بصوت خليط بين لكنة شامية ولهجة مصرية ترتفع تكبيرات العيد هذا العام في عدد من الأحياء المصرية، وبين بشرة سمراء وأخرى خمرية ترتسم ابتسامات وفرحة العيد في عيون زرقاء وأخرى لوزية، ولهجات اختلفت بين السورية والعراقية والسودانية وغيرها، ليستقبل المصريون العيد في شكل لا يتكرر كثيرا، وسط عدد لا يستهان به من الجاليات العربية التي اندمجت بشكل أكبر في السنوات الأخيرة داخل المجتمع المصري، وأصبحت تترك بصمة واضحة، بخاصة في المناسبات والأعياد، لتتحول معها الأحياء المصرية إلى نسيج اجتمعت في تكوينه ثقافات وعادات وطقوس مختلفة تركت بصمة مميزة بفضل هذا التجانس، فطقوس العيد يتبادلونها معا في بهجة بإضفاء جو جديد ولمسات مختلفة تكسر الشكل التقليدي المعتاد للاحتفال بعيد الأضحى بطابعه المصري ليتشاركوا طقوسهم معا.
تمتد "الشاكرية" و"التسقية" السورية للحاج "نمرة"، ابن الشام، على مائدة الحاج "محمد عبده" المصري، ورائحة "الفتّة" باللحم الأحمر تتجانس مع رائحة لحم "الشاكرية" وتوابلها الشامية المنغمسة في اللبن في مزيج يجمع شعبين على مائدة واحدة، في مظاهر جديدة من نوعها لم يألفها المجتمع المصري، تضفي سعادة من نوع آخر.
"العصيدة" و"التسقية" و تكبيرات العيد
تستفيق الحاجة "فاطمة" الستينية على تكبيرات العيد صباح أول يوم من أيام عيد الأضحى بمسجد بحي فيصل بمحافظة الجيزة وتبتسم بعد سماعها أصوات الصغار مع المؤذن الذي يردّد تكبيرات العيد ويحثهم على ترديدها، تسمع لكنة شامية وسط الأطفال المميزين بلهجتهم المصرية الخالصة، فيعتريها شعور مختلف بالسعادة وتستعد للمرور هي وزوجة ابنها الأكبر على جارتها الحاجة "أم نضال" السورية، التي تقطن في الطابق السفلي هي وأبناؤها منذ 3 سنوات، ويمررن في طريقهن على "سعدية"، الفتاة الثلاثينية السودانية، التي فقدت زوجها لتتبناها الحاجة "فاطمة"، يصطحبانها وسرعان ما تنتهي الصلاة.
يعودون جماعة وسط الأحفاد الصغار والأولاد الذين يلهون في سعادة، يرتدي كل منهم زيه الذي لا زال يتمسك ببصمته الخاصة، مع تفاصيل صغيرة مقتبسة من ثقافة الآخر، في اندماج واضح برغم الاختلافات. يصعد كل منهم إلى منزله، لتسارع الحاجة "أم نضال" في إرسال أطباق من "التسقية"، التي تعدّ أهم طقوس السوريين التي تتميز بها مائدة الإفطار في عيد الأضحى كما عوّدتهم خلال السنوات الثلاث الماضية، فلا تتواني "سعدية" هي الأخرى في إرسال أطباق "العصيدة"، التي تتقن طهيها إليهن، والتي تعد أبرز طقوس السودانيين عقب العودة من صلاة العيد.
"المرارة" و"الشاكرية" و"الفتة"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمتد مائدة الحاج محمد عبده المصري، زوج الحاجة "فاطمة"، التي ما إن تناولت مع الأسرة الفطور المميز بنكهة "التسقية" السورية و"العصيدة" السودانية، حتى شرعت في إعداد ولائم الغداء، وفق بروتوكول "الفتة" المصري، لتمتد مائدة طويلة تجمع العائلات الثلاث، ولكن سرعان ما يدخل عليهم الحاج "نمرة" السوري، وفي يده صينية يعلوها صواني من لحم "الشاكرية" السوري المغموس في اللبن الساخن والتوابل الشامية. يضع بصمته هو الآخر لتتصاعد روائح "الفتة" مع "الشاكرية"، تزاحمها رائحة "المرارة" السودانية، التي يحملها الابن الأكبر لـ"سعدية"، وهي من خلفه تبتسم وتنظر باتجاه طواجن "الفتة" التي اشتاقت لها، وتبادلها الحاجة "فاطمة" الابتسامة، يلتف الجميع حول المائدة البسيطة، يتبادلون طقوس العيد في بهجة.
"الهريس" و"العصبان"
وعلى الجانب الآخر وبأحد أرقى الأحياء المصرية بحي "مدينتي"، بحكم حداثته يضم عددا كبيرا من الجاليات المختلفة، وعلى رأسها الجالية السورية.
تقول دينا حمدي، الثلاثينية، والتي تعمل مدرّسة بالمدرسة البريطانية في "مدينتي"، إن "السوريين أكثر الجاليات انتشارا لدينا. أسكن أسفل جارتي السورية والتي تجمعني بها علاقة صداقة بحكم الجِيرة، وعلى الرغم من اختلافهم في طريقة احتفالهم بالأعياد عن أسلوبنا كمصريين، لكن كلٌ منا يدعو الآخر إلى منزله في أحد أيام العيد، ونقضي اليوم معاً على الطابع المصري، من فتّة ومشاوي وغيرها، ثم نعيش الأجواء السورية معا أيضا، أحيانا نجتمع بالنادي نحن وأصدقاؤنا التوانسة والمغاربة على مائدة طويلة، تتبارى كل واحدة في المشاركة بالأصناف التي تعد من طقوس العيد، فتأتي (سارة) المغربية بأكلتهم الشهيرة التي يطلق عليها (البولباف)، ويأتي بالقاسم التونسي هو وزوجته بطبق (العصبان) الشهير لديهم، ما يضفي بهجة على العيد من خلال إلقاء النكات على طريقة كل واحد منا في الاحتفال بالعيد، ولكن غالبا ما يكون عددنا نحن كمصريين أكبر، يصل إلى ثلثي عدد أصدقائنا من الجاليات الأخرى بالمدينة والنادي".
أما إبراهيم محمد، دكتور صيدلي، يقطن بنفس المدينة، يوافق دينا حمدي الرأي في كثافة عدد الجاليات السورية في المدينة مقارنة بغيرها، مضيفا أن "طقوس العيد بخاصة صلاة العيد في تلك الأجواء مع أصدقاء عرب من مختلف الجاليات تضفي لونا جديدا وغير تقليدي على الصورة النمطية لشكل العيد الذي اعتاده المصريون ما يجعل للعيد بهجة مختلفة".
فتة مصري على مائدة عراقية
ريم العراقية، الأربعينية والمتزوجة من مصري وتعيش بحي شبرا، تقول إنها تعشق مصر وتعشق أجواءها في الأعياد، ودفئها، وهذا السبب كان عاملا رئيسا وراء زواجها من مصري برغم "جفاء طبعه وشدته أحيانا"، لكنها تتمسك بالحياة معه حباً في دفء مصر وجوها الذي أصبح مألوفا لها أكثر من أي دولة زارتها، مؤكدة أنها على الرغم من تمكنها من طهي الأكلات المصرية التي يحبها زوجها في العيد، والتي تحبها أيضا، لكن دائما ما تجمع مائدتها بين الفتة المصري في الأعياد والأكلات العراقية.
من ناحية أخرى، اشترى أبو عبد الله السعودي لنفسه وأسرته عقارا خاصا بحي حدائق الأهرام، ليسكن أمام الأهرام مباشرة حتى يقضي فيه إجازته الصيفية والأعياد، ويبدي تعلقا كبيرا بمصر، وعلى الرغم من أن أطباق "الحميس" و"العريس" و"المرقوق" و"كبسة اللحم" هي أكثر الأكلات الشهيرة بالسعودية، لكنه يحب "الفتة" المصرية، ويرى في مذاقها سحرا خاصا، وكان منذ سنوات يطالب جيرانه من المصريين بعملها من أجله ومبادلتهم الهدايا التذكارية التي يحملها لهم من الحرم المكي حتى يعبر عن امتنانه لهم، ولكن مع انتشار مطاعم "الأكل البيتي" المصري أصبح يستطيع الحصول عليها بسهولة دون حرج، مؤكدا أن الدفء الذي يشعره وسط المصريين في الأعياد يظل له طابع مميز.