ملخص
الأوبريت التي انتظرت قرناً بعد رحيل مبدعها كي ترى النور بإخراج فرنسي وتمويل ألماني
من المتعارف عليه عادة أن الخيال العلمي بالمعنى الفني/ الاستعراضي للكلمة لم يولد إلا على يد السينمائي الفرنسي جورج ميلياس الذي حقق فيلمه الروائي الكبير الأول "رحلة إلى القمر" في اقتباس عن رواية جول فيرن الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه، في عام 1902 مسجلاً دخول ذلك النوع السينمائي عالم الفن من الباب العريض. لكن ذلك ليس دقيقاً حتى وإن كان العمل الذي سبقه بأكثر من ربع قرن وفي المجال نفسه قد كتب ولحّن لكنه لم ير النور حينها على الأرجح، ولأسباب عصية على التفسير. وكان العمل في صيغته الأولى تلك من إبداع الموسيقي الفرنسي من أصل ألماني جاك أوفنباخ الذي أنجز العمل على الورق على الأقل قبل سنوات من رحيله المحزن في عام 1880 لكنه لم يتمكن من تقديمه على رغم الدعم الكبير الذي كان قد وعد به من قبل "المسرح الكوميدي" الألماني. وتقول الحكاية إن أوفنباخ مات وهو يردد حسرته لعجزه عن "افتتاح العصور الجديدة" بتلك الأوبريت التي كان يعول عليها كثيراً ولسوف نكتشف أنه كما حال جورج ميلياس من بعده، استوحى فكرتها من رواية جول فيرن.
النص يخرج من سجنه
المهم أن أوبريت أوفنباخ تلك ستظل حبيسة خزائن المؤسسة الفنية الألمانية وتغيب عن الذكر بل عن الاهتمام بصورة عامة حتى عام 1980 يوم بحث مدير "الأوبرا كوميك" الألمانية عن عمل يمكنه من خلاله أن يحيي المئوية الأولى لوفاة أوفنباخ. وكان ذلك المسؤول، في زمن معاصر لنا راح يشهد تحسناً كبيراً في العلاقات الفرنسية – الألمانية، يريد أن يقدم عملاً يرمز إلى تلك العلاقات فكانت فرحته الكبيرة بالعثور على نصوص ونوطات تلك الأوبريت القديمة التي كان غبار الزمن قد تراكم عليها. وعلى ذلك النحو ولد مشروع ينتمي إلى المسرح الغنائي كان من الطبيعي أن يحمل عنوان "رحلة إلى القمر" وكذلك كان من الطبيعي أن يسند الألمان مهمة إخراجه لمخرج المسرح الاستعراضي الفرنسي جيروم سافاري المعتبر في أوروبا الغربية من أكثر المخرجين المسرحيين معرفة بأعمال أوفنباخ إذ كان قد سبق له أن قدم، في فرنسا وخارجها، عدداً من أهم أعمال هذا الموسيقي ولا سيما "حكايات هوفمان" التي من المعروف أنه استعادها مرات ومرات. وهكذا كان عام 1980 في أوروبا، عام ذلك الاستعراض القمري اللافت، كما كان عام التقارب الفني بين الدولتين الأوروبيتين الجارتين بتتويج أسفر عن ولادة "قناة آرتي" شراكة بين البلدين والتي سرعان ما باتت نموذجاً راقياً يحتذى في العمل التلفزيوني الثقافي، لكن هذا موضوع آخر بالطبع.
مغناة للخيال العلمي
الموضوع هنا يتعلق إذاً، بتلك الأوبريت التي يمكن اعتبارها أول مغناة مسرحية تطاول حبكة خيالية – علمية. والحقيقة أن السلطات الثقافية الألمانية لم تبخل يومها في الإنفاق على العمل كما تخيله جيروم سافاري، بخاصة أن المدير السابق للمسرح الكوميدي الألماني فلزنشتين كان قد قرر أول الأمر أن ينتج العرض ويخرجه بنفسه، لكنه كان سيئ الحظ إذ رحل عن عالمنا وهو يحضر للعمل، فانتقلت الراية إلى زميله الفرنسي سافاري الذي سيستفيد طبعاً من الإمكانات الكبيرة التي كانت قد توافرت للمبدع الألماني الراحل والذي اعتبر تقديم العمل بمثابة وصيته الفنية الأخيرة. ومن هنا أتيح لسافاري الذي وزع العمل والأداء والرقص والاشتغال على الديكورات والملابس، بين مبدعين ألمان وفرنسيين، أتيح له أن يشرك في العمل نحو 250 فناناً بين مغن وراقص وكورس ورحالة وإلى آخر ما هنالك من احتياجات عمل سيبدو واضحاً أن ضخامته كانت هي ما حال دون تمكن أوفنباخ من تقديمه خلال حياته. وإلى ذلك لا بد أن نشير إلى أن الفرنسي سافاري الذي كان سيد الـ"ماجيك سيركوس" في فرنسا عرف كيف يستفيد من الخبرات التقنية التي أتاحها له عمله في هذه المؤسسة الثورية الفنية المدهشة، ليدخل تجديدات وابتكارات فنية في تقديم ذلك العمل.
عالم من الهذيان
والحقيقة أن أوبريت "رحلة إلى القمر" كانت تحتاج مثل تلك التجديدات والابتكار. فعلى الخشبة العريضة إلى حد كبير كان يجب أن تتتابع اللوحات (الفصول) الثلاثة عشر التي قسم إليها مجرى الاستعراض. في تلك الرحلة التي يمكننا أن نفهم كونها رحلة تنطلق من الأرض إلى القمر عبر "صواريخ" و"سفن فضائية" تتشابه إلى حد كبير مع تلك التي صورها جول فيرن في روايته والتي سنراها في فيلم جورج ميلياس. وهي بأية حال من الأحوال، حتى وإن كانت تختلف في موضوعها عن موضوع رواية فيرن وفيلم ميلياس فإنها لا تبتعد عنهما كثيراً حتى وإن كان أوفنباخ قد أمعن في تسييس النص الذي اشتغل عليه، كما أمعن في إضفاء طابع أخلاقي اجتماعي – يكاد يكون وعظياً في نهاية المطاف -. فالحكاية هنا هي حكاية من يسميه أوفنباخ "ملك الأرض"، والذي يخضع ذات لحظة وبعد تردد طويل لواحدة من نزوات إبنه الأكبر الذي راح يلح عليه لفترة من الزمن أن الوقت قد بات ملائماً لغزو قواته كوكب القمر. وبالفعل تقوم قوات ملك الأرض بالانتقال غازية إلى الكوكب المجاور ليجد الملك نفسه في مواجهة ملك لا يقل عنه استبداداً وطيشاً، يحمي كل منهما قوات جيش وأمن تتبارى في التعسف والجور وبالتحديد في التعامل السيئ مع الشعبين، شعب القمر وشعب الأرض، يعيش كل منهما حياة لا ينافسها في بؤسها سوى حياة الشعب الآخر. لكن أوفنباخ لن يفوته هنا أن يسجل نقطة لمصلحة قومه أي أهل الأرض. فسكان الأرض الذين يرافقون ملكهم في غزوته يلاحظون كيف أن سكان القمر لا يعرفون شيئاً عن شؤون الحب الحقيقي ومن هنا، مستعينين بالغناء والموسيقى كما بالرقص التعبيري، ينطلقون في حملة توعية تعلم القمريين تلك الشؤون. ويكون من آثار ذلك أن أول من يقع في الحب على الطريقة الجديدة، إبنة ملك القمر التي تغرم بابن ملك الأرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اندماج عاطفي
وهكذا يتم الاتحاد العاطفي والعائلي بين العائلتين المالكتين وتسود الأفراح والليالي الملاح منتشرة من الأرض إلى القمر ذهاباً وإياباً ما يعطي فرصة للمخرج ومدرب الرقص سافاري كي يبتدع فنوناً راقصة قل أن عرف المسرح الأوروبي مثيلاً لها. لكنها لم تكن فنوناً راقصة فقط، بل خليطاً من عدد كبير من فنون الاستعراض والترفيه، تتداخل فيها الفالسات مع ألعاب السيرك، ورقص الطلاب والمشجعات على الطريقة الأميركية مع رقص تؤديه راهبات يكاد يشبه أداء دينياً لا يخلو من هذيان. والحقيقة أن جيروم سافاري عرف هنا كيف يستفيد من كل ما أتيح له من إمكانيات ولا سيما أن العمل سوف يقدم لاحقاً في برلين الشرقية – التي كانت لا تزال تسمى بذلك الاسم، وتريد هذه أن تبرهن للعالم أنها دخلت طور حداثة ما – بعد – اشتراكية لا رجوع عنه. ومن هنا عرف سافاري ومغنوه وراقصوه كيف يقدمون عملاً لا شك أن ستالين وجدانوف كانا سيتقلبان في قبرهما لو أتيح لهما أن يشاهداه. ففي اختصار هنا، من المؤكد أن هذه الاستعادة للمبدع جاك أوفنباخ (1819 - 1880) على هذه الشاكلة وفي عاصمة ثقافية تستيقظ من سبات طويل، إنما كان يحمل نوعاً من الرد على كل أولئك الذين كانوا حتى قبل سنوات من سقوط الجدار البرليني الكئيب، يعتقدون أن ثمة هنا عالماً لا مكان فيه لأية ابتكارات بعد أن جمد العالم القديم. ومن هنا كانت أوبريت أوفنباخ "القمرية" هذه إشارة إلى اندماج في العالم الجديد من طريق الفن ولكن أكثر من ذلك، من طريق هذيان ما بعده من هذيان!