Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معركة العباءة و"الميني جيب" في فرنسا

كل شيء أضحى يقاس بالمظهر أمام تراجع سلطة العقل والتفكير الحر

ماذا يعني ارتداء الفتيات الفرنسيات المسلمات بشكل جماعة العباءة الإسلامية؟ (رويترز)

ملخص

هذه العباءة التي تلبسها التلميذات المسلمات ليست من تراث اللباس المحلي لنساء بلدان شمال أفريقيا التي ينتمين إليها

يحدث هذا في فرنسا، بلد عروض الأزياء، بلد الخياطة الرفيعة، بلد الموضة، حيث لا حديث في هذه الأيام سوى عن معركة "العباءة الإسلامية" في المدارس الفرنسية.

المظهر قبل المخبر   

كنت على موعد مع طبيب الأسنان، ذهبت إلى العيادة الموجودة في حي شعبي، استقبلتني المساعدة وأدخلتني بكل أدب واحترام إلى قاعة الانتظار، كان الطبيب في جلسة مع مريض قبلي، لا أحد في قاعة الانتظار، كل ما هناك أربعة كراس فارغة وطاولة زجاجية مغبرة عليها نسخة مع المصحف الشريف، وعلى مسند أحد الكراسي علقت زربية للصلاة.

تأملت المنظر جيداً

ديكور العيادة يمنحك شعوراً بمظهر تديني مسبق ومبالغ فيه، هو فخ للمؤمنين البسطاء، حتى الطب لا يمر إلا بالتجارة في الدين.

لقد أصبحت ظاهرة عرض نسخ المصحف الشريف في كل مكان ومن دون تقدير لهذا الكتاب المقدس، في الإدارة وكخلفية في لقاءات تلفزيونية للشخصيات السياسية والإدارية وحتى العادية الانتهازية وفي صالونات البيوت وفي حافلات النقل العمومي، وكأن الجميع يريد أن يقول للجميع إنه هو الأقرب إلى الدين من غيره وهو الأصلح من غيره.

تأملت ديكور قاعة الانتظار داخل العيادة من حولي وقلت في نفسي، "قبل عشرية أو أكثر بقليل، كانت قاعة الانتظار في أية عيادة طبية بطاولات مليئة بحزمة من الجرائد والمجلات المتنوعة في الطب والطبيعة والفنون، كانت ساعة الانتظار فرصة للقراءة والتسلية ومقاومة قلق الانتظار، تحديداً إذا كان الأمر يخص طبيب الأسنان، لماذا يا ترى تغيرت الحال حتى وصلت إلى هذه الحال؟".

كل شيء أضحى يقاس بالمظهر أمام تراجع سلطة العقل والتفكير الحر وارتفاع أسهم تجارة الدين في مجتمع تغيب عنه النقاشات الجادة والعميقة.

وأنا أدقق النظر في ديكور قاعة الانتظار هذه التي يريد منا صاحبها ومصممها أن يبيّن لنا وبفصاحة سياسية أيديولوجية بأننا بين يدي طبيب متدين، وكأننا جئنا نطلب فتوى ولم نأتِ لنعالج ضرساً.

هذه الحال من التدين المظهري الذي أصبح للأسف نعتاً من النعوت الملصقة بصورة المسلم المعاصر ذكرتني بالنقاش الواقع هذه الأيام حول قرار "منع ارتداء العباءة في المدرسة الفرنسية" الذي أصدره وزير التربية غابريال أتال.

ماذا يعني ارتداء الفتيات الفرنسيات المسلمات بشكل جماعي وهن في معظمهن من أصول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، العباءة الإسلامية؟

هذه العباءة في المدرسة الفرنسية ليست لباساً نسوياً طويلاً حيادياً كما هي "الروبات" التي ترتديها الفتيات في الشوارع وفي المحال العامة، إنها لباس بحمولة أيديولوجية دينية واضحة في الفضاء العمومي المدرسي في بلد تقوم سياسته على "اللائكية".

هذه العباءة التي تلبسها التلميذات المسلمات بهذا الشكل وفي هذا الفضاء وبهذه الحمولة الأيديولوجية ليست من تراث اللباس المحلي لنساء بلدان شمال أفريقيا التي ينتمين إليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد بدأت موجة معركة الرموز الدينية في الفضاء الأوروبي بشكل عام والفرنسي خصوصاً، الحجاب والبرقع ثم البوركيني مع بداية الثمانينيات وبالأساس مع وصول "الثورة الإسلامية" الإيرانية إلى السلطة ونهاية عهد الشاه.

هي معركة مفتوحة تدل على زحف خطاب الإسلام السياسي إلى فضاءات الدولة الفرنسية، خطاب يزدهر في المقاهي وفي المدارس وفي المطاعم وفي الإدارات وفي الجمعيات وفي المساجد.

هذا الزحف الرموزي للإسلام السياسي يدل على الإخفاق الفرنسي في تشكيل مجتمع متنوع يعيش تحت دولة "لائكية" تفصل ما بين الديني والسياسي، ما بين الأمور الدينية وأمور الدولة المدنية، إخفاق في الوصول إلى وضع المواطنة قبل الدين.

إن الطبقة السياسية الفرنسية تفقد شيئاً فشيئاً سيطرتها على مؤسسات الدولة الجمهورية، مما ينعش طموح اليمين المتطرف واليسار المتطرف أيضاً فيسيل لعابهما على السلطة بشكل واضح واستعراضي.

إن المجتمع الفرنسي يتفكك شيئاً فشيئاً وهذا ناتج أساساً من غياب أمرين أساسيين، أولاً غياب طبقة الفلاسفة المجتهدين الأحرار القادرين على التفكير في مكونات مجتمع غربي جديد يعيش زمن ما بعد الحرب الباردة الأولى وبداية الحرب الباردة الثانية التي انطلقت بشكل واضح مع صدام هذا الغرب مع روسيا والصين منذ مطلع الألفية الثالثة، ثم ثانياً غياب طبقة سياسية جديدة صادقة وشجاعة قادرة على إدارة الشأن الداخلي لهذا البلد الذي أصبح يعيش وضعاً شبيهاً أكثر فأكثر بأوضاع بلدان العالم الثالث.

اللباس لا يصنع لا الفقيه ولا الراهب ولا الحاخام!

لنتأمل التاريخ الجزائري القريب ونقرأه كدرس في علاقة الدين بالسياسة، علاقة الإيمان بالوطن، كما نفهمها نحن في الجنوب، لقد كانت المجاهدات الجزائريات، ويجب التركيز على كلمة "المجاهدات"، يرتدين ألبسة عادية في أناقة أوروبية عالية، أناقة النضال وأناقة الأخلاق وصرامة الانضباط، نذكّر بأسماء جميلة بوحيرد وجميلة بوباشا وزهرة ظريف وجميلة عمران وحسيبة بن بوعلي وباية حسين وليلى الطيب وغيرهن، وأخريات كن يرتدين اللباس الاجتماعي الثقافي المحلي من البلوزة الوهرانية إلى القسنطينية إلى القبائلية إلى الشاوية إلى المزابية إلى التارقية إلى النايلية، ولم يكن للأيديولوجيا الدينية آنذاك أي تدخل في لباس المرأة، كانت الأخلاق هي الرأسمال الأكبر، كن مجاهدات شجاعات عاديات في لباسهن يدافعن بشراسة عن الوطن ضد الاستعمار الفرنسي المتوحش، يتوجهن لله بقلوبهن العامرة بالإيمان لا بألبستهن الأوروبية أو المحلية ولكن بإقدامهن وتضحياتهن وأخلاقهن، ولم نسمع قائداً في الثورة تحدث عن "طول ميني جيب هذه المجاهدة أو تلك أو عن خصلة شعر أو سالف هذه أو تلك"، لذلك صنعوا المعجزة، نساء ورجالاً، معجزة الاستقلال الذي تسلمه في ما بعد للأسف أصحاب الإسلام السياسي فأفسدوا المشروع وأجهضوا بناء الدولة الحديثة المعاصرة بالانشغال بتوافه الأمور.

مفارقات عجيبة

خلال قرن تقريباً من تاريخ الهجرة الشمال أفريقية إلى فرنسا وعلى رغم أن المستوى التعليمي والثقافي الذي ميّز الجيلين الأولين من المهاجرين كان ضعيفاً ومحدوداً وعلى رغم انتشار العنصرية ضدهم، مع ذلك كان المهاجر من شمال أفريقيا حين يكون على أرض الضيافة يحترم ثقافة البلد المستضيف على جميع المستويات، مما جعل عملية الاندماج غير معقدة، فهو يأكل من أكلهم ويلبس من لباسهم ويتحدث لغتهم ولو بصعوبة وبلكنة ويدين بدينه الإسلامي على طريقة الآباء والأجداد من دون مغالاة ولا تمظهر، وحين يعود هذا المهاجر لبلده الأصلي لقضاء العطلة قد يرتدي اللباس المحلي كالبرنس أو الجلابة أو ما إلى ذلك من ألبسة محلية، ثم وبحلول يوم السفر والعودة للمهجر وقبل امتطاء الطائرة أو الباخرة يلبس ما يتناسب مع طقوس البلد المستضيف.

اليوم كل شيء تغير، فها نحن نلاحظ التشدد الأيديولوجي في ارتداء لباس غريب لا ينتمي أصلاً إلى لباس البلد الأصلي، يلتزم به شبان وشابات غالبيتهم ولدوا في البلد المستضيف، فهم من الجيل الرابع وأصبحوا مواطنين فرنسيين.

في وقت تبحث الفتيات في بلدان الشمال الأفريقي والشرق الأوسط عن سبيل للتحرر ليس من الدين الحنيف ولكن من تلك القيود المظهرية التي يفرضها التدين السياسي المتعصب، يتم اختراق الحجاب بأشكال وطرق تمردية كثيرة حتى أصبح بعضهم يقول "هذا حجاب سافر وهذا حجاب غير شرعي"، على الجهة الأخرى من البحر المتوسط نلاحظ أن الشباب الفرنسي من الأصول الشمال أفريقية يقع ضحية الإسلام السياسي فيميل أكثر فأكثر إلى البحث عن مظاهر التدين في اللباس وفي الخطاب اليومي أيضاً.

وتجد هذه الفئة من الشباب تشجيعاً من قبل تيارات سياسية فرنسية تريدهم لها رأسمالاً من الأصوات في صناديق الانتخابات المحلية والوطنية والأوروبية، لا أكثر ولا أقل، فبمثل هذا التصرف الأيديولوجي يتم يوماً بعد آخر عزل الجيل الجديد من الجالية المسلمة وإبعاده من كل تموقع إيجابي فاعل سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعلمياً في بنية المجتمع الجديد الفرنسي والأوروبي وفي الوقت نفسه يعود بالخير على بلده الأصلي، من دون شك.

إن صورة المسلم المستقبلي التي يحلم أن يراه عليها أبناء البلد الأصلي وقد أصبح مواطناً فرنسياً أو أوروبياً، هي أن يكون مواطناً مثالاً للنجاح الحاسم والكبير في العلوم والفنون والسياسة والاقتصاد، لا أن يكون جندياً ضائعاً داخل معركة "العباءة" الإسلامية في بلد ضاع هو الآخر وسط معاركه النيوكولونيالية في بلدان أفريقية كثيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء