ملخص
العلاقة بين حمزة، رسّام الخرائط السوري، القادم من حمص والمعتقَل في قاعدة عسكرية بريطانية، من جهة، ونيفين الويلزية، المقيمة في كوخ على شاطئ البحر، من جهة ثانية، هي محور الأحداث في رواية "الجُرف" للكاتبة الويلزية كاريل لويس
العلاقة بين حمزة، رسّام الخرائط السوري، القادم من حمص والمعتقَل في قاعدة عسكرية بريطانية، من جهة، ونيفين الويلزية، المقيمة في كوخ على شاطئ البحر، من جهة ثانية، هي محور الأحداث في رواية "الجُرف" للكاتبة الويلزية كاريل لويس، الصادرة حديثاً عن "الدار العربية للعلوم - ناشرون"، بتعريب ربيع الهندي. ومن خلال هذه العلاقة المحورية، تطرح الكاتبة أسئلة الحرب والوطن والهوية والعلاقة بين الشمال والجنوب والحب والعنصرية والهجرة غير الشرعية والاستبداد السياسي والفساد العسكري وسواها من الأسئلة التي يزخر بها العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية في هذه اللحظة الروائية التاريخية. على أن "الجُرف" هي الرواية الأولى بالانجليزية لصاحبتها التي تعيش مع أسرتها في مزرعة أبيريستويت، وتجمع بين كتابة الرواية والكتابة للأطفال والتأليف المسرحي وكتابة السيناريو والتعليم الجامعي، وقد سبق لها أن نالت جوائز عن هذه الاهتمامات المختلفة.
لا بدّ، قبل الخوض في مجريات العلاقة، من إلقاء الضوء على طرفيها؛ فحمزة مهاجر سوري غير شرعي، هارب من جحيم الحرب السورية. وقع عليه ظلمُ النظام الذي قتل زوجته وتحكّم بوظيفته ودمّر مدينته، وظلمُ الحلفاء الذين استعانوا به لتصويب خرائطهم ثم اتهموه بالخيانة. حتى إذا ما هرب من هذا الظلم المزدوج بطريقة غير شرعية يجد نفسه معتقَلاً في قاعدة بحرية بريطانية، يتعرّض فيها لشتى أنواع التعذيب والعنصرية. ويتّخذ قرار إنهاء حياته بالإضراب عن الطعام، لولا لمسات إنسانية من طبيب المعتقل تعيد ربطه بالحياة.
أمّا نيفين فهي نتاج علاقة هجينة بين أبٍ من اليابسة وأمٍّ من البحر، تقيم وحدها مع أخيها في كوخ على الجُرف، بعد مغادرة أمّها وغرق أبيها، وتمتلك قدرات خارقة ورثتها عن الأم، وتعيش في داخلها أكثر ممّا تعيش في الخارج. وحين تجد أن ما تعيشه على اليابسة هو نصف حياة، تقرّر العودة إلى البحر لتعيش حياة كاملة. وهكذا، نكون إزاء شخصيتين مختلفتين تضعهما الأقدار وجهاً لوجه، وترسم لكل منهما مساره ومصيره اللذين يتقاطعان في نقاط كثيرة.
شخصيتان معلّقتان
والمفارق أنّ الشخصيتين كلتيهما موجودة على الحافّة، وتترجّح بين حيّزين زمنيّين أو مكانيّين أو نفسيّين. ولعل هذا التموضع هو سرُّ عدم استقرار كلٍّ منهما، حتى إذا ما أصبحت الشخصية في أحد الحيّزين، بفعل الضرورة أو الاختيار، تتحرّر من الجرف ووسطيّته غير المستقرة. وفي هذا السياق، يبدو حمزة معلّقاً بين: الوطن والمنفى، الحياة والموت، الاعتقال والحرية، العنصرية والتعاطف، الإقامة والعودة. بينما تبدو نيفين معلّقة بين: البر والبحر، نصف الحياة وكلّها، الواقعية والسحرية، الإمكانات المحدودة والقدرات الخارقة، البقاء والرحيل. وهكذا، يكون ثمة تناسب بين عنوان الرواية ووضعية طرفي العلاقة المحورية؛ فـ"الجرْف"، في اللغة، هو "الجانب الذي أكله الماء من حاشية النهر"، وفي الرواية، هو الحافة الفاصلة بين اليابسة والبحر والمهددة بالانهيار بفعل صراع المد والجزر. هذا المكان الروائي يُشكّل بيئة روائية حاضنة مناسبة لطرفي العلاقة المحكومين بعدم الاستقرار.
بالعودة إلى مجريات العلاقة، يشكّل عثور نيفين على حمزة فاقداً الوعي وقد جرفه التيار إلى الشاطئ بعد انهيار الجرف وانقلاب الشاحنة التي كانت تقلّه إلى معتقل آخر، بداية العلاقة بين الطرفين. ويُشكّل تهريبه عبر البحر بواسطة مركب شراعي خشية اعتقاله مجدّداً، نهاية العلاقة. وبين البداية والنهاية مجموعة من الوقائع الروائية يقوم بها بطلا الرواية، تعرف خلالها العلاقة أطواراً متعدّدة، تبدأ بالشفقة والاهتمام، وتمرّ بالتعاطف والتفاهم والتناغم، وتبلغ الذروة بالحب العابر لكل أنواع الحدود. أمّا الوقائع التي تقوم بها نيفين فهي: تمديدُ حمزة في قارب أبيها، تدفئتُه بالشراع، غسلُ كدماته، تغييرُ ثيابه، إخفاؤه عن عيون الشرطة، أخذُه إلى الكوخ، إطعامُه، جعلُه ينام في غرفة أخيها، التصدّي للأخير حين حاول طرده من الكوخ، واستخدام قدراتها الخارقة لإبعاد الحارس أوينز عنه والعثور على بوصلته التي رماها الأخير في البحر. وحين تستشعر نيفين خطر القبض على حمزة واعتقاله مجدّداً، تضحّي بحبّها له، وتتدبّر، بمساعدة أخيها جوزف وجارها البحار إيمريس، أمر تهريبه بحراً ليعود إلى بلاده، غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهته، يقدّر حمزة اهتمام نيفين به ووقوفها إلى جانبه وحمايته من الشرطة، فيطمئن لها ويثق بها وينجذب نحوها، ويُفضي لها بحكايته، ويتبادل معها الاهتمامات المشتركة، ويقضيان أوقاتاً ممتعة معاً يأنس فيها أحدهما إلى الآخر. ويقوم بإصلاح ألواح الكوخ الخشبية، وينقل إليها حرارته ليعتاد جسدها على فكرة الحياة حين تعود من البحر متجمّدة من البرد. وتبلغ العلاقة الذروة حين يمارسان الجنس في غمرة انجذاب أحدهما إلى الآخر، فتعرف معه أقصى درجات السعادة، وترى فيه حبيبها الذي انتظرته سنوات طويلة. غير أنه حين يطلب منها أن تغادر معه إلى بلاده ليبدآ حياة جديدة على جُرف آخر، تعتذر عن عدم قدرتها على مغادرة المكان الذي وُلِدت فيه. وهو ما تفعله بعد أن استشعرت موته غرقاً، فتعود إلى البحر من حيث أتت أمّها، لعلّها تحظى بحياة كاملة لم تعش أكثر من نصفها على اليابسة. وهكذا، تكون العلاقة المحورية في الرواية بين شخصية واقعية يطاردها الظلم في الوطن والمهجر وأخرى واقعية سحرية تمتلك قدرات خارقة، وتستخدمها لتحقيق أهدافها. غير أن خللاً بنيوياًّ يعتور هذه الشخصية الأخيرة، ففي الوقت الذي تستطيع فيه نيفين تحريك العواصف البحرية والتنبؤ بها والتأثير في مصائر الآخرين والعثور على بوصلة في قاع البحر، نراها تمتثل لتعليمات أخيها بتناول أقراص مهدّئة، وتَجَنُّب الخروج من الكوخ، وعدم التعاطي مع الجارة إيفا، ما يطرح عملية بناء الشخصية على بساط البحث.
منظورات مختلفة
إلى جانب هاتين الشخصيتين المحوريتين، ثمّة شخصيات أخرى تتعالق معهما أو مع إحداهما، بعلاقة أو بأخرى، وهي شخصيات غربية تنسف التصنيف الأحادي للآخر الغربي، وتمثّل التعدّد في زوايا النظر إلى الشرقي. ففي الوقت الذي ينزل الحارس العنصري أوينز أشد التعنيف بالمعتقل حمزة، ويرى فيه مجرّد إرهابي، ويصادر البوصلة التي أورثه إياها جدّه ويرميها في البحر، ويتسبّب في تحطيم بعض أضلاعه، بتواطؤ من الحارس الآخر أدلي، وصمت مريب من المسؤولين عن المعتقل، يقوم الطبيب بمدّ يد المساعدة له، وإقناعه بفكّ الإضراب عن الطعام، وإعادة ربطه بالحياة، ويدفع حياته خلال مواكبته إلى معتقل آخر. ويقوم البحار السابق إيمريس بترميم القارب، وقيادته لإخراج حمزة من المنطقة، والتضحية بنفسه في سبيل إنجاز تلك المهمة. وتقوم زوجته إيفا بدورها في التغطية على حمزة، وكتمان أمره عن المتربّصين به شراًّ. ويقوم جوزف باتخاذ التدابير الآيلة لإنجاح المهمة، نزولاً عند رغبة أخته. على أن المنظور الأرقى في هذه الزوايا المختلفة هو ذاك الذي تمثّله نيفين التي تنخرط مع حمزة في علاقة حبٍّ رومنسية، تتخطّى فيها حواجز الهوية واللغة والدين والقومية، وترى إلى الآخر المختلف من منظور إنساني متقدّم، فتُقدّم مصلحة حبيبها على مشاعرها، ولا تتورّع عن التضحية بنفسها والعودة إلى البحر حين تستشعر موته.
ثمّة في "الجُرف" طرح مختلف لسؤال العلاقة بين الشمال والجنوب، من المنظور الغربي، نقع فيه على تعاطٍ مغاير مع الآخر الشرقي، يبدأ بالاهتمام، ويمرّ بالتعاطف والتضامن، ويبلغ الذروة بالحب الإنساني العابر للحدود. فهل الرواية هي محاولة لتجميل صورة الغرب في عيون الشرقيين بعد أن ألحقت بها الأحداث التاريخية الكثير من التشويه؟