رواية الكاتبة العُمانيّة هدى حمد "أسامينا" ( دار الآداب 2019)، هي الرابعة لها بعد روايات ثلاث سبقتها وثلاث مجموعات قصصيّة. ولا تخرج هذه الرواية عن الفضاء الروائيّ العامّ الذي تتمتّع به نصوص حمد عموماً. فيدخل القارئ نصّاً ضئيلاً من حيث الحجم إنّما محفوفاً بالذكريات الأليمة والأخبار الكثيفة والمعتقدات الشعبيّة. نصّ ينقسم بين واقع وكوابيس وعودات إلى الوراء، تدور أحداثه في سيح الحيول في ولاية بني خالد ثمّ في مسقط عاصمة سلطنة عمان. وتشوب السرد أخبار وتوجّسات شعبيّة تظهر منذ العنوان وترسم صورة أوّليّة لمجتمع لا يزال يؤمن بالسحر والشعوذة. فلم تختر هدى حمد "أسامينا" عنواناً لروايتها بشكل اعتباطيّ، فالنصّ مليء بإشارات إلى معتقدات تقول إنّ منح المولود اسماً إنّما هو شؤم ونحس. فعدم منح المولود، ذكراً كان أم أنثى، اسماً يبعد عنه طيف الموت، فالموت لا يمكن أن يمسك بمن ليس له اسم: "لم يكن لأمّي اسم في حلّة خضراء السدر، الأمر الذي حماها من مصير إخوتها الذين ذهبوا جميعاً لمصائر غامضة. بعضهم أكله السحرة، وبعضهم مات بالأمراض. قال الشيوخ لجدّتي: لا تسمّيها وإلاّ خطفها الموت. الموت يعرف الناس بأسمائهم". (ص 119).
شخصيّات مريضة
بعيداً من مسألة الأسماء والشعوذات، تفتتح هدى حمد روايتها بانتحار بطلتها وسقوطها في بئر. فتتحدّث الراوية/ البطلة بصيغة المتكلّم وتفتتح نصّها بجملة أولى تعلن فيها هزيمتها وانسحابها من معركة الحياة: "لم يكن سقوطي في الماء آمناً كما ظننت". وكأنّ هذا السقوط الأوّل يحضّر لمجموعة من السقطات التي تصيب الشخصيّات كلّها، من الراوية مروراً بأفراد عائلتها فمحيطها كلّه. فالجملة الأولى في النصّ هي انتحار وفقدان للأمل واعتراف بالهزيمة. إنّما هي هزيمة أمام مَن؟ من هو العدوّ في هذه الرواية؟
تقوم هذه الرواية بأسرها على عودات إلى الوراء. تارة هي عودات إلى زمن الطفولة والمراهقة والشباب، وطوراً هي عودات إلى الأيّام الأخيرة قبل الانتحار. وتوضح هذه الاسترجاعات شبكة العلاقات التي كانت تقوم عليها حياة الراوية وأبرزها علاقتها الباردة بأمّها. فالهزيمة الأولى التي تمنى بها الراوية إنّما هي أمام أمّها التي تهملها وبالكاد تنظر إليها أو تعترف بوجودها، فتقول الراوية عن علاقتها بأمّها: "أقصى ما يمكن أن ينتصب بيننا هو اللامبالاة والوجه البارد. هكذا تتمكّن، هي من دون غيرها، من تحويلي إلى شيء تافه وعديم الأهمّيّة". (ص 127). هُزِمت البطلة أمام أمّها، هزمت هزيمة قصمت ظهرها وأوصلتها إلى نقطة اللاعودة التي بلغتها وهي بعد في الأربعين من عمرها. فهي منذ اللحظة التي وُجدت فيها في أحشاء أمّها مع شقيقها التوأم شعرت بنفور أمّها منها. طالما فضّلت أمّها شقيقها عليها باعتباره الولد الضعيف، ثمّ من بعد الشقيق فضّلت الأمّ على ابنتها شقيقتيها اللتين ولدتا لاحقاً، ربّما لأنّهما تشبهانها وربّما لأنّها كانت تراهما ضعيفتين هشّتين؛ وفي جميع الأحوال تدرك البطلة أنّ أمّها لا تحبّها ولا تريدها وتخاف منها على أولادها الآخرين، وعندما تسأل والدها عن سبب كره أمّها لها، يجيب: "إنّها مريضة وحسب. عليكِ تفهّم الأمر". (ص 48).
وليس المرض حكراً على الأمّ وحدها. فالشقيق التوأم أيضاً مريض وهشّ البنية، والعمّة كذلك، والعمّة الأخرى صاحبة القطط. جار البطلة نفسه، ذاك الذي تتلصّص عليه من النافذة بدا لها مريضاً هو الآخر بشعره الأحمر: "رجل طويل ونحيف وله شعر أحمر. لم أرَ في حياتي رجلاً شعره أحمر! تهيّأ لي أنّه رجل مريض أوّل الأمر". (ص 34). وكأنّ الفضاء الروائيّ بأسره يدور حول شخصيّات ناقصة مهزومة عاجزة عن تغيير شيء في مسارها.
مع تقدّم السرد يفهم القارئ أنّ بطلة هدى حمد تعاني من مشاكل نفسيّة كثيرة ليست سوى إشارات إلى طفولة مضطربة محفوفة بالذكريات البشعة القاتمة. فالبطلة مثلاً تخشى الماء شرّ خشية، حتّى أنّها لا تستحمّ ولا تدخل الدشّ بل تستعمل مناشف خشنة تبلّلها بقليل من الماء وتضع عليها شيئاً من الصابون لتنظّف جسمها. إضافة إلى ذلك، يكتشف القارئ أنّ بطلته عاجزة عن تقبّل أيّ وجود بشريّ حولها. فهي عاجزة عن إقامة أيّة علاقة أو أيّ حوار متماسك وواضح مع أحد من محيطها. حتّى أنّها تدأب على ترك مسافة متر بينها وبين المحيطين بها دوماً، وكأنّ هذا المتر هو درع حماية ووقاية: "بين منصّتي ومنصّتهنّ ما لا يتجاوز المتر الواحد. إنّهنّ لا يعرفن شيئاً بشأن هذا المتر الذي ينهض بيننا، المتر الذي يوفّر لي حالة الأمان والقدرة على الاستمرار معهنّ. هذا المتر يقلّل هلعي...". (ص 28). ثمّ تقول في فصل آخر: "لم أعد أفكّر بشيء أكثر من المحافظة على المتر الذي يقف بيني وبين الراقصات، بيني وبين العالم. إنّ ذلك المتر يبدو أغلى ما أملك الآن". (ص 39).
القفزة الاخيرة
قد يظنّ القارئ أنّ سوء علاقة الأمّ بابنتها هو السبب الوحيد وراء عدم قدرة الراوية على الاقتراب من الناس جسديّاً وعاطفيّاً وفكريّاً وبشريّاً، إنّما الأمور تتّضح شيئاً فشيئاً ليكتشف القارئ في نهاية النصّ أموراً لم تكن البطلة تعرفها عن نفسها، أمور تودي بها إلى قفزتها الأخيرة وبالطريقة الوحيدة التي لم تكن لتخطر ببال: في بئر ماء، هي التي كانت تخشى الماء أكثر ما تخشى.
في ظلّ قصّة هذه الفتاة الأربعينيّة التي لم تعرف كيف تمسك بحياتها، ينسلّ إلى السرد شيء من طباع مجتمع بأسره. فيكتشف القارئ عادات وتقاليد، يكتشف معتقدات وطرق تفكير وإيماناً عتيقاً بالسحر وخوفاً من الموت والمجهول، كما يكتشف أنّ مصير المرء لا يتعلّق به فقط، بل هو نتيجة تضافر ظروف وأحداث، هو نتيجة تطوّر اجتماعيّ يقود المرء إلى حيث هو. لم تصل بطلة هدى حمد إلى الموت بشكل عبثيّ، غياب العنصر الذكريّ أوصلها إلى هنا، غياب حنان الأمّ، غياب المجتمع المتفهّم المتعاطف، غياب الحبّ، غياب الطفولة، غياب الأمان، غياب الطمأنينة. الأقاويل والإشاعات والسحر أوصلتها إلى نقطة اللا عودة هذه، فقرّرت أن تموت بالطريقة الوحيدة التي كانت تثير فيها الرعب، غرقاً في الماء والعتمة.
رواية "أسامينا" رواية بسيطة متماسكة تنسلّ بسرعة وسلاسة إلى القارئ وتطلعه على خفايا مجتمع لا يعرفه إلاّ من عايشه وعايش مآزقه وهفواته وأطباع أهله. ويمكن القول إنّ هدى حمد تمكّنت من الإمساك بشخصيّاتها وتاريخهم ودواخلهم كما تمكّنت من إيصال وجعهم وقصصهم إلى قارئها، لكنّها أضعفت سردها بعض الضعف في فصلها الأخير الذي أضافته لتوضح قصّة الشقيق التوأم للراوية، وهو فصل من صفحتين لم يكن ضروريّاً وظهر زائداً على الحلقة التي بدأت بانتحار البطلة في الفصل الأوّل وانتهت بقفزها إلى البئر في الصفحة 131. إنّما عدا عن ذلك، فقد نجحت الكاتبة بالإمساك بحبل التشويق طيلة السرد، ولم تفضح حقيقة مأساة بطلتها إلاّ في الصفحات الأخيرة وهو ما أثرى السرد ومنحه رونقه.