مع بدء العد التنازلي لإعلان الحكومة الانتقالية الجديدة في السودان، عقب التوقيع على المرسوم الدستوري والإعلان السياسي السبت 17 أغسطس (آب) الحالي، تظل مخاوف الحفاظ على الحكم الديمقراطي تسيطر على السواد الأعظم من الشعب السوداني لما عاشه من تجارب ديمقراطية هشة خلال ثلاث فترات حكم. إذ سرعان ما ينقض عليها العسكر، الأمر الذي جعل السودانيين يتساءلون هذه الأيام عن كيفية الوصول إلى مرحلة استدامة الديمقراطية.
تسوية النزاعات
يقول السياسي والأكاديمي أحمد موسى "لا شك في أن الجدل حول الديمقراطية قد تطور وقطع أشواطاً متقدمة وبات الافتراض القديم القائل بأن الحزب الواحد هو الأساس لحل مشكلات السودان مرفوض تماماً، وانتصر الرأي القائل بأن التعددية السياسية والديمقراطية هي الكفيلة بحل مشكلات بلادنا. ذلك أن الديمقراطية بما تتضمنه من مبادئ الحرية والمشاركة والمساواة أمام القانون تزيل الاحتقان والاستقطاب الحاد داخل الدولة وتشعر الجماعات المختلفة بانتمائها للوطن والنظام السياسي"، لافتاً إلى أهمية التأكيد أن الديمقراطية هي عملية مستمرة وتحتاج إلى وقت طويل وتجارب مستمرة.
وأضاف "التدرج مهم جداً. ذلك أن القيام بالخصخصة الفورية ونقل مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص ستنعكس آثاره السلبية على غالبية المواطنين الذين هم بحاجة إلى خدمات الدولة في مسائل تتعلق بحياتهم مثل الغذاء والدواء. ففي الصين مثلاً تقرر أن تنتهي عملية خصخصة القطاع الزراعي في 50 عاماً، لأن الانتقال المفاجئ سيقود إلى عواقب وخيمة على المواطنين".
وأشار موسى إلى أهمية "إعطاء الأولوية لتسوية النزاعات وتحقيق السلام في أنحاء البلاد، وذلك بطريقة تشعر هؤلاء المواطنين بأنهم جزء من مؤسسة الدولة، وهذا لن يأتي إلا من خلال إيجاد صيغة سياسية وإدارية تمكن الجماعات المختلفة من التعبير عن اختلافاتها الفكرية والثقافية وتجعلها أكثر ارتباطاً بالنظام السياسي وأكثر ولاءً له، لأن ممارسة الديمقراطية في ظل وجود هذه النزاعات ستؤدي إلى تدهور الأوضاع الأمنية"، مؤكداً أن وجود ديمقراطية فاعلة يتطلب وجود أحزاب وطنية متطورة تستطيع أن تثري الساحة الديمقراطية وترتقي بمستوى الممارسة، فضلاً عن وجود منظمات مجتمع مدني فاعلة ومستقلة عن السلطة السياسية وعن الأحزاب.
وفيما شدد موسى على أن مستقبل الديمقراطية في السودان يتوقف على الابتعاد من القبلية والجهوية بإعطاء الأولوية لنشر القيم الوطنية واستخدام وسائل الإعلام وقنوات التنشئة السياسية الأخرى لرتق النسيج الاجتماعي والتأكيد على القواسم المشتركة، نوه إلى أن ضمان استدامة الديمقراطية في السودان يتوقف على إيجاد معالجات جذرية للتحديات المتمثلة في النزاعات والحركات المسلحة، وضعف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وانتشار الفساد والفقر وغياب المشروعات التنموية.
إعادة بناء
في السياق نفسه، يشير الكاتب والمحلل السياسي أحمد أبو شوك إلى أن التغيير في أنماط التفكير السياسي والبناء الهيكلي لمؤسسات الدولة السودانية أضحى ضرورة ملحة للخروج من دائرة الفشل السياسي المتكرر إلى رحاب ديمقراطية مستدامة، آخذين في الاعتبار أن السودانيين بدأوا تجربة المشاركة الوطنية في الحكم بانتخابات عام 1948 لاختيار أعضاء الجمعية التشريعية باعتبارها خطوة تأسيسية تجاه الحكم الذاتي في ظل الاستعمار الإنكليزي المصري (1898-1956)، وأعقبتها انتخابات مجلس النواب والشيوخ عام 1953، التي مثلت الانطلاقة الديمقراطية لقيام أول حكومة وطنية منتخبة كان لها شرف إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1956. وجاءت بعدها انتخابات 1958 بوصفها خطوة تجاه تمكين الممارسة الديمقراطية الوليدة، إلا أن الصراع الحزبي على السلطة أدى إلى انهيارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد أبو شوك أن الأساس الهيكلي لدولة السودان خلال المرحلة المقبلة يحتاج إلى إعادة بناء جذرية يصحبها تطور في أنماط التفكير السياسي بعيداً من سياسات المحاور ذات الحمولات الأيديولوجية (يسارية أو يمينية)، مبيناً أنه يفضل أن تمر عملية الانتقال الفكري السياسي عبر ثلاث مراحل رئيسية تتمثل في الانفتاح والاختراق وإعادة التركيز.
وأوضح أن الانفتاح "يقصد به تعزيز التواصل بين المجموعات الفكرية والسياسية الناشطة، بعد أن تقوم هذه المجموعات بإجراء مقاربات نقدية فكرية لبنياتها الفكرية والسياسية وتطور مخرجات تلك المقاربات في شكل منظومات سياسية وفكرية تلبي الحد الأدنى من متطلبات الواقع المعاش في السودان بعيداً من المنطلقات الأيديولوجية المغلقة. ويقصد بالاختراق البحث عن المشتركات الوطنية والتقاطعات الفكرية التي تشكل خطاً ناظماً لحركة القوى القطاعية المؤمنة بضرورة التغيير، في حين يقصد بإعادة التركيز العمل على عزل القوى المتصلبة فكراً والمتطرفة سلوكاً وتحييدها، وتجميع قوى الانفتاح والاعتدال، ثم التوافق على آليات التحول الديمقراطي الجديدة".
وأشار إلى أنه يمكن أن تشكل هذه المراحل الثلاث الضامن الأساس لنجاح التحول الديمقراطي، وإعادة بناء دولة القانون والمؤسسات في السودان، لكن يجب ألا نغفل التحديات الجسام التي تواجه عملية التحول الديمقراطي والتي تتطلب وعياً سياسياً جمعياً حصيفاً من الحاكمين والمحكومين، وأهدافاً استراتيجية واضحة وخالية من شوائب الحمولات الأيديولوجية ليلتف الناس حولها. كما ينبغي أن يكون أداء الحكومة الانتقالية المدنية منضبطاً وشفافاً على مستوى مؤسساتها السيادية العليا وأجهزتها التنفيذية الدنيا.