ملخص
هوة الخلافات بين شركاء الحكم في إثيوبيا تتسع والبلاد تقترب من تحالفات ما قبل صعود آبي أحمد في 2018
صعد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى سدة الحكم عبر تيار "التغيير" محمولاً على أكتاف حراك شعبي كبير في البلاد، عام 2018، موجهاً الرصاصة الأخيرة لحقبة تحالف سياسي ظل حاكماً منذ 1991 بقيادة "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، لكن تساؤلاً رئيساً يفرض نفسه الآن، هل عادت إثيوبيا إلى المربع الأول ما قبل صعود آبي وتياره؟
لعب التحالف بين النخب السياسية لقوميتي أورومو وأمهرة، الذي سمي "أورومارا" دوراً رئيساً في صياغة الغضب الشعبي المتنامي، إلى برنامج سياسي معارض سمح بزحزحة تنظيم "تيغراي" النافذ، من قصر "آرات كيلو"، وحمل التيار الذي نادى بالتغيير والإصلاح لسدة الحكم.
وجد هذا التيار تأييداً شعبياً كبيراً بعد الوعود التي بشر بها، فضلاً عن امتداداته الشعبية والاجتماعية التي ضمت أكبر كتلتين سكانيتين، هما قوميتي الأورومو (36 في المئة من السكان) والأمهرة (26 في المئة من السكان).
سعى النظام الجديد كذلك إلى إحداث قطيعة سياسية مع ممارسات سلفه، والعفو عن مئات المعتقلين من بينهم السياسي الشهير "أندرقاتشو ظقي" الذي تم خطفه من قبل النظام السابق من مطار نيروبي في كينيا واعتقاله لسنوات، إذ تم تكريمه باستقبال رسمي في القصر الرئاسي، واعتباره بمثابة مستشار سياسي غير رسمي لرئيس الوزراء، آبي أحمد، الذي أسهم بدوره لاحقاً في إطلاق مبادرة لإنهاء عقدين من العداء بين النظامين الإثيوبي والإريتري.
وبالفعل، كللت جهود "أندرقاتشو" بتوقيع اتفاقيتين للسلام بين إثيوبيا وإريتريا في كل من جدة بالسعودية وأبوظبي في الإمارات، فضلاً عن اتفاقيات التعاون الموقعة في أسمرة وأديس أبابا.
عودة المعارضة
أثارت سياسات "تيار التغيير"، التي ارتكزت على إلغاء الأحكام العقابية الموقعة بحق المعارضين السياسيين في الخارج، فضلاً عن دعوته إلى عودة الحركات المسلحة التي عارضت النظام السابق لما يقارب ثلاثة عقود، التي ينحدر معظم منتسبيها من قوميتي الأورومو والأمهرة، غضب جبهة تيغراي التي قررت الانسحاب كلياً من النخبة الحاكمة، والانكفاء في الإقليم الشمالي، كجهة معارضة للسلطة الجديدة.
لعل ما عجل بقرار انسحاب جبهة تيغراي من المشهد السياسي الإثيوبي أيضاً هو سعي نظام آبي أحمد إلى إحداث تغيير في بنية النظام السياسي الحاكم من ائتلاف يضم مجموعة من الأحزاب التي تمثل قوميات محددة (الحزب الديمقراطي الأمهري والحزب الديمقراطي الأورومي وأحزاب الجنوب والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي)، إلى حزب واحد بطرح وطني شامل، لكن الجبهة تحفظت وانسحبت بطبيعة الحال.
وسمح التوجه الجديد إلى عودة المعارضين السياسيين واقترابهم من مظلة السلطة، المتمثلة في حزب "الازدهار"، كما وقعت كل من الجبهة القومية لتحرير الأورومو (المسلحة) وجبهة السابع من مايو (أيار) اتفاقيات مع النظام الجديد، تنص على إلقاء السلاح والاندماج في المشهد السياسي الإثيوبي كحركات سياسية.
وبعد عامين من الحرب الضارية في الإقليم الشمالي بين الجيش النظامي المتحالف مع قوات الأمهرة المسلحة والجيش الإريتري (كجبهة واحدة)، ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، اضطرت أديس أبابا إلى توقيع اتفاقية بريتوريا لإيقاف الأعمال العدائية، التي نصت على نزع سلاح كافة الميليشيات المسلحة، وإعادة إدماج عناصرها داخل الجيش الإثيوبي النظامي.
وفتحت الظروف السابقة الباب واسعاً أمام صراع جديد بين الحلفاء السابقين، لا سيما قوات أمهرة (ميليشيات الفانو والقوات الأمهرية الخاصة) التي ترفض تسليم عتادها العسكري، في حين تشترط الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، أن تسليم سلاحها ينبغي أن يتزامن مع نزاع سلاح تلك المجموعات المسلحة في إقليم أمهرة وانسحاب من سمتها القوات الغازية من كامل جغرافيا تيغراي.
ما أفاض كأس التوافق
ويمكن إعادة السعي الرسمي الحثيث نحو تنفيذ بنود اتفاقية بريتوريا في جنوب أفريقيا، إلى أسباب تتعلق بتحقيق الالتزامات الدولية، بخاصة تجاه الدول المانحة، ما اضطر النظام إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع قوات الأمهرة، وتحديداً ميليشيات الفانو، التي ترفض مبدأ القاء السلاح، نظراً لما تراه "تهديدات مبررة" من قبل غريمتها في تيغراي.
وهذه المواجهة التي حشد لها آبي أحمد إمكانات الدولة العسكرية والمالية والإعلامية، لدفع المجموعة المسلحة إلى إحدى الخيارين الأساسيين، إلقاء السلاح والعودة للحياة المدنية، أو ادماج عناصرها في الجيش النظامي، تتعارض مع التوجه العام لهذه المجموعة القومية التي انتشت بانتصارها في حرب تيغراي.
ومثلت الحملة العسكرية التي بدأت بتفويض من مجلس الوزراء الإثيوبي، النقطة الرئيسة التي أفاضت كأس التوافق بين أديس أبابا وما تبقى من القوى السياسية الأمهرية، علاوة على الشخصيات الأمهرية النافذة، والمعروفة بدعمها لحكومة آبي أحمد، وعلى رأسها السياسي الشهير أندرقاتشو ظقي، الذي ظل مستشاراً لرئيس الوزراء والداعم الأكبر لسياساته، إذ قرر الانضمام إلى قوى المعارضة الأمهرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"أندرقاتشو" برر إدارة ظهره لآبي أحمد بأن الأوضاع في إثيوبيا عادت إلى نقطة الصفر، واصفاً "الوضع الحالي بأسوأ من عهد جبهة تيغراي". وقال في حوار صحافي بعد مغادرته البلاد "إنه لن يبقى أسيراً للرجل الذي حرره من السجن"، موضحاً أن الوضع الحالي لا يسمح بممارسة أي دور سياسي معارض من الداخل مما اضطره للجوء إلى الخارج.
مستشار رئيس الوزراء الإثيوبي اتهم السلطة في أديس أبابا بعقد اتفاقيات سرية في نيروبي مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، ونقض كثيراً من بنود اتفاقية بريتوريا، ما يعني أن ثمة تحالفاً جديداً نشأ بين أقطاب القوى القديمة.
من جهته، قال وزير الخارجية الإثيوبي السابق غيدو أندرقاتشو، "إن السلطة الحالية هي المسؤولة عن خلق الأزمات في أكثر من إقليم، وعوض حلها بالطرق السلمية تلجأ دائماً لمحاولات الحل العسكري، دون الاستفادة من تجارب الأربع أعوام الماضية".
واتهم "قيادات حزب الازدهار الذي يتبع له بإحداث قطيعة سياسية مع شعب الأمهرة"، زاعماً "أن العلاقات بينهما بلغت درجة يصعب إصلاحها". كما شن "غيدو" الذي خرج من وزارة الخارجية في التعديل الحكومي الأخير، هجوماً لاذعاً من تحت قبة البرلمان الإثيوبي على "الحملة العسكرية القائمة في إقليم أمهرة".
في المقابل، رد ممثل الحكومة الإثيوبية على خطاب وزير الخارجية السابق بدعوته إلى تذكر مواقفه أثناء الحملة العسكرية في إقليم تيغراي، التي حملت ذات المسمى والهدف.
بناء وفض التحالفات
بدوره، رأى المتخصص في شؤون القرن الأفريقي عبدالرحمن أبو هاشم، أن هناك غضباً عارماً في أوساط النخب السياسية الأمهرية، التي ترى أن ثمة خيانة مورست بحقها، على رغم أنها كانت إحدى العوامل الرئيسة لوصول آبي أحمد للسلطة 2018، ثم الحليف له في حرب الشمال (2020-2022) عندما حاولت جبهة تيغراي إسقاط نظامه.
وأشار إلى أن تحول مواقف السلطة الحالية قد أعاد ترتيب الخلافات السياسية بشكل جديد، منوهاً إلى "وجود خلل في بنية النظام السياسي الإثيوبي، عززه الأداء الضعيف لرئيس الوزراء الحالي، إضافة إلى الضغوط الغربية المتمثلة في العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، وانفلات الأمن وحال عدم الاستقرار في عموم إثيوبيا، ما يوحي إلى أن البلد يعيش تحت أخطار قد تحوله إلى دولة فاشلة، بخاصة أن طبيعة الصراعات قائمة على أساس الهوية العرقية والمناطقية والدينية، مما ينذر بتفكك الدولة المركزية، وقيام دويلات عرقية صغيرة".
وتابع "أن ما نشاهده اليوم، من سعي القوميات، خصوصاً أورومو وأمهرة وتيغراي، لبناء جيوش توازي جيش الدولة النظامي في العدد والعتاد، قد يشي بشكل الدويلات التي يزمع إقامتها على أنقاض الدولة المركزية".
ويقرأ المتخصص في شؤون القرن الأفريقي، المشهد السياسي الحالي، بقوله "لم تستطع السلطة الحالية، بناء تحالفات قوية ومستدامة، وعلى العكس من ذلك نلاحظ فقدانها للتحالفات التي بنتها في الداخل مع الأمهرة، وبعض نخب تيغراي وأورومو، إذ خسرتها لعوامل عدة، من بينها الحروب المشتعلة في أقاليم عدة بشكل متعاقب وأحياناً متواز".
واعتبر أبو هاشم "أن الحل الأمثل في هذه الحالات، ليس بناء أو فض التحالفات القائمة، بل الدعوة إلى مؤتمر للمصالحة الوطنية، يناقش أوضاع البلاد التي أضحت تهدد بقاء واستمرارية الدولة ككيان سياسي، والخروج بسلطة وحدة وطنية انتقالية لإدارة مرحلة انتقالية متفق عليها".
نصيب الأسد أو الفوضى
من جهته، قال المتخصص في الشأن السياسي الإثيوبي، عبدالشكور عبدالصمد، إن الأزمة الحالية ناتجة من تعاظم مطالب "نخب الأمهرة الراغبين في إلغاء النظام الفيدرالي الحالي، والعودة للنظام المركزي القديم"، مشيراً إلى أنهم يرون أن ذلك يحقق لهم "الهيمنة والحصول على نصيب الأسد في السلطة والثروة".
وأقر عبدالصمد بأن ثمة عوامل أخرى للوضع الحالي من بينها، "إيقاف الحرب على تيغراي وعدم القضاء على الجبهة، والدخول في المفاوضات وما نتج منها، إذ تخشى هذه النخب الأمهرية من عودة المناطق المقتطعة لإقليم تيغراي (وهما مقاطعتا والقيت وراية)، ليصبح الخلاف حول ملف نزع سلاح الميليشيات، وإلغاء القوات الخاصة في الأقاليم ودمجها بالجيش أو الشرطة بمثابة القشة التي قطعت شعرة معاوية بين الطرفين.
وقلل من تأثير الأصوات التي كانت نافذة داخل السلطة، وتعارض الآن إدارة آبي أحمد، قائلاً "وزير الخارجية السابق، نائب في البرلمان، ومواقفه الأخيرة بمثابة دغدغة للرأي العام الأمهري، في ظل الأزمة الحالية".
ويعتقد أن "الصوت الأعلى الآن في المشهد الإثيوبي، هو صوت اليمين المتطرف من القوميين الأمهرة، وهؤلاء لا يقبلون بحلول وسط، ويسعون لفرض رؤيتهم ومشروعهم على الدولة والمجتمع الإثيوبي، مما يجعلهم في صدام وعداء مع الجميع".
ونفى صحة ما يتردد عن مساعي نظام آبي أحمد إلى إعادة بناء التحالفات وفق الشكل الذي كانت عليه قبل عام 2018، زاعماً "أن العلاقات القائمة بين حزب الازدهار الحاكم والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، تهدف بالأساس إلى تنفيذ اتفاق بريتوريا".
وفي ما يخص التوافقات التي تمت بخصوص سيطرة جبهة تحرير تيغراي على مقاليد الحكم في الإقليم، خلافاً لبنود الاتفاقية، يرى أن ذلك عائد إلى عدم وجود "أحزاب حقيقية في تيغراي لأن الجبهة خلال فترة حكمها الممتدة لثلاثة عقود لم تترك فرصة لقيام كيانات سياسية منافسة لها"، لذلك فقد تم التوافق على تأسيس إدارة موقتة لحين الانتهاء من ترتيب الأوضاع في جوانب مختلفة، منها منطقة غرب تيغراي وجنوبها التي يسيطر عليها الأمهرة، ويتوقع البت فيها قريباً، تمهيداً للتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام.