ملخص
على مدى التاريخ واجه العسر اتهامات الشيطنة والعبقرية... فما القصة؟
يصبح العالم أعسراً في الـ13 من أغسطس (آب) الجاري لمناسبة اليوم العالمي للعسر الذين يشكلون أقلية عددية لا تتجاوز 12 في المئة من سكان المعمورة، بينما معظم البشر "يمينيون" يأكلون ويشربون ويتحركون بيمائنهم أكثر من شمائلهم.
وإذا كانت الشواهد والوقائع التاريخية تظهر كيف كان الشخص الأعسر شبه منبوذ في بعض المجتمعات، ملاحقاً بتهم الشيطنة والسحر والمثلية الجنسية، فإن حقائق العلم والطب باتت تنصف الشخص الأشول، في وقت لا تزال أبحاث علمية تحاول الحسم في مدى تمتع هذا الصنف من الناس بمواهب استثنائية في العلوم والفنون والرياضات.
تاريخ من العنصرية
يبدو أن تاريخ الأعسر في مجتمعات وثقافات سابقة قديمة لم يكن تاريخاً مريحاً، إذ تفيد كتب ومعطيات تاريخية بأن محاكم التفتيش في إسبانيا خلال القرنين الـ15 والـ16 كانت تعتمد على استعمال اليد اليسرى لتدين السحرة والمشعوذين، وهو اعتقاد ساد في بعض أرجاء أوروبا خلال قرون غابرة.
وكان المتهم يحاكم بتهم خطرة تفضي إلى الإعدام أحياناً، ليس لوجود أدلة تثبت ممارسته السحر والأعمال الشيطانية، بل فقط لأن الشخص المتهم أعسر، أو المرأة المتهمة عسراء اليد.
وزكت هذه الأحكام السائدة في مجتمعات أوروبية قديمة اعتقادات ثقافية ودينية ترى أن الطفل الأعسر هو شخص محاط بفكر شيطاني، فكان المعلمون في المدارس الكاثوليكية يعنفون التلاميذ العسر بإرغامهم على الكتابة باليمنى.
وبلغت هذه الاعتقادات الخاطئة السائدة أوجها بوصم الشخص الأعسر بالشذوذ الجنسي حتى لو لم يكن كذلك خلال عقود مضت في أوروبا، إذ كانت الاعتقادات الجندرية حينها تسم الأيمن بالقوة والفحولة والأيسر بالضعف والأنوثة.
ولم تكن أوروبا وحدها من تشيطن الشخص الأعسر، فكانت قبائل في القارة الأفريقية تحارب الأعسر بطرق غريبة، منها إرغامه على وضع يده اليسرى في الماء المغلي حتى يعجز عن استعمالها، أو تطليق المرأة العسراء التي لا تطهو باليمنى.
وتطورت العقليات بمرور الأعوام والزمن وتحضر المجتمعات، ليأتي دين آر كامبل ليؤسس المنظمة العالمية للعسر من أجل لفت الانتباه إلى هذه الفئة من البشر، وتم الاحتفال للمرة الأولى باليوم العالمي للعسر عام 1976 بهدف رد الاعتبار لهم ودحض كل المعتقدات الخاطئة في شأنهم.
حقائق العسر
ومقابل هذه الاعتقادات التي تنعت الأعسر بصفات مذمومة وتتهمه بالنعوت السلبية شتى، سادت اعتقادات أخرى في الأزمنة الحديثة تفيد بأنه يتصف بالموهبة والعبقرية، ويستدل أصحاب هذا الطرح بشخصيات ومشاهير ونوابغ في مجالات معينة يكتبون ويتحركون باليد اليسرى.
في هذا الصدد يقول الباحث في السياسات الصحية الطيب حمضي إن هناك حقائق لا يمكن التغاضي عنها أولها أنه لا توجد دراسات علمية تؤكد أو تنفي أن الأعسر يكون أكثر نباهة أو موهبة في العلوم أو الفنون، لكن في المقابل هناك حقائق عدة حول هذا الموضوع منها أنه لا يمكن الاستدلال بكون ليوناردو دافنتشي أو بابلو بيكاسو أو بيل كلنتون أو ستيفن جوبز، أو حتى أرماندو مارادونا وليونيل ميسي وونستون تشرشل، موهوبين في مجالاتهم للتأكيد على نظرية أن الأعسر هو بالفطرة موهوب وعبقري لأنه في المقابل هناك ملايين الأشخاص من "ذوي اليمين" موهوبون أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطرد أن الحقيقة الثانية هي أن الحديث يكثر حول أعسر اليد، لكن هناك أيضاً أعسر القدم أو العين أو الأذن الذي يسمع بأذنه اليسرى بشكل أقوى من اليمنى مثلاً، لافتاً إلى أن عدد الأشخاص العسريين بشكل كامل قليلون، ومعظمهم لهم أعضاء أخرى "يمينية" فاعلة.
والحقيقة الثالثة، بحسب حمضي، أنه في ثقافات قديمة كان العسر ينعتون بالسحرة وكانوا يتوقعون وفاتهم مبكراً، بل كان الناس يجبرونهم على استعمال اليمنى، إلى أن جاءت الحرب العالمية الثانية التي خلفت مبتوري اليد اليمنى ولما اضطر هؤلاء الجنود إلى استخدام اليد اليسرى تعود الناس على العسريين.
أما الحقيقة الرابعة، تبعاً لحمضي، فتتمثل في أنه لا يتعين إرغام من يستعمل يده اليسرى على استخدام اليمنى سواء في الكتابة أو الرسم أو الأكل لأنه عندما يستخدم الإنسان يد جهة واحدة، فإن ناحية الدماغ التي تتحكم في هذه اليد تتطور بكثرة الاستعمال، ولكن عندما يتم استعمالهما معاً، لا يتم هذا التطور بالقدر نفسه.
تفسير علمي
وقال الحمضي إن "الحقيقة الخامسة هي أن الجسم الثفني (Corpus Callosum) يصل قشرة كل نصف كرة من الدماغ مع الأخرى، كما يربط شطري الدماغ الأيمن والأيسر، ويسمح بالتواصل بينهما"، متابعاً عند العسريين "يكون هذا الجزء أكبر حجماً من الموجود عند الذين يستخدمون اليد اليمنى، وهذا يفترض ولا يؤكد أن الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى تكون لديهم سهولة في تبادل المعلومات بين الفصين الأيمن والأيسر للدماغ، وهو ما يمكن من تفسير بعض المهارات الخاصة عند العسريين".
وأشار إلى أن "الفص الأيمن للدماغ يتولى مهمة تنسيق المهمات من أجل التواصل الوظيفي وعدد من المهارات ويتحكم في الجزء الأيسر من الجسم، وبالتالي قد يكون هذا الفص متطوراً عند العسريين، لكنه مجرد تخمين يحتاج إلى أبحاث ودراسات علمية لإثباته".
ونوه باحث السياسات الصحية إلى أن العسريين يواجهون عدداً من الصعاب في المجتمعات العربية، فالطفل "الأشول" الذي يلج المدرسة يجد أمامه التجهيزات المدرسية وحتى أدوات المحفظة من قلم ومسطرة وغيرها كلها مخصصة لمن يكتبون ويعيشون باليمنى، والسيارات أيضاً مخصصة لأصحاب "اليمين"، بل يجد الطبيب الجراح الأعسر مشكلة في المعدات التي يستعملها لأنها مصممة لمن يستخدمون اليد اليمنى.
صعوبات مجتمعية
ويواجه الشخص الأعسر بشكل عام بعض الصعوبات المجتمعية والنفسية والمواقف المحرجة في حياته اليومية، خصوصاً عندما يكون صغير السن لا يحسن الترافع والدفاع عن نفسه.
في هذا الصدد تقول رابحة عمار، وهي أم لطفل أعسر، إنه من بين المشكلات التي يواجهها طفلها وقوعه في الحرج كلما مد إليه شخص شيئاً لحمله باليد اليمنى، لكنه يحاول التكيف مع هذا الوضع، مما يجعل استجابته أبطأ وأثقل، وهو ما يفسره بعضهم رفضاً أو تمرداً أو تكبراً خلاف الحقيقة.
وأردفت السيدة بالقول إن "العادة وآداب الأكل كمسلمين تفرض الأكل باليد اليمنى، ولكن طفلها لا يستطيع الأكل بهذه اليد بأريحية، وهذا ما يعرضه أحياناً للانتقاد أو الانتقاص، أو الهمز واللمز، خصوصاً عندما يكون إلى مائدة فيها غرباء أو ضيوف".
وتابعت أن "هناك أشخاصاً حتى داخل الأسرة وفي المدرسة كانوا يعتقدون بأن طفلها غير مؤدب ومدلل، لهذا يتعمد التعامل باليسرى والأكل والشرب بها قبل أن يقتنعوا بمرور الوقت أنه خلق أعسراً وليس له أي دخل في طبيعته الخلقية هذه".