ملخص
واقعة استعادة مصري القدرة على المشي ببركة السيدة العذراء فتحت الباب للحديث عن سر إيمان المصريين بـ"المعجزات"
بين "بركاتك يا عدرا" (السيدة مريم العذراء) و"شيء لله يا أم هاشم" (السيدة زينب حفيدة النبي محمد)، يعيش كثير من المصريين في كنف المعجزة، فهم إما ينتظرون "كرامة" الأولياء أو يتحاكون عنها، في طقس لا يفرق بين معتنقي الإسلام أو المسيحية، وكذلك المنتمين لمختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية.
الحديث عن المعجزات تصدر نقاشات المصريين من جديد في مطلع أغسطس (آب) الجاري، مع ظهور مقطع فيديو لرجل مشلول يقف فجأة ويجري في إحدى كنائس القاهرة على رغم دخوله قبل دقائق على كرسي متحرك، فيما سماه كثير من المسيحيين "معجزة" وإحدى بركات السيدة مريم التي يحب المصريين تلقيبها بـ"العدرا".
يقول عادل فايز، صاحب واقعة "المعجزة"، إنه رأى السيدة مريم في صلاته فأنقذته بعد سنوات من العجز، وأعقب ذلك جدلاً على مواقع التواصل الاجتماعي بين مشكك في الواقعة ويدعو إلى التمسك بالعلم، وآخرون نشروا صوراً لـ"عم عادل" وهو مشلول في مناسبات مختلفة طوال السنوات الماضية، إضافة إلى تقارير طبية تثبت حالته.
كان من بين المنتقدين لاحتفاء الناس بما سموه معجزة الطبيب والكاتب المصري خالد منتصر، إذ كتب على صفحاته بمواقع التواصل أن "ادعاء علاج إنسان سبيشيال (مميز) بواسطة وترك بقية المرضى يعانون، والأطفال يصرخون، هذا إهانة للعدالة الإلهية التي لا تظلم ولا تحابي"، كما تناول التقارير الطبية المتداولة عن حال فايز وفندها، مؤكداً أنها لا تثبت إصابته بشلل أو عجزه عن الكلام كما قيل.
في المقابل قال الأسقف العام لكنائس عزبة النخل (منطقة بالقاهرة) التي شهدت الواقعة الأنبا سيداروس إن شفاء عادل فايز "معجزة كبيرة لا أحد يقدر أن ينكرها"، وأوضح خلال عظة بالكنيسة أن فايز تعرض قبل سبع سنوات لشرخ في العمود الفقري مما أفقده الإحساس من الركبة حتى أسفل القدمين، وأرسلت أسرته التقارير الطبية إلى أطباء في الولايات المتحدة والنمسا وألمانيا الذين أفادوا بفقدان الأمل في الشفاء، لكن "تدخلت السماء وحدثت المعجزة عندما رأى السيدة العذراء ففك الأربطة الطبية وأصبح يجري"، بحسب ما نقلت عنه مواقع صحافية.
بعيداً من حقيقة ما حدث في الكنيسة، فالعقل الجمعي المصري بمسلميه ومسيحييه مرتبط بفكرة الكرامات أو المعجزات، وهو ما يبدو في تجمع الآلاف سنوياً في موالد الأولياء وآل البيت النبوي وأشهرها مولد السيدة زينب بالقاهرة والسيد البدوي في طنطا، ولتلك الأضرحة تقديس كبير لدى المصريين، تجاوز على مر العصور فكرة العبادة ليصل إلى خرافات يمارسها كثيرون داخل الأضرحة، فمن لديه رجاء تجده ينادي "يا حسين، يا سيدي عبدالرحيم القنائي، يا سيدي المرسي أبو العباس، كراماتك يا أم هاشم، يا سيد يا بدوي".
"شعب متدين بطبعه"
المصريون أكثر تعلقاً بفكرة المعجزة من غيرهم، بحسب ما يرى أستاذ علم النفس السياسي محمد سمير عبدالفتاح، الذي قال لـ"اندبندنت عربية" إن العقل الجمعي المصري وارتباطه بالدين أكثر من غيره من الشعوب يسهل السيطرة عليه من الناحية العاطفية والإعجازية، مضيفاً "المعجزات ترتبط بمدى تمسك الشعب بالدين، وهو سبب لقياسه الأمور بالعاطفة بعيداً من المنطق أو العلم، وجميعها ظواهر إنسانية تظهر لدى المصريين لكونهم الشعب الأكثر تديناً في الوطن العربي"، بحسب وصفه.
ولا تفرق تلك المعتقدات بين مسلم ومسيحي، فعلى سبيل المثال يشهد دير "جبل الطير" في محافظة المنيا بصعيد مصر تجمع مئات الآلاف من المسلمين والمسيحيين في نهاية أبريل (نيسان) من كل عام، للتبرك بالسيدة مريم البتول، فيما أصبح طقساً مجتمعياً أكثر من كونه دينياً.
وفي محافظة المنيا أيضاً، وتحديداً في صحراء البهنسا يتوافد رجال ونساء من أماكن متفرقة للتدحرج على الرمال، اعتقاداً بأن ذلك يشفي من الأمراض والعقم ويجلب الرزق و"العريس" أيضاً.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي انتشر في منتصف يونيو (حزيران) من العام الماضي مقاطع مصورة لمصريين يتباركون بمياه بالوعة صرف صحي في محافظة البحيرة، يظنون أنها "مبروكة" وتشفي من الأمراض.
الهرب من اليأس
الأكاديمية المتخصصة في علم الاجتماع بجامعة عين شمس هالة منصور ترى أن الإيمان بالمعجزات غير مقتصر على المصريين فقط، وهو أمر متعارف عليه لدى عديد من شعوب العالم، لافتة إلى أن تاريخ الشعب المصري وحضارته القديمة مليئة بما يمكن تسميته معجزات لأن العلم لم يفسرها حتى الآن مثل بناء الأهرامات والتحنيط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقالت منصور إن تركيز بعض المصريين على المعجزات والإيمان بالغيبيات وترسيخها كحقيقة هو محاولة للهرب من اليأس والإحباط بسبب أوضاع صعبة، مع رغبة في التمسك بأي أمل في مستقبل أفضل، موضحة أن الجميع معرض للوقوع في دائرة اليأس، والغريزة الإنسانية هي ما يسهل تصديق الخرافة فقط من أجل الخروج من هذه الحالة لعالم أفضل ولو بالخيال فقط، ووصفت الارتباط بالغيبيات بأنه أشبه بالإدمان الذي يسهل الدنيا في الأعين وإن كان بشكل غير واقعي.
"تجلي العدرا"
حديث الأكاديمية المصرية تؤكده حادثة شهيرة وقعت في وقت كانت فيه معنويات المصريين في أسوأ حالاتها، فبعد أقل من عام على الهزيمة في حرب 1967، حدثت واقعة "تجلي" العذراء أعلى كنيسة في القاهرة، وهو الحدث الذي استمر أقل من شهر بين أبريل ومايو (أيار) 1968، وتناولته الصحف المصرية حينذاك بل ونشرت صوراً لظهور شكل نوراني على هيئة السيدة مريم أعلى الكنيسة.
وذكرت تقارير صحافية أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تأكد بنفسه من الواقعة، وأصدرت حينها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بياناً أكدت فيه ذلك "التجلي" الذي جذب أنظار آلاف المصريين الذين تجمعوا لرؤية ما اعتبروه معجزة ورسالة إلهية تعينهم في ذلك الوقت الصعب.
وتكرر الحديث عن ظهور السيدة مريم أعلى كنائس في أوقات وأماكن مختلفة، ولكنها لم تكن بالزخم الذي حدث في عام 1968، وإن كان أبرزها عام 2009 أعلى كنيسة في منطقة الوراق بمحافظة الجيزة، مما أثار جدلاً كبيراً بين مصدق ومشكك يرى أن ذلك النور ربما يكون اصطناعياً، على رغم تأكيد بابا الكنيسة الأرثوذكسية البابا الراحل شنودة الثالث حدوث الأمر وأن كثيراً من المسلمين والمسيحيين شاهدوها، مما يدل على أن "العدرا" هي من تجمع قطبي الأمة، بحسب تعبيره في عظة ألقاها في ذلك الوقت.
انتظار القوة الخارقة
أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر محمد المهدي قال إن الوعي المصري ارتبط بصورة سلبية بالقوى الغيبية والخوارق، التي يعتقد أنها ستخلصه من آلامه الدنيوية وتحول حياته التعيسة التي يأس منها إلى الأفضل، وتحل أزماته بتحقيق أمانيه وتطلعاته، واصفاً الاعتماد على فكرة المعجزة بأنها المخدر الذي يلجأ إليه من لا يريد العمل لتغيير واقعه.
وذكر المهدي أن الشخص المؤمن بالخرافات والإعجاز لا يؤتي باللوم على نفسه في عجز وكسل أو فشل، بل يؤمن بتحريك الأمور بقوى خارجة عن الواقع بما يمنحه شعوراً أفضل في تواكله وإيمانه بالقوى الخارجية، لافتاً الانتباه إلى أن الشخصية المصرية دائماً ما ارتبطت بالتدين بنسبة كبيرة على صعيديه الإيجابي والسلبي. وضرب مثالاً بأن المصريين القدماء تركوا قبوراً أكثر من القصور لتأكيد ارتباطهم بالحياة الآخرة وإيمانهم الشديد بالحياة ما بعد الموت.
ولفت الانتباه إلى أن الخرافات والإيمان بالغيبيات منعت المصريين من السعي الحقيقي بالمطالبة بتغيير أوضاعهم أو بتنفيذ إنجازات معينة بشكل واقعي، على أمل المعجزة التي ستأتي وتحل مشكلاتهم كافة، مع تثبيت رجال الدين على مر العصور لهذه الأفكار وسط وعود بالحياة الأفضل في الآخرة إذا لم تتحقق الأمنيات على أرض الواقع.
وأشار إلى أن من امتلكوا زمام الأمور في مصر على مدار عصور سعدوا بهذا التفكير، وإمكانه منح السعادة الزائفة للمصريين ومنحهم الوقت على أمل مجيء غد أفضل.
كذلك يرى المتخصص في الطب النفسي وليد هندي أن الإنسان مخلوق ضعيف يسعى دائماً إلى من أقوى منه، مضيفاً أن الإنسان عند شعوره بالإحباط أو مواجهته مشكلة ما يحاول الاحتماء منها باللجوء لمن هو أعظم منه أو قوى روحية أكبر وأعظم، ومنها ما يشهده مجتمعنا المصري من "سحرة ودجالين وقراء الفنجان أو حتى الاحتماء برجل الدين العادي".
هندي تحدث أيضاً عن أن الإنسان كلما واجه صعوبات وأزمات أصبح قابلاً للإيحاء وكثر حديثه عن السحر والمعجزات، مؤكداً أن التراث المصري الشعبي والأفلام السينمائية بها كثير مما تسبب في تغييب العقول، قائلاً "احنا بتوع فتح المندل وحظك اليوم وقراءة الكف وفيلم قنديل أم هاشم وكثير من الخرافات في البيئة المصرية بجانب الأمثلة الشعبية".
وختم حديثه بقوله إن الاعتقاد في الحظ والصدفة منح مساحة للمشعوذين والدجالين، فلكل 240 مصرياً يقابلهم دجال، وهو رقم كبير يكشف عن وجود مشكلة حقيقية في اهتمام الوعي الجمعي المصري وشغفه بالخرافة الذي تحول إلى "بيزنس كبير" منهم رجال دين.