Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المقام العراقي... تفاصيل الشجن في غناء الزمن

إرث تاريخي مهدد بالاندثار ومبدعوه: لا يمكنه الزوال إلا بانتهاء المجتمع نفسه

أساسه العمق التاريخي والعربي الإسلامي الذي يتمتع به العراق (أ ف ب)

ملخص

تغيب النساء عن أداء هذا اللون الغنائي فأعداد المطربات اللاتي غنين المقام العراقي لا تقارن بالرجال.

دائماً ما احتل فن المقام موقع الصدارة بين بقية الألوان الغنائية العراقية وقديماً لم يكن هناك سواه لدى الجمهور العراقي وتعود جذوره للعصر العباسي، لكن المقامات الموجودة حالياً ليست هي ذاتها المقامات التي كانت تغنى في ذلك العصر، إذ دخلت عليها تعديلات كثيرة وتلاقحت مع فنون من دول وشعوب أخرى.

تصاحب المقام العراقي الآلات الموسيقية التي تضم "السنطور" و"الكمان" (الجوزة) و"الطبلة" و"الرق" و"النقارة" وكان مجموع هذه الآلات يسمونه "الجوق البغدادي" (الجالغي البغدادي)، وللمقام قالب غنائي يتألف من أجزاء لها تسلسل بأسماء محلية معروفة، فالبداية تسمى "التحرير" والانتهاء يسمى "التسليم" وما بينهما هناك مجموعة من الأوصال والميانات والقرارات التي يرتلها مطرب المقام مع بعض الارتجال، ويمكن أن تقبل الإضافات اللحنية البسيطة المنسجمة ولكنها لا تقبل الحذف.

خصوصية المناطق

تمثل بغداد والموصل موطني المقام العراقي مع وجود اختلاف بينهما من حيث "التحرير" و"الميانات" و"الأوصال" وترتبيها، ففي الموصل لا يتقيد المطرب بترتيب أوصال المقام فبعد "التحرير" يأخذ أي قطعة تروق له، بينما في بغداد يقوم مطرب المقام بتحريره ثم يأخذ القطع والأوصال والميانات ويرتبها بحسب ما هو معروف، ومن بغداد والموصل انتقل المقام إلى محافظات أخرى مثل كركوك والبصرة وشمال البلاد.

 

 

يوضح الباحث في فن المقام العراقي موفق البياتي أن طرق قراءة المقامات تختلف من محافظة إلى أخرى فهي في كركوك تختلف عنها في الموصل وبغداد، وتكون الطريقة نابعة من البيئة وتحمل خصوصية المنطقة، وحتى طرائق القراءة تختلف من شخص إلى آخر بحسب إمكانه الصوتي وأسلوب حياته الاجتماعية.

تأثر موفق بوالده القارئ عبدالوهاب البياتي الذي سجل خلال الخمسينيات أكثر من 40 مقاماً في "إذاعة بغداد"، ودرس فن المقام على يد شعوبي إبراهيم وتوسع في الدراسة حتى أصبح أستاذاً لهذه المادة طوال 15 عاماً في معهد الدراسات الموسيقية وله كثير من المؤلفات التي تخص هذا الفن.

يقول البياتي "المقامات العراقية لم تبتكر في يوم واحد بهذا العدد وبهذه الرصانة، وجميع الموسيقيين والمتعمقين في دراستها والضالعين فيها متفقون على أنها ظهرت بشكل متعاقب وتجمعت بالتدريج على مر السنين".

التأثير والتأثر

يرى مطرب المقام العراقي حسين إسماعيل الأعظمي أن المقامات العراقية في مجملها أساسها العمق التاريخي والعربي العباسي الإسلامي الذي يتمتع به العراق، لكن ذلك لم يمنع تأثره بفن الموسيقى من حضارات أخرى "فهناك تأثيرات واضحة من تعابير موسيقى غرب آسيا وإيران وتركيا، فضلاً عن الاتصالات الثقافية بيننا والشعوب الأخرى عبر التاريخ وما ينتج منها من تلاقحات ثقافية تتسم بها كل الشعوب المعنية، فالتأثر والتأثير قائمان لا محالة في المقام العراقي".

 

 

ويدرس فن المقام العراقي بكل أنواعه في "معهد الدراسات الموسيقية" الذي تأسس عام 1970 ويمنح الطالب المتخرج فيه بعد خمس سنوات من الدارسة شهادة الديبلوم في الموسيقى الوطنية التراثية، كما أن المعهد يهتم بتدريس الآلات الموسيقية التراثية العراقية وهي "العود" و"القانون" و"السنطور" و"الجوزة" و"الناي".

في هذا السياق تقول الطالبة حوراء عدنان "خلال مراحلنا الدراسية بالمعهد نحظى بتعلم فن المقام العراقي وندرس ثماني مقامات أساسية وكل مقام يتفرع إلى فروع عدة منها ما هو شجي ومحزن ومنها ما هو مفرح".

أما الطالب مهند سعد، فيرى أن المعهد يضع تدريس المقام كأول أولوياته "ويتم تدريسه من الألف إلى الياء من ناحية تحرير المقام والقطع والأوصال والمقدمة الموسيقية والميانات".

ويذكر الطالب أسامة البياتي أن الهدف من دراسة المقام في هذا المعهد هو تخليد هذا الفن، موضحاً "ندرس المقام العراقي منذ المرحلة الأولى عزفاً وغناء وفق المدرسة العراقية التي أسسها محمد القبنانجي، ومن واجبنا أن نتعلم المقام العراقي ونقدمه مثلما هو لأنه يمثل هويتنا".

المنهج الدراسي

يشير الباحث في فن المقامات العراقية موفق البياتي إلى أن معهد الدراسات الموسيقية كان يعتمد في تدريس المقام على منهج وضعه شعوبي إبراهيم وشرح فيه أكثر من 50 مقاماً، وكان هذا المنهاج معتمداً في مرحلة السبعينيات والثمانينيات وهو مقسم على المراحل الدراسية، ومع بداية التسعينيات ترك هذا المنهج وأصبح الاعتماد على قابلية المدرس لشرح مادة المقام، مما أضر كثيراً بطبيعة تدريس هذا الفن".

ويشرح شعوبي إبراهيم في كتابه "دليل الأنغام لطلاب المقام" 40 مقاماً، ذاكراً أسماء القطع والأوصال لكل مقام وأرفقها بتسجيل على شريط، كما شرح هذه القطع في برنامج إذاعي غنائي مع الفنان يوسف عمر، ولم يسبق لأحد من القراء والعازفين أو المدرسين الذين لهم باع طويل في هذا المجال أن أنجز مثل هذا العمل المنهجي المهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويوضح مدرس آلة "السنطور" والمعاون الفني في "معهد الدراسات الموسيقية" هندرين حكمت علي أن المنهاج الذي وضعه شعوبي طرح كل المقامات العراقية بدراسة وافية كموسيقى وكغناء، ولم يكتف بالكتاب المنهجي بل قدم شرحاً كاملاً عبر أشرطة التسجيل لكي يستفيد منها الطلبة المكفوفون، وبعدها تحولت تفاصيل هذا المنهج إلى أقراص مدمجة، ثم أهمل هذا المنهج المهم، "لكننا نسعى في المعهد إلى تدريس هذا الفن بالطريقة ذاتها التي وضعها شعوبي ونأمل في تطويرها عبر غرف خاصة تضم شاشات عرض لتدريس هذا الفن صوتاً وصورة".

ويتخوف المتخصصون في فن المقام العراقي من تعرض هذا الفن للاندثار لعدم الاهتمام به، وفي هذا السياق يقول هندرين حكمت علي إن "هذا الفن ربما يندثر ولن نسمع به سوى على قنوات ’يوتيوب‘، إذ لا توجد برامج إذاعية أو تلفزيونية تقدمه كما كان يحدث في السابق، وكذلك ليست هناك صحافة مهتمة به".

ويتخوف علي أيضاً من تراجع تدريس هذه المادة بسبب تقاعد الأساتذة المتخصصين في فن المقام العراقي وعدم تعيين آخرين يسهمون في ديمومة تدريس هذا الفن، مضيفاً "نحتاج إلى متخصصين في دراسة الآلات الموسيقية بالمعهد، أو تعيين الطلبة المتميزين لتدريس طريقة العزف على هذه الآلات، كما يحتاج المعهد إلى عقود خاصة مع قراء المقام العراقي من أجل تعليمه للأجيال".

لا يمكنه الاندثار

احتفى مطرب المقام العراقي حسين إسماعيل الأعظمي بالذكرى الـ50 لاعتلائه خشبة المسرح وغناء المقام العراقي وأنشد خلال رحلته الطويلة في 80 بلداً، فيقول إن "الأسرة والبيئة اللتين عشت فيهما كانتا السبب المباشر لتعلقي واهتمامي بموسيقى المقامات العراقية وبغنائها. وكان والدي أول جمهوري من الأسرة، وهكذا بالتدريج وصلت إلى مسرح مقهى المتحف البغدادي في مطلع عام 1973".

ويرى الأعظمي أن "المادة التراثية بشكل عام لا يمكن أن تندثر وهذا ما تؤكده نظريات علم الفولكلور لأن التراث وليد الجماعة ومتى انتهى أي مجتمع كلياً، وهو أمر نادر في التاريخ، ينتهي كل ما له علاقة بتراثه. فالمجتمع هو المؤدي وهو الملحن وهو الكاتب".

ويكمل الأعظمي "أعتقد بأن المقامات العراقية، وربما الموسيقى العراقية مجتمعة، تعاني اليوم إهمال الدولة لها وانحسار تطورها وتقدمها ومن ثم تأخرها عن الركب الحضاري نسبة إلى تقدم الشعوب الأخرى المجاورة أو البعيدة".

 

 

ويعرب عن اعتقاده بأن هناك رغبة ملحة من الجمهور في العراق في سماع هذا الفن على رغم حرمانهم من فرص العرض المستمر لغناء وموسيقى المقام العراقي في كل القنوات الفضائية، موضحاً "عندما أقمت حفلاً في الثامن من مارس (آذار) 2023 ببغداد في قاعة مؤسسة المحطة نفدت تذاكر الأمسية قبل أيام من إقامتها، والأهم من كل ذلك أن معظم الجمهور الحاضر كانوا من الشباب، بل من العنصر النسوي، وهو ما أسرني كثيراً وملأني شعوراً بأن المقامات العراقية وجمهورها ما زالا بخير".

تجدد المقام العراقي عبر المراحل التاريخية، إذ يوضح هندرين حكمت علي أن مطرب المقام محمد القبانجي أسهم في إحداث تغييرات ملموسة في أداء هذا الفن، فقد كان في السابق مطرب أو قارئ المقام يؤديه وهو جالس، لكن القبانجي كان أول من غنى في بغداد واقفاً، ثم مضى من بعده يوسف عمر وعبدالرحمن خضر، وصار وقوف المغنين حالاً طبيعية عند الغناء، ولكي يكون هذا الفن أقرب إلى الناس أدخل القبانجي آلة الكمان والقانون وكورالاً خاصاً ليؤدي معه الأغاني، وبعد القبانجي ظهر ناظم الغزالي ليعبر بالمقام خارج حدود العراق.

في أوائل خمسينيات القرن الماضي وقف ناظم الغزالي خلف ميكروفون "إذاعة بغداد" ليؤدي على الهواء مباشرة أول مقاماته "يا صاح جف الدمع هب لي دمع جاري" وأغنية "على جسر المسيب"، وما إن انتهى من غنائه حتى تلقى كلمات الإطراء والإعجاب والتشجيع فذاع صيته وعرف اسمه وعلا نجمه في مشهد الغناء العراقي المكتظ حينذاك بمواهب حقيقية، مثلما عرف مؤدياً لفنون المقام العراقي كقارئ للمقام بحساسية مختلفة.

هذا ما يذكره علي عبدالأمير في كتابه "رقصة الفستان الأحمر الأخيرة... سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء والموسيقى"، ويصف عبدالأمير المطرب ناظم الغزالي بأنه "صوت العراق العاطفي في القرن الـ20"، فأغنياته أسهمت في تكوين هوية عراقية مشتركة قلما توافق حولها العراقيون المولعون بالاختلاف حد الاشتباك، وفي الظاهرة التي شكلها الغزالي من الممكن تلمس العذوبة الروحية، كما يمكن تلمس الجرأة في تغيير ما بدا مقدساً من أشكال موسيقية ومنها المقام العراقي الذي جعله الغزالي أنيقاً وعصرياً.

ما الذي يحتاجه؟

يوضح الباحث في فن المقام العراقي موفق البياتي أن قارئ المقام بحاجة إلى الموهبة الفنية وأن تكون له القدرة على الارتفاع بالصوت والنزول على "القرار"، فضلاً عن ذاكرة لحفظ الأشعار والجمل الموسيقية، ولا بد من أن يمتاز بالأذن السمعية لكي يفسر الجمل الموسيقية بالشكل الصحيح ويجب أيضاً أن يكون مطلعاً على الألوان الغنائية الأخرى.

في السياق نفسه يرى مغني المقام العراقي حسين إسماعيل الأعظمي أن قارئ المقام أو مطرب المقام بحاجة إلى "امتلاك التعابير البيئية المقامية والصوت الجميل المتمكن وحفظ الأصول المقامية التاريخية، فضلاً عن الحرفية في الأداء وأسلوب العرض المقنع للجماهير".

 

 

ودرس الأعظمي في "معهد الدراسات الموسيقية" ومنح بعد رحلته الطويلة في فن المقام العراقي أداء وبحثاً وتدريساً لقب "سفير المقام العراقي"، وتم تكليفه بثلاثة مشاريع من قبل منظمة "يونيسكو" ولكنها لم تر النور، فيقول "بعدما فزت في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 بجائزة الـ’ماستربيس‘ العالمية Masterpiece  التي تمنحها منظمة يونيسكو سنوياً، تم تكليفي بثلاثة مشاريع من قبل المنظمة، هي مشروع إنشاء مكتبة كبيرة تضم موسيقى وغناء المقامات العراقية وتوثيق وتسجيل المقامات العراقية بصوتي وصيانة كل المرافق الأثرية في العراق التي تعرضت لأضرار بسبب مرحلة الحصار والحروب، وعلى رغم الموافقة على هذه المشاريع فإنها توقفت بسبب ظروف الاحتلال".

تختلط التسميات لمن يؤدي فن المقام العراقي، فمنهم من يميل إلى تسميته بـ"قارئ المقام" وهناك من يعتقد بأن تسمية "مطرب المقام" هي الأصح، وفي هذا السياق يرى الأعظمي أن مفردة مغني أو مطرب المقام العراقي ينبغي أن تطلق على مؤدي المقامات العراقية، موضحاً "لقد كانت الأجواء حتى القرن الـ19 تسيطر عليها القراءات الدينية، ولا ينضج مفهوم مؤدي المقام العراقي إلا بالمرور بالتلاوات القرآنية والأداءات الدينية وشعائرها، أما غناء المقام العراقي في القرن الـ20، فوُلد مواكباً للتطورات التكنولوجية وأمسى دور الموسيقى مهماً ومباشراً في مرافقة غناء المقامات العراقية بعد أن كان دورها يكاد يكون ثانوياً".

وتغيب النساء عن أداء هذا اللون الغنائي، فأعداد المطربات اللاتي غنين المقام العراقي لا تقارن بالرجال، وعلى رغم أنهن تركن بصمة مهمة في أداء هذا الفن مثل مائدة نزهت وسليمة مراد وصديقة الملاية وفريدة محمد، يرى بعض المتخصصين أنه فن يجيده الرجال أكثر من النساء لما يحتاج إليه من قوة ومهارة للتحكم في الصوت.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة