ملخص
شعراء المهرجان يلتقون في بابل صغيرة تختلط فيها اللغات ويغزن الحياة اليومية
على عادته كل صيف وهذه السنة بحضور 70 شاعراً قدموا من كل ضفاف المتوسط، وبمساهمة عدد كبير من الفنانين والرسامين ورجال المسرح انتظم مهرجان "أصوات حية" في مدينة سيت الفرنسية، محتفلاً بالخطاب الشعري المتوسطي الحديث في تعدده وتنوعه واختلاف مضامينه وأشكاله.
وكما جرت العادة استعدت مدينة سيت الفرنسية لاستقبال عدد كبير من الضيوف والسياح جاؤوا، من كل أنحاء فرنسا، ليستمعوا إلى القصائد الجديدة، يلقيها الشعراء، في الشوارع، والساحات، والحدائق العامة، في جو احتفالي، تمتزج فيه الموسيقى بالشعر.
وإنه لأمر ذو دلالة أن يتجنب القائمون على المهرجان الأماكن المغلقة لتنظيم فعالياته، ويقتصروا على الأماكن المفتوحة، فالشعر هنا يقرأ على ناصية الطريق، وداخل الأحياء السكنية، وفوق سطوح المراكب، وداخل الأسواق وبين جموع الناس، وحشود الصيادين، وأصحاب الزوارق الشراعية، أي إن القائمين على المهرجان أرادوا أن يقتحم الشعر الحياة اليومية ليفاجئ، ويدهش، ويلفت الانتباه. لكأن الأماكن المغلقة تعزل الشعر عن الحياة، تفصله عن إيقاع المدينة، تقصيه بعيداً من اهتمامات الناس. لهذا آثر القائمون على المهرجان أزقة المدينة وحدائقها، وساحاتها، ومدارسها وأرصفة موانيها منصات لإنشاد الشعر ومحاورة الشعراء ومناقشة الناشرين.
مدينة سيت بابل الصغيرة
عرجت مديرة المهرجان مايتي فاليس بليد في ليلة الافتتاح، وهي تحتفي بالضيوف، على تاريخ المتوسط بوصفه الخيط الناظم لكل دورات هذا المهرجان، فأشارت إلى أن هذا البحر العريق احتضن، طوال تاريخه، حضارات وثقافات كثيرة، ضخت المعرفة الإنسانية بدماء الفكر والروح. ولفتت إلى دور الشعر في تاريخ المتوسط بوصفه آصرة تشد كل ثقافاته بعضها إلى بعض تآزراً وتضامناً.
ومن أجل الاحتفاء بتعدد ثقافات المتوسط وتنوعها أصر القائمون على المهرجان، على قراءة الشعراء لنصوصهم بلغاتها الأصليه قبل أن يتولى الشعراء الفرنسيون قراءتها باللغة الفرنسية، مما حول مدينة سيت إلى بابل صغيرة فيها تختلط الألسنة وتتداخل اللغات على امتداد تسعة أيام. تقول الشاعرة الفرنسية جوليات ماسات: "في اللغة الأصلية نسمع أنفاس روح الشاعر وتنهداتها، بينما في النص المترجم نسمع الكلمات والمعاني... لهذا أولينا النص الأصلي أهمية كبرى، وأرهفنا السمع لإيقاعه ونبرته وموسيقاه".
تضمن المهرجان أكثر من 80 نشاطاً ثقافياً، أنجزها عدد كبير من الشعراء والفنانين وأهل المسرح، انتظمت في أنحاء شتى من المدينة الصغيرة فتداخلت القراءات الشعرية، مع الحفلات الموسيقية، والعروض المسرحية مع المداخلات النقدية. هذا الجو الاحتفالي هو الذي دفع مختلف الشرائح الثقافية والاجتماعية إلى مواكبة نشاطات المهرجان، وحضور مختلف فقراته.
استدراج الشعراء
تقول مديرة المهرجان: "إن الغاية من إقامة هذا المهرجان الدولي مزدوجة، أما الغاية الأولى فهي الاطلاع على الشعر المتوسطى في تنوعه وتعدده ومن ثم الاطلاع على جذورنا، نحن أبناء المتوسط، الضاربة في هذا الفضاء المائي، والاطلاع، في الوقت ذاته، على جذور جوارنا. أما الغاية الثانية فهي استدراج الجميع إلى فعل الإبداع، لهذا أقمنا كثيراً من مختبرات الكتابة وفتحناها لكل الضيوف. هذه المختبرات يديرها شعراء وكتاب مرموقون، لهم خبرة طويلة في مجالي التأليف والكتابة. يساعدون عشاق الكلمة على إنجاز نصوصهم الشعرية، وربما، في مرحلة لاحقة، يساعدونهم في نشرها وتوزيعها".
هذه المختبرات التي أقبل عليها الزوار بأعداد وفيرة سرعان ما تحولت إلى فضاءات حوار انعقد بين الشعراء الكبار والشعراء الهواة، خاضوا أثناءه في مسائل الكتابة والإبداع. فالشعر كما يؤكد بول فاليري، ابن مدينة سيت، ليس وحياً وإلهاماً بقدر ما هو جهد ومكابدة. ربما تمنحنا السماء بيتا أو بيتين، لكن بقية القصيدة هي ثمرة جهد الشاعر ووجه من وجوه معاناته الروحية والفكرية. نشر الشعر وتوزيعه كانا أيضاً من وظائف هذا المهرجان الذي حول ساحة المدينة إلى سوق كبيرة للشعر، تقاسم فضاءها عدد من دور النشر الفرنسية والأجنبية. هذه الدور قدمت نماذج من دواوين الشعر الحديثة تأنق الناشرون في طرائق طباعتها وأساليب تصفيفها بحيث باتت شبيهة بالقطع الفنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الدواوين التي كتبت، في الأغلب الأعم، بخط اليد، لقيت رواجاً كبيراً داخل هذه السوق الشعرية وتهافت على اقتنائها الزوار والسياح. فالمجموعات الشعرية، كما يقول أحد الناشرين، ينبغي أن تكون جذابة أنيقة، تخاطب العين قبل أن تخاطب القلب والروح. على هذا الإيقاع عاشت مدينة سيت تسعة أيام، ألقى خلالها الشعراء قصائدهم في أماكن عديدة وأمام جمهور متنوع، لكن الأمر الذي لفت انتباه الحاضرين هو أن عدد الشعراء العرب كان في هذه الدورة محدوداً، وقد آل ذلك إلى تراجع إيرادات المهرجان، وضعف إمكاناته المادية.
غير أن إدارة المهرجان قامت، لتأكيد اهتمامها بالشعر العربي، إلى نشر ديوان للشاعر نوري الجراح بعنوان "إبتسامة النائم"، وقامت بترجمة قصائد الشاعر أنطوان جوكي إلى الفرنسية، تحية منها للثقافة العربية عامة وللشعر العربي على وجه الخصوص. وكان هذا الديوان حاز جائزة ماكس جاكوب المعروفة في باريس وتم الاحتفاء بالشاعر وديوانه.
في سهرة الاختتام حضرت كل الفنون، من مختلف ثقافات المتوسط لإزجاء التحية لمدينة سيت التي احتضنت المهرجان، كما ألقى كل الشعراء الحاضرين بعضاً من قصائدهم، بلغاتهم الأصلية على إيقاع الموسيقى. هكذا تكلم المتوسط، في هذه الحفلة الاختتامية، بكل لغاته، وهي كثيرة، ورفع الفنانون، من مختف البلدان، عقيرتهم بالغناء، واستسلم الحاضرون لإيقاع الرقص في حفلة جماعية على بعد أمتار قليلة عن المتوسط.
ومن جديد أكدت مديرة المهرجان مواصلة الدفاع عن الشعر عامة وعن الشعر المتوسطي على وجه الخصوص، ضاربة موعداً جديداً، خلال الصيف المقبل، مع الشعراء والبحر ومدينة سيت الجميلة.