ملخص
جدل المرشحين الجمهوريين حول السياسة الخارجية التي اتبعها دونالد ترمب أثناء ولايته يكشف ما إذا كان النقاش مهيأ للاستمرار إلى ما بعد 2024
عندما يعتلي ثمانية من المرشحين للانتخابات الرئاسية في الحزب الجمهوري مساء اليوم (الأربعاء) المسرح في مدينة ميلواكي بولاية ويسكنسن، للمشاركة في المناظرة الأولى بينهم في غياب دونالد ترمب، سيتركز الاهتمام على مواقف كل منهم حيال لوائح الاتهام الأربع التي تواجه الرئيس السابق، غير أن ما يقوله المرشحون عن السياسة الخارجية يشكل قضية أخرى بالغة الأهمية، حيث ينقسم الزعماء الجمهوريون بشكل حاد حول الكيفية التي ينبغي للولايات المتحدة أن تحدد دورها في العالم، ففي حين يضغط ترمب وأنصاره للانسحاب من الشؤون العالمية، يدعو الجمهوريون الأكثر تقليدية إلى مشاركة دولية قوية، وهو خلاف يظهر بقوة أيضاً حيال أوكرانيا.
فإلى أي مدى يمكن أن تساعد الحملة التمهيدية للحزب الجمهوري في تحديد برنامج ومسار السياسة الخارجية للحزب الجمهوري؟
تأهل تسعة مرشحين للمناظرة التمهيدية الأولى للحزب الجمهوري، وباستثناء شخص واحد فقط هو دونالد ترمب، سيحضرون جميعاً هذا الحدث الذي يترقبه الأميركيون، لكن على رغم غياب الرئيس السابق عن المشاركة على اعتبار أنه معروف للعامة بصفته رئيساً ناجحاً على حد قوله، من المرجح أن يظل تأثيره الكبير على الحزب الجمهوري حاضراً عبر أسئلة مديري المناظرة ومواقف المرشحين بشأن العديد من القضايا، ومن بينها السياسة الخارجية التي كان الجمهوريون متفقين عليها لعقود قبل أن يتغير ذلك مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض.
خلاف تاريخي
منذ رئاسة دوايت أيزنهاور البيت الأبيض في خمسينيات القرن الماضي، دعم معظم القادة الجمهوريين الدور النشط للولايات المتحدة في العالم، حيث كان هذا النهج مدفوعاً في البداية بوجهة نظر الرئيس بأن بلاده كانت في حاجة إلى تحالفات عسكرية ودبلوماسية قوية خلال الحرب الباردة، وهو اعتقاد تبلور خلال معركة ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة عام 1952 والتي كانت نقطة تحول في تاريخ الحزب، عندما هزم أيزنهاور، الذي حمل لواء التحالف مع أوروبا لاحتواء الاتحاد السوفياتي، السيناتور روبرت تافت، المتشكك في التحالفات الدولية والذي أراد تحويل تركيز أميركا من الدفاع عن أوروبا إلى مواجهة الصين الشيوعية.
وبعد الانتصار التاريخي الذي حققه أيزنهاور على تافت عام 1952، أصبح كل مرشح رئاسي جمهوري على مدى العقود الستة التالية من ريتشارد نيكسون إلى رونالد ريغان، ومن جورج دبليو بوش إلى جون ماكين وميت رومني، يتعاطف مع الجناح المناصر لدور أميركا الدولي أكثر من الجناح الانعزالي في الحزب.
وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة في عام 1991، تبين أن معظم السياسيين والقادة الجمهوريين استمروا في دعم المشاركة الدولية للولايات المتحدة، وفقاً لدراسة أشرف عليها متخصص العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية في واشنطن جوردان تاما، واستمر هذا إلى الآن مع زعيم الأقلية الحالي في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مايكل ماكول، إذ كانت وجهة النظر السائدة في الحزب الجمهوري هي أن عضوية الولايات المتحدة في تحالفات عسكرية مثل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والوجود العسكري الأميركي القوي في الخارج، والدبلوماسية الأميركية النشطة، جعلت الولايات المتحدة أكثر أماناً.
عودة الانقسام
والآن يشتعل انقسام مماثل داخل الحزب الجمهوري، يكرر مواقف تافت، حيث أعلن ترمب وحاكم فلوريدا رون ديسانتس، ورجل الأعمال فيفيك راماسوامي، أن الدفاع عن أوكرانيا ضد روسيا ليس مصلحة حيوية للولايات المتحدة ويشتت انتباهها من التحدي الأهم المتمثل في مواجهة الصين، في حين يقترب المرشحون الآخرون، مثل نائب الرئيس السابق مايك بنس والسفيرة السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، والسيناتور تيم سكوت، وحاكم ولاية نيوجيرسي السابق كريس كريستي، من التمسك بموقف أيزنهاور بأن واشنطن يجب أن تظل ثابتة في حماية أوروبا ضد روسيا، والإصرار على أن التخلي عن أوكرانيا من شأنه أن يشجع الصين والقوى الأخرى من خصوم الولايات المتحدة.
ويعتقد رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمدير السابق لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية ريتشارد هاس، أن "النزعة الترمبية هي الاتجاه السائد في السياسة الخارجية للحزب الجمهوري، وهي سياسة انعزالية وأحادية وغير أخلاقية، جعلت النهج المؤسسي التقليدي المهيمن للحزب الجمهوري تجاه العالم في حالة خسوف.
ويتفق مع هذا الرأي رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية والممثل الدائم السابق للولايات المتحدة لدى الناتو إيفو دالدر، حيث اعتبر أن الشكوك واسعة النطاق لدى ترمب وديسانتس بشأن مشاركة الولايات المتحدة في الخارج، تثير احتمال أن الجمهوريين المؤيدين لدور أميركا القوي على الساحة العالمية، لم يخسروا فقط في عامي 2016 و2020 عندما ترأس ترمب بطاقة الحزب الجمهوري، ولكنهم خسروا الحزب إلى الأبد.
رؤية مغايرة
تحدت رؤية ترمب المعروفة باسم "أميركا أولاً"، والتي تعطي الأولوية لاهتمام الولايات المتحدة بنفسها ضمن سياسة انعزالية، الدور الدولي التقليدي للحزب الجمهوري، وهو ما يطرح أسئلة حالياً عما إذا كانت الحملة التمهيدية الحزبية سوف تساعد في تحديد برنامج ومسار السياسة الخارجية للجمهوريين، وما إذا كانت ستؤثر في سياسات ترمب الذي اتبع في الماضي نهجاً منغلقاً على نفسه في تعامله مع العالم، وشكك في قيمة التحالفات الدولية، ودعا الدول الأخرى إلى الاهتمام بمشكلاتها الأمنية بنفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال توليه السلطة، انسحب الرئيس السابق من عدة معاهدات ومجالس دولية تعد جزءاً من الأمم المتحدة، ولم يستبعد خروج الولايات المتحدة من "الناتو" وحاول سحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان، وهي خطط رفضها بعض كبار المستشارين وأعضاء الكونغرس الجمهوريين.
واليوم، بينما تدعم الولايات المتحدة أوكرانيا بالأسلحة والإمدادات، يدعو ترمب إلى اتخاذ موقف أميركي محايد بشأن الحرب الروسية - الأوكرانية، ووعد بحل الصراع خلال 24 ساعة عبر التحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
مقاومة داخلية
لكن على رغم أن ترمب كان الشخصية المهيمنة بين أنصار حزبه لمدة سبع سنوات، إلا أن شعاراته الانعزالية كانت بطيئة في اللحاق بالجمهوريين الآخرين، وعلى سبيل المثال، اقترح في كل عام من سنوات رئاسته خفض ميزانية وزارة الخارجية بنحو الثلث.
لكن الجمهوريين في الكونغرس عملوا مع الديمقراطيين على رفض هذه المقترحات في كل مرة، كما وصف ترمب بوتين بأنه عبقري بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا عام 2022، لكن الكونغرس بدعم قوي من الجمهوريين أصدر سلسلة من القوانين في عام 2022 والتي فرضت عقوبات على روسيا، وزودت أوكرانيا بكميات كبيرة من المساعدات الخارجية.
دعم جمهوري
المقاومة المستمرة على مستوى السياسيين والمشرعين الجمهوريين لتيار الانعزالية الترمبية، لا تعكس رأي غالبية الناخبين الجمهوريين حيث تشير استطلاعات للرأي إلى أن تقليص الولايات المتحدة التزامها بالتحالفات الدولية التي تركز على أوروبا وتشديد مواجهتها للصين، يتمتعان بقاعدة دعم كبيرة في التحالف الشعبي الجمهوري، ففي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "غالوب" في مارس (آذار) الماضي، كان الناخبون الجمهوريون أكثر ميلاً بنسبة 76 في المئة إلى تحديد الصين بدلاً من روسيا باعتبارها الخصم الرئيس للولايات المتحدة في العالم، في حين اختار عدد أكبر من الديمقراطيين روسيا أكثر من الصين.
ويشير استطلاع سنوي أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية إلى ابتعاد أوسع عن العالم بين ناخبي الحزب الجمهوري، حيث انخفضت نسبة الجمهوريين الذين قالوا إن الولايات المتحدة لا بد أن تضطلع بدور نشط في الشؤون العالمية إلى 55 في المئة فقط، وهي أدنى نسبة سجلها الاستطلاع على الإطلاق.
وربما لهذا السبب يتحدث ترمب بأنه من المرجح أن يدفع خلال فترة ولايته الثانية، إلى مزيد من الاتجاه الانعزالي، حيث ألمح إلى هذا الاحتمال في مقطع فيديو لحملته أخيراً قال فيه "يتعين علينا إنهاء العملية التي بدأناها في ظل إدارتي لإعادة تقييم هدف (الناتو) ومهمته بشكل أساس"، كما قال ترمب إنه سيفرض خطة مدتها أربع سنوات للتخلص التدريجي من جميع الواردات الصينية من السلع الأساسية، في كل شيء من الإلكترونيات إلى الصلب والأدوية".
المناظرات والمستقبل
عندما تطرح مسألة السياسة الخارجية في ميلووكي أو في المناظرات التمهيدية للحزب الجمهوري في المستقبل، سيكون من الواضح ما إذا كان المرشحون يقولون إنهم ما زالوا يدعمون بقوة الجهود الأميركية لمساعدة أوكرانيا أم لا، وكذلك موقفهم من الانعزالية.
وإذا تمسك بعضهم بدعم أوكرانيا، فسيكون ذلك بمثابة إشارة إلى أن الجدل الجمهوري حول السياسة الخارجية لا يزال حياً، ولكن إذا غيروا موقفهم، فقد يكون هذا علامة على أن سيطرة ترمب على الحزب الجمهوري تمتد إلى مجال سياسي لم يكن له تأثير قوي عليه في السابق.
دور عالمي
وبعيداً من الحرب في أوكرانيا، أصبح الدور العالمي الذي تلعبه أميركا على المحك في موسم الانتخابات، وعلى رغم أن الولايات المتحدة تصرفت وفقاً لمبادئها بشكل غير متسق ومنقوص إلى حد كبير، إلا أنها ساعدت من خلال الإدارات الديمقراطية والجمهورية على مدى العقود الثمانية الماضية في تعزيز عالم أكثر سلماً وازدهاراً وديمقراطية، بحسب علماء السياسة الأميركيين.
ويعتقد متخصص العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية جوردان تاما أن منافسي ترمب الجمهوريين لديهم الفرصة لطرح الحجة لمصلحة الحفاظ على التحالفات والشراكات الدولية التي تساعد في الحفاظ على سلامة الولايات المتحدة وتعزيزها، وإذا دافعوا عن هذه الحجة بفعالية، فإن مناقشة الحزب الجمهوري حول السياسة الخارجية ستكون مهيأة للاستمرار إلى ما بعد عام 2024.
أما إذا فشلوا في ذلك أو كانت أطروحاتهم عابرة، فسوف ينجح ترمب في تحقيق رؤية روبرت تافت قبل سبعة عقود من الزمن، ومحو انتصار أيزنهاور في تحديد اتجاه الحزب الجمهوري، ومع تقدم ترمب بفارق كبير عن أي منافس محتمل، يبدو من المرجح أن يستمر الحزب الجمهوري خلال عام 2024 في الابتعاد عن التعاون الدولي والانغماس في الانعزالية والأحادية، وهذا يمكن أن يولد اضطرابات هائلة في جميع أنحاء العالم ويعيد موجات القلق التي انتابت العديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة حول العالم.