلين اليسوعيين والبروتستانت على إنشاء المدارس. ومن الطرائف التي يوردها الكتاب أنه عندما سئل المرسَل الأميركي كرنيليوس فانديك عمّا يتوجّب عليه أن يفعل، خلال توجهه إلى بلدة عبيه اللبنانية لتأسيس المدرسة الأميركية فيها، أجاب أنه ذاهب لتأسيس مدرستين، باعتبار أن اليسوعيين سيسارعون إلى تأسيس مدرستهم بعد تأسيس الأميركية.
إلى عامل الإرساليات، تذكر الباحثة المدارس العثمانية على اختلاف أنواعها، الجمعيات العلمية والأدبية، الصحافة والطباعة، والتيارات الدينية والفكرية المختلفة. وتبيّن دور كل من هذه العوامل المنسجم مع طبيعته. وهي أدوار تختلف فيما بينها، غير أنها تتضافر لتحقيق النهضة العتيدة. ولكن لا بدّ من الإشارة إلى بعض الهنات المنهجية التي تقع فيها الباحثة في هذين الفصلين؛ فهي إذ تعتبر الحكم المصري لبلاد الشام، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أحد عوامل النهضة، تغفل عن التداعيات السلبية لهذا الحكم على لبنان في تلك المرحلة لجهة العبث بالتوازنات المحلية، مما أسس للفتننة الطائفية في النصف الثاني من ذلك القرن. وهي تدرج فقرات تتعلق بعوامل ثقافية تحت أخرى سياسية (ص 34). وهي لا تراعي التسلسل التاريخي في ذكر بعض الوقائع (ص 78).
الإنسان المتنوّع
بالانتقال من الإطار إلى المؤطَّر، تخصّص حجازي الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب للشيخ الأسير؛ فتتناول شخصيته الإنسانية ذات المواصفات المتنوعة في الفصل الرابع، والعاملة ذات الاهتمامات المتعدّدة في الخامس، والمفكّرة ذات الآثار المختلفة في السادس والأخير، وهذا يتيح للقارئ رسم بورتريه الشخصية، الخارجي والداخلي. فالأسير الإنسان يعود في نسبه لآل البيت. يُولَد في صيدا عام 1815 لأب صالح هو عبد القادر الأسير وأم فاضلة هي نفيسة النقيب. يختم القرآن وهو ابن سبع سنوات. يتصف باعتدال الجسم وخفة الروح. يتزوّج من السيدة حنيفة النقيب وينجب منها خمسة ذكور وأنثى واحدة، ويتزوج لاحقاً من السيدة آمنة شريتح وينجب منها ذكراً واحداً وأنثيين اثنتين. يتلقى دروسه في كتّاب الشيخ ابراهيم العارفي في صيدا، والمدرسة المرادية في دمشق، والجامع الأزهر في القاهرة. يتنقّل طلباً للعلم أو العمل بين صيدا ودمشق والقاهرة وبيروت وطرابلس والآستانة. ويتوفّى في بيروت عام 1889 عن أربعة وسبعين عاماً، ويوارى الثرى في جبانة الباشورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأسير العامل يتوزّع عمله، بالتزامن أو بالتعاقب، على التعليم والصحافة واللغة والشعر والقضاء والفقه. وهو يبلي في كل من هذه الحقول البلاء الحسن، على تفاوت بين حقل وآخر. يعلّم في مدرسة الحكمة، والكلية السورية الإنجيلية، والمدرسة الأميركية في عبيه، والمدرسة الوطنية في زقاق البلاط وغيرها. يكتب في الجوائب، وجريدة لبنان الرسمية، وثمرات الفنون، ولسان الحال وغيرها. ينخرط في ورشة إحياء اللغة العربية إلى جانب الشيخ ناصيف اليازجي، والمعلم بطرس البستاني، والشيخ ابراهيم الأحدب، وناصيف المعلوف وغيرهم. يترك ديوان شعر في الأغراض الشعرية المختلفة فيصفه مارون عبود بالشاعر المجيد. أمّا يوسف القاضي والفقيه فيتراوح بين القضاء في بكفيا، والإفتاء في عكا، والادعاء العام في متصرفية جبل لبنان، وعضوية مجلس الشورى في الآستانة، ورئاسة كتابة المحكمة الشرعية في بيروت وغيرها.
والأسير المفكّر يطرح أفكاراً جديدة، في حينه، في السياسة والإصلاح والدين والمجتمع، وينخرط في سجالات ومحاورات لغوية مع لغويّي ذلك الزمان، ويشكّل مع أحمد فارس الشدياق وابراهيم الأحدب "ثالوث الفصحى في القرن التاسع عشر"، على حد توصيف مارون عبود. أمّا الأسير الكاتب فيترك مجموعة من الآثار تتراوح بين الشروح والردود والمسرحيات والرسائل، ناهيك بديوانه الشعري. وهكذا، نكون أمام شخصية مركّبة الطبقات، متعدّدة المشاغل، متنوّعة الاهتمامات، واسعة الثقافة، منفتحة على الآخر، تركت بصماتها في غير حقل من حقول النهضة العربية. وبكلمة أخرى، هو مفرد بصيغة الجمع أو جمع بصيغة المفرد.
علامات فارقة
وإذا كان لكل شخصية علامات فارقة تُميّزها عن سواها، فإن ليوسف الأسير علاماته الفارقة التي نستخلصها من الكتاب؛ فقد ختم القرآن في السابعة من العمر، وتردّد محمد على باشا إلى حلقته الدراسية في الأزهر، واستعان به كرنيليوس فانديك في ضبط ترجمة النسخة العربية من الكتاب المقدس وصياغتها، وصاغ "أعمال الرسل" و"الرسائل" و"سفر الرؤيا"، ونظم كثيراً من الترانيم المسيحية، وقال عن نفسه "إنه يعرف سبعة عشر علماً، ويقدر أن يؤلّف فيها". هذه العلامات وغيرها تثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أننا إزاء شخصية نهضوية رائدة، تكتنز العديد من المواهب والاستعدادات، وتمتلك الكثير من القدرات والمهارات، وتوظّف ما تكتنز وتمتلك في قضية النهوض القومي. وهو ما يتفتّق عنه البحث الذي يقوم على التجميع أكثر من التحليل، ويقدّم مادة تعريفية وافية، تضع الشيخ في موقعه الطبيعي، وتزيل عنه ما تراكم من النسيان.