Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأدب بيو: الكتابة ما قبل "تشات جي بي تي" وما بعدها

يطل على هاوية سحيقة وجديدة ومفتوحة على تجربة استثنائية تعمل على نسف جميع التقاليد التي تأسست عبر آلاف السنين

"هذا أدب الأحياء وهذا أدب التكنولوجيا وهذه كتابة بالقلب وهذه كتابة بالبرنامج" (غيتي)

ملخص

أريد أن آكل تفاحة من منتوج زراعة بيولوجية، سيقول القارئ أريد أن أقرأ نصاً من الأدب "بيو"

ها هي الكتابة الأدبية في العالم تدخل عصراً جديداً، عصراً عاصفاً، تدخل مغامرة مثيرة وانقلابية في كل مكوناتها والأطراف المؤسسة لها، المؤلف والنص والقارئ والوسائط، الكل معرض لزلزال مدمر لا يبقي ولا يذر.

هذه المرة، المغامرة الجديدة العاصفة ليست مرتبطة بمسألة تحديث الأسلوب أو تحديث اللغة، كما درج على ذلك مسار تاريخ الأدب في الأزمنة الأدبية والنقدية القديمة حيث كان الجدل يتجسد عبر معارك أدبية نقدية ينتصر فيها بعضهم للقيم الجمالية اللغوية والأسلوبية والسردية للقديم وينتصر الآخر لقيم التيار الجديد.

كان الفريقان وعلى مدى قرون، ومن خلال معارك كثيرة سجلها تاريخ الأدب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ينتصر فيها كل فريق بقيم معينة، مثلاً ينتصر طرف للغة الفصحى وينتصر الآخر للكتابة بالعامية، ينتصر فيها فريق للتفعيلة وبحور الشعر الكلاسيكية وينتصر فريق آخر للشعر الحر والقصيدة النثرية، وعلى سيرة الكتاب والنقاد كان القراء أيضاً عبارة عن فرق مختلفة بعضها متأثر بفلسفات الحداثة وما ينجر عنها من كتابة تجريبية، وبعضها الآخر محافظ على تقاليد الكتابة الكلاسيكية متخندق في مواقع ثقافية محافظة، وفي كل الأحوال، على رغم حركية النقاش وزحف التجريب ظلت الكتابة، وهي تتغير وتتبدل وتتعارك في مربع "المعقول" و"المتوازن".

اليوم يضرب الزلزال العنيف، فتطل الكتابة الأدبية على هاوية سحيقة وجديدة ومفتوحة على تجربة استثنائية تعمل على نسف جميع التقاليد التي تأسست عبر آلاف السنين من النصوص المتراكمة العالمية الخالدة ومن خلال تجارب آلاف الكتاب المختلفة في اللغات المتعددة.

البارحة، كانت الكتابة تتغير من خلال عبقرية الكاتب في اجتهاده وجنونه ومعرفته، اليوم تتأسس وتتغير من خلال العامل الخارجي التكنولوجيا الرقمية ببرامجها المعقدة وآخرها "تشات جي بي تي".

لقد أصبحنا على مشارف نقاش جديد، ما عاد فيه للنقد الكلاسيكي بكل مدارسه الفلسفية ونظرياته الأدبية من سلطة قادرة على تفكيك ما يحدث، ما يدوّخ.

ونحن في الخطوة الأولى، في الميل الأول، بدا النقد الأدبي اليوم حائراً أمام كتابة تستعد للانطلاق في تجربة تطل على هاوية في الأعماق أو على طيران في الآفاق، حيث السقوط يشبه التحليق في هذه الحال الأدبية الجديدة، كل شيء غامض ومغامر وإشكالي، وأمام هذه الحيرة الجمالية التاريخية، أصبح النقد مطالباً بآليات جديدة مؤسسة على فلسفة جديدة هي الأخرى قادرة على قراءة ما يحدث للكتابة وللكتاب وللوسائط وللقارئ.

هذه المرة النقاش الأدبي مختلف تماماً وأعمق وأكثر إثارة، لقد انتهت معاركنا التي لطالما تأسست على فروسية ثقافية مثل معاركنا السياسية وحتى العسكرية، فنقاش الساعة يقوم على سؤال انقلابي جذري وبنيوي يضع الكاتب وما يكتبه في موضع الشك، موضع سؤال الوجود من عدمه.

أصبحت الكتابة الأدبية توأم السرقة الموصوفة من دون عقاب، سرقة يحتفل بها، هناك من يكتب بدلاً من المؤلف، هناك من يفكر بدلاً من الكاتب، ولا أحد يستنكر أو يتساءل عما يحدث من انتهاك للكتابة الإنسانية.

أمام سلطة "تشات جي بي تي" التي تزحف ببرامجها المتجددة بسرعة مدوّخة فقد المبدع سلطته الأدبية التي ظل يتمتع بها منذ اكتشاف الأبجدية واكتشاف أسطورة الكتابة والتواصل الرمزي المعقد.

أمام سلطة "تشات جي بي تي" التي هجّنت كل شيء أو هي في الطريق إلى ذلك، سيفقد المبدع رمزية سلطة وجوده.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أمام سلطة "تشات جي بي تي" المتعاظمة يوماً بعد يوم، برنامجاً بعد برنامج، يسقط العقد الثقافي والروحي والفلسفي الذي كان بين القارئ والكاتب، فالكاتب اختفى من الوجود المادي، بلعته البرامج الرقمية، وضاع القارئ في حيرة من سيل النصوص الباردة كالأجنة التي تولد من الأرحام المستأجرة.

أمام سلطة "تشات جي بي تي" التي تتجدد برامجها بسرعة فائقة مربكة الكتابة والكتّاب، سيصبح القارئ حراً حرية غريبة، حرية تشبه العبودية، حالة من الضياع والحيرة.

هي البداية فقط والطريق لا يزال طويلاً والاحتمالات مفتوحة على كل شيء وعلى كل "اللاشيء!".

إلى عهد قريب، درج مؤرخو الأدب على تحديد الأزمنة أو العصور الأدبية بعلامات أو محطات سياسية أو بصعود تيارات أدبية جديدة أو بسيادة تيارات فلسفية في الكتابة، فيقال الأدب الجاهلي والأدب الأموي والأدب العباسي والأدب الحديث والأدب المعاصر، ويقال أيضاً التيار الكلاسيكي والتيار الرومانسي والتيار الواقعي الاشتراكي والتيار السوريالي والتيار الوجودي والتيار العبثي وما إلى ذلك من تسميات ملأت كتب النقد وملأت مدرجات محاضرات الجامعة. اليوم، يبدو لي أن كل هذا الإنشاء النقدي في فهم الأدب وتاريخ الأدب ذاهب إلى الفناء، هذه المقاربة عن طريق السياسة أو عن طريق الجماليات والرؤى الفلسفية أصبحت مقاربة متجاوزة، ومن الآن فصاعداً سيتحدث النقاد في تحديد الكتابة الأدبية من خلال مقاربة جوهرية بالقول الفصل هذا أدب ما قبل "تشات جي بي تي" وهذا أدب ما بعد "تشات جي بي تي".

وسيتحدثون عن جماليات الأدب الروائي أو الشعري بحسب تحسن البرامج المختلفة التي تستثمر فيها لـ "تشات جي بي تي" مع كل برنامج تطويري جديد تظهر كتابة أدبية جديدة، الكتابة تولد من رحم برامج الذكاء الاصطناعي وليس من القلوب التي تمتلئ بالمعاناة الإنسانية كما كانت خلال التاريخ الإنساني كله.

بعد أقل من عشرية، ستظهر أصوات نقدية أدبية لتضع مفهوماً جديداً في تحديد تاريخ الأدب وتاريخ الكتابة ومغامرتها، وسنقرأ ما يلي هذا أدب الأحياء وهذا أدب التكنولوجيا، هذه كتابة بالقلب وهذه كتابة بالبرنامج.

بعد أقل من عشرية، سيظهر قارئ جديد، ربما، قد يحنّ، ربما، إلى زمن النصوص الأدبية المكتوبة من سهر الليالي ومن معاناة السجون ومن قساوة اليوميات الاجتماعية ومن دهشة الأسفار فيقول "أريد أن أقرأ كتابة الأحياء لا البرامج".

سيحنّ القارئ إلى مناخات كتابات دوستويفسكي وتولستوي وبلزاك ونجيب محفوظ والجواهري ورامبو والطيب صالح وهنري ميلر وكاتب ياسين ونزار قباني وسلمان رشدي وويلي سوينكا وطوني موريسون ومولود معمري ومحمد شكري... كتابات مصنوعة من أنفاس بشرية.

وسيجيبه أحدهم "عزيزي القارئ إذا أردت أن تقرأ نصاً لمبدع إنسان، فعليك أن تقرأ الأموات الذين قضوا قبل ظهور وانتشار ’تشات جي بي تي‘".

إننا ندخل منطقة فكرية وإنسانية وأدبية جديدة علينا أن نواجهها بأسئلة فلسفية جديدة قادرة على تفكيك هذا التعقيد والمغامرة التي لا مناص منها.

لقد أصبحت الكتابة مثل الفلاحة، فقد تم تسميم الإنتاج الفلاحي بالأسمدة والهرمونات القاتلة بقصد الربح وكثرة الإنتاج، وكذلك، سيتم تسميم الكتابة بالبرامج المتجددة في مسار هذه التكنولوجيا المتوحشة، وكما يبحث اليوم بعض المستهلكين عن إنتاج فلاحي بيولوجي Bio تخفيفاً عما يسببه الإنتاج الصناعي من أمراض على الجسد، فكذلك سيبحث القارئ مع مر الزمن عن نصوص أدبية من فصيلة أدب "بيو" Littérature Bio تخفيفاً عما قد يسببه أدب البرامج من آثار سلبية على المنظومة العقلية والسيكولوجية، فكما يقول المواطن العادي "أريد أن آكل تفاحة من منتوج زراعة بيولوجية، سيقول القارئ أريد أن أقرأ نصاً من الأدب ’بيو‘".

اقرأ المزيد

المزيد من آراء