ملخص
الأخطار التي هددت جاكرتا دفعت بالحكومة الإندونيسية ورئيسها، جوكو ويدودو، إلى إطلاق مشروع ضخم لمدينة ذكية وخضراء على غرار المدن الذكية في آسيا والعالم
أعلن الرئيس الإندونيسي، جوكو ويدودو، عن تخصيص قرابة ثلاثة مليارات دولار العام المقبل لاستكمال بناء عاصمة إندونيسيا الجديدة استعداداً لنقلها من جاكرتا. بدأ التخطيط لمشروع العاصمة الإندونيسية الجديدة عام 2019 عقب فوز الرئيس جوكوي في انتخابات الولاية الجديدة له. القرار التاريخي له جذور بدأت عقب استقلال إندونيسيا في خمسينيات القرن الماضي. وتتميز العاصمة "نوسانتارا" بكونها مدينة جديدة ذي طراز ذكي مستدام أخضر تعمل بالطاقة المتجددة، تماشياً مع رؤية إندونيسيا للوصول إلى حالة صافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2060 وأن تصبح مركزاً اقتصادياً جذاباً في الأرخبيل.
جاكرتا في خطر
تعد إندونيسيا من أعلى الدول سكانياً حيث يبلغ عدد سكانها ما يزيد على 270 مليون شخص. كما تقع إندونيسيا في منطقة تُعرف بـ "حزام النار" والتي تجعل غالبية جزرها، وبخاصة جاوة والتي تقع فيها العاصمة، عرضة للكثير من الزلازل والانفجارات البركانية وموجات التسونامي.
وأنذرت تقارير دولية عدة بأن العاصمة الإندونيسية جاكرتا مهددة بارتفاع مستويات مياه البحر مما قد يعرضها للغرق خلال السنوات المقبلة. وتذكر تقارير أن مستويات غمر جاكرتا بالمياه خلال الوقت الحالي تنذر بالخطر، إذ تصل مستويات المياه إلى 11 بوصة سنوياً في المناطق الشمالية مع وجود حوالى 40 في المئة من المدينة تحت مستوى سطح البحر. فيما تتعرض جاكرتا بين الحين والآخر إلى فيضانات ضخمة تتسبب في خسائر بشرية واقتصادية كبرى، ففي عام 2020، تعرضت العاصمة الإندونيسية إلى فيضانات هائلة أدت إلى نزوح عشرات الآلاف من السكان من العاصمة كما خلّفت عشرات الضحايا. ومن المتوقع غرق ثلث المدينة بحلول عام 2050 بسبب استخراج المياه الجوفية غير المنضبط وارتفاع مستويات بحر جاوة نتيجة التغير المناخي.
وتعاني العاصمة القديمة جاكرتا من مشكلات عدة كارتفاع معدلات التلوث، حيث سُجِلَت جاكرتا في تصنيف العام الحالي كأكثر مدينة ملوثة عالمياً نتيجة ارتفاع نسبة ملوثات الهواء في الجو إلى مستويات غير صحية. كما يقطنها 10 ملايين شخص منهم نحو 30 مليون نسمة في منطقة العاصمة الكبرى مما يسبب اختناقات مرورية، كذلك أصبحت العاصمة خالية من المساحات والأماكن. وأشارت الحكومة الإندونيسية أخيراً إلى أن الاختناق المروري في جاكرتا يكبد الدولة ما يزيد على 4.5 مليار دولار من الخسائر الاقتصادية كل عام.
عاصمة ذكية
الأخطار التي هددت العاصمة التقليدية لإندونيسيا جاكرتا دفعت بالحكومة الإندونيسية ورئيسها، جوكو ويدودو، إلى إطلاق مشروع ضخم لمدينة ذكية وخضراء على غرار المدن الذكية في آسيا والعالم. حيث أكد جوكو ويدودو بعد فوزه في انتخابات الفترة الثانية عام 2019، البدء في تنفيذ مشروع العاصمة الجديدة، فيما وضعت اللجنة المختصة قائمة مصغرة للأماكن المقترحة للعاصمة الجديدة، فكان إقليم كليمنتان هو الأكثر ترجيحاً لاقترابه من مركز إندونيسيا.
تقع العاصمة الجديدة المخطط لها "نوسانتارا" في شرق كليمنتان بجزيرة بورنيو، والمعروفة بطبيعتها المغايرة لجاكرتا، إذ تمتلئ بالغابات المطيرة. وتعود أصل فكرة نقل العاصمة لفترة الاستقلال مع أول رئيس إندونيسي، الرئيس سوكرانو، الذي كان يخطط لنقل العاصمة إلى بالانغكارايا في كلمينتان، كما طُرِحت الفكرة مجدداً من قبل الرئيس الأسبق يودهويونو، ولكن نقل العاصمة لم يدخل حيز التنفيذ الفعلي والتشكل الحقيقي إلا مع تولي حكم الرئيس الإندونيسي جوكوي. في البداية، كان من المفترض البدء في العاصمة الجديدة في عام 2020، ومع جائحة "كوفيد-19" توقف العمل لفترة، واستؤنف العمل فعلياً في 2021، فيما أُعلِن عن اسم العاصمة في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي. ويعني اسم العاصمة "نوسانتارا" الأرخبيل باللغة الإندونيسية.
يبلغ حجم نوسانتارا حوالى 2561 كيلومتراً مربعاً، وتخطط الإدارة الإندونيسية لتدشين المرحلة الأولى من المشروع وافتتاح المدينة العام المقبل، وذلك من خلال تنظيم احتفالات الاستقلال في أغسطس (آب) المقبل بالعاصمة الجديدة، وفق الخطط التي تداولتها وسائل الإعلام الإندونيسية. وتعمل الحكومة الإندونيسية على تجهيز محفزات لجذب المستثمرين الأجانب للاستثمار في العاصمة الجديدة "نوسانتارا"، ومن المتوقع أن تضخ الحكومة الحالية أكثر من 35 مليار دولار لبناء عاصمتها الذكية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتهدف الحكومة الإندونيسية إلى جعل العاصمة الجديدة مركزاً اقتصادياً يجذب مختلف الأعمال من الصناعات والطاقة الجديدة والرعاية الصحية. حيث يؤكد رئيس متابعة تنفيذ وتطوير البنية التحتية في وزارة الأشغال العامة والإسكان الإندونيسية، دانيس سوماديلاجا، أن رغبة الحكومة لا تتمثل في نقل العاصمة فقط للوظائف الحكومية، ولكن أيضاً لبناء مركز اقتصادي جديد وجذب المستثمرين في مجالات الطاقة الجديدة والتعليم والرعاية الصحية، مع الاستمرار في تطوير العاصمة التقليدية جاكرتا.
كما تسعى الحكومة لجعل مدينتها الجديدة مدينة خضراء ذكية، حيث صرح الرئيس الإندونيسي مسبقاً أن 70 في المئة من العاصمة الجديدة مخصصة للأماكن الخضراء، كما سيتم ضمان الاستدامة البيئية للمدينة، تماشياً مع سياسة إندونيسيا في الوصول إلى صافي صفر انبعاثات كربونية بحلول عام 2060. وستعتمد العاصمة الجديدة بشكل كامل على الطاقة المتجددة، وستُخصَص نحو 10 في المئة من مساحة الأراضي بالمدينة لزراعة الأغذية. فيما تشير تقارير اقتصادية إلى أن نقل العاصمة الإندونيسية قرب المركز الجغرافي للأرخبيل من الممكن أن يعزز التنمية في المناطق البعيدة والأقل تطوراً. ففي الماضي، كانت مشروعات البنية التحتية تتركز في جزيرتي جاوة وسومطرة.
وتقدر الحكومة الإندونيسية أن يصل عدد سكان العاصمة المرتقبة إلى 60 ألف شخص بحلول العام المقبل، والوصول إلى حوالى مليوني شخص بحلول 2040 والارتفاع إلى أربعة ملايين شخص في 2060.
معارضة ومخاطرة
المشروع الضخم الذي اتخذته حكومة الرئيس الحالي على عاتقها لنقل العاصمة، واجه معارضة ومخاوف من خبراء البيئة وبعض معارضي الحكومة. وينتقد بعض خبراء البيئة العاصمة الجديدة "نوسانتارا" وما يمكن أن تسببه للغابات في المنطقة، إذ يحذر الخبراء من إزالة الغابات نتيجة بناء العاصمة، وتهديد أنواع من الحيوانات المهددة بالانقراض وتعريض منازل السكان والمجتمعات الأصلية للخطر. فقد حذرت منظمة إندونيسية غير حكومية مختصة بالبيئة في تقرير لها العام الماضي من أن غالبية مناطق الغابات في العاصمة الجديدة تصنف كغابات منتجة بما يمكن أن يزيد من أنشطة إزالة الغابات، كما يشكك التقرير في ضمانات الحكومة بشأن حماية الغابات الطبيعية المتبقية في منطقة العاصمة الجديدة.
ويرى المنتقدون للمشروع والمعارضة أن قرار نقل العاصمة وخطة بناء العاصمة الجديدة جاء متسرعاً من دون الحصول على استشارات ودراسات كافية، مما يثير الشكوك عن كون تطوير العاصمة سيتحول إلى محاولة لبناء إرث سياسي للرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو. فيما شكك الأطراف في نجاح العاصمة الجديدة في جذب المستثمرين وما قد يكبده المشروع من تكلفة على موازنة الدولة الإندونيسية.
على خطى نيوم
خلال السنوات الأخيرة، يتجه الكثير من الدول إلى بناء المدن الجديدة. وعلى رغم أن بناء المدن الكبرى ليس أمراً جديداً، لكن التحولات الحالية على مستوى المقياس والتوزيع الجغرافي هو ما يعد طفرة خاصة بالعقود الأخيرة. بدأت العديد من دول الجنوب في تقدير المدن الجديدة وذلك لمجابهة التحديات التي تواجه مدن هذه البلدان مثل الازدحام المروري وزيادة السكان وغيرها، إلى جانب تسريع التوسع الحضري والركود الاقتصادي، وتعزيز الحلول من أجل الإدماج الاجتماعي والاستدامة البيئية.
فيما سبقت إندونيسيا دول مجاورة في أوائل الألفينات كماليزيا وعمل عدد من دول آسيا وأفريقيا على بناء مدن جديدة كبوتراجايا في ماليزيا ونايبيداو في ميانمار وكانجباشي في الصين. بعض المدن الجديدة تُبنى لتصبح مراكز سياسية جديدة أو مركزاً لوجستياً أو مركزاً للتجارة والتمويل والتقنية، وجميع هذه المدن تتشارك في أمر واحد، أن تكون محركاً طويل الأجل للنمو الاقتصادي.
ويسهم بناء المدن الجديدة في استيعاب المطالب العامة بمزيد من المساحات الحضرية للدول التي تتسم بزيادة تعدادها السكاني، كما تمثل فرصاً اقتصادية جديدة لهذه الدول تجذب مزيداً من المستثمرين المحتملين ورواد الأعمال ببنيتها التحتية الجديدة أكثر من المدن القائمة بالفعل.