Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البحار" حنا مينه طارت بعض رواياته الأربعين في العاصفة

في الذكرى الخامسة لرحيل رائد أدب البحر لا بد من إعادة قراءته خارج الأطر الثابتة

الروائي السوري حنا مينة ريشة  الرسام عبدالله أرناؤوط (دار الاداب)

ملخص

في الذكرى الخامسة لرحيل رائد أدب البحر لا بد من إعادة قراءته خارج الأطر الثابتة

أظن أن ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته شهدت إقبالاً استثنائياً على قراءة روايات حنا مينه، ربما فاقت نسبة قراءة روايات نجيب محفوظ أو محمود درويش أو عبدالرحمن منيف. ولئن كان الخبر اليقين عند دار الآداب التي نشرت أعمال حنا مينه جميعاً، فها هو نجمه لا يزال يسطع في ذكرى رحيله الخامسة، على رغم التراجع المريع في انتشار الكتاب عربياً، وعلى رغم سنوات الغياب بين عجز الشيخوخة والمرض فالموت. بَيد أنّ ما يُمِضُّ في أغلب الكتابات المتعلقة بذكرى الرحيل هو تكرار التمجيد والمتداول عن روايات حنا مينه، كما هو الأمر عندما تحل ذكرى رحيل أيٍّ من المبدعين الكبار، ليتقوقع الدرس والنقد في أطروحات الماجستير أو الدكتوراه، أو في القليل من المؤتمرات والندوات والمناسبات.

روائي الطبيعة

درج القول إن حنا مينه روائي البحر. ولقد كتبتُ من قبل متسائلاً عما إن لم تكن روايات حنا مينه المتعلقة بالبحر هي أيضاً، وربما أولاً، روايات شاطئ، وروايات بحارة متقاعدين يستذكرون. وإذا كان الطروسي في رواية "الشراع والعاصفة" - 1966 يظل متميزاً في استذكاره بعدما دمرت العاصفة مركبه "المنصورة" وانتهى إلى صاحب مقهى على شاطئ اللاذقية، فها هو صالح حزوم يختفي بعد غرق مركبه في رواية "حكاية بحار" – 1982، ليظهر مع ابنه سعيد في رواية "الرجل الذي يكره نفسه" – 1998، وها هو سعيد نفسه في رواية "الدقل" – 1982 وفي رواية "المرفأ البعيد "– 1983، وهما الجزء الثاني والجزء الثالث من ثلاثية "حكاية بحار"، يواصل سيرة والده.

والبحر في روايات حنا مينه يبدأ من ميناء اللاذقية، وإليه المآب، حتى لو مضى البحّار المغامر إلى ميناء آخر. بل إن رواية "نهاية رجل شجاع" – 1989، هي رواية الميناء. وهذا أيضاً البحار اللجاوي في رواية "الرحيل عند الغروب "– 1992، يستعيد مغامراته البحرية، ومنها الصراع مع العاصفة، كما كان للطروسي، لكن اللجاوي ينتصر. أما القبطان السابق بدر الزرقا في رواية "البحر والسفينة" – 2002، فقد لوّح للبحر أو أدار له ظهراً، مكرهاً، والخطأ يسوطه.

أن يغلب الشاطئ أو الميناء والاستذكار على روايات حنا مينه المعنية، أو أن يغلب البحر، سيّان، ما دام أديب البحر هو أديب البحر، فالسرّاد الألعبان هو الكاتب الذي حذق فن الرواية، فكان حقاً لسهيل إدريس -مثلاً- أن ذهب في أمس بعيد إلى أن مثل حنا مينه في رواياته البحرية مثل همنغواي في "الشيخ والبحر" ومثل ماركيز في "حكاية بحار غريق"، وفي هذا السياق يبرز ما اتهم به الناقد السوري صلاح صالح أديب البحر في كتابه "ممكنات النص" – 2000 بالسطو في رواية "حكاية بحار" على رواية للكاتب الروسي المغمور كوينستكي، وهو ما أغضب حنا مينه ونفاه. واستطراداً أذكر أن حنا مينه كان قد اتّهم عام 1999 السيناريست المصري وحيد حامد بسرقة سيناريو الفيلم التلفزيوني "أنا وأنت وساعات السفر" من رواية "المرأة ذات الثوب الأسود" التي صدرت عام 1996، فرد وحيد حامد بأن عمله يعود إلى عام 1986، وأنه كان قد قدمه إذاعياً عام 1973. وقد نشرت وسائل شتى من بعد اعتذار الروائي للسيناريست.

عالم متلاطم

لا تخلو حياة مبدع كبير من المُلَح أو الصغائر، كما لا تخلو أحياناً من الكبائر. لكن هذا أمر، وذاك العالم الروائي الموّار المتلاطم الذي بناه حنا مينه، أمر. ولئن كان التخفف من عناء الدرس، مع النزوع الإعلامي، يكتفيان بوسم حنا مينه "أديب البحر"، فإن ذلك لا يتعلق إلا بتسع روايات -إذا ما أضفنا "عروس الموجة السوداء" – 1996، إلى ما تقدم ذكره، من أربعين رواية. وفي الروايات الأخرى ما ينهض بأكثر من ركن مكين من أركان العالم الروائي لحنا مينه. فهل تعود الدرجة الخاصة للركن البحري من تلك الأركان إلى جِدته في الأدب العربي، وإلى ما حقق له صاحبه من الفرادة؟

ليس بالبحر وحده يقوم العالم الروائي لحنا مينه، ولا مجده. فثمة أيضاً الغابة التي لا تعدو أن تكون إطاراً في الثنائية الروائية "النجوم تحاكم القمر" – 1993، و "القمر في المحاق" – 2006. فالكاتب نفسه بطل الروايتين، يُلجئه ضيقه إلى بلدة كسب على الحدود السورية التركية التي تتوسط الغابات، وفي بيته تحاكم الكاتب شخصيات رواياته. لكن الغابة في روايات أخرى تكون ما هو البحر في رواياته. وقد جاءت البداية في رواية "الياطر"– 1972، حيث لجأ زكريا المرسنلي إلى الغابة بعدما قتل الخمار اليوناني زخريادس، وفيها كان لقاؤه بالراعية التركمانية شكيبة. وفيها أيضاً أو أولاً تعيد الطبيعة والمرأة تكوين الإنسان، فيتطهر زكريا من عوالق المدينة والماضي. وتعود غابات كسب إلى الحضور في رواية "الفم الكرزي "– 1999، التي تؤرخ لنضال الأرمن والشيوعيين في هذه البلدة من الاستعمار الفرنسي لسورية.

وفي رواية "حين مات النهد" – 2003، يلجأ كامل البهاء إلى الغابة نشداناً للبرء من النساء اللواتي تلاحقه أطيافهن، فيمضي إلى غابة فغابة إلى أن يرميه حارس بجنية الغابة. ويواصل حنا مينه هذا التخييل في الثنائية الروائية "الذئب الأسود" – 2005 و "الأرقش والغجرية"– 2006، لتكون الغابات مراحاً للصيادين والصيادات ومسرحاً لمطاردة الذئب الأسود النادر. وقد ذهب بعضهم إلى أن الغابات الاثنين والعشرين رموز للبلاد العربية، فالروايتان رمزيتان على رغم اللبوس الواقعي، ومنه العشق الذي يجمع الصياد دغمش والصيادة رئيفة، أو الأرقش وفدوى.

في روايات الغابة هذه، كما في روايات البحر قبلها، تتعنون الطبيعة بالأنسنة. ففي رواية "الياطر"، وفي بداية تشييد الكاتب لعالمه الروائي، تتخلق الإنتياسة (السمكة) أنثى، ويتخلق الحوت عدواً، والكلب كذلك. والعاصفة تتخلق امرأة بعد امرأة، صراعاً والتحاماً، في روايات البحر.

ظل الكاتب

أما الفرد فيتجلى في المرأة، ثم في ظل الكاتب الظليل، وأخيراً في الشخصيات المحورية الذكورية. فمن زنوبة في "حكاية بحار" إلى غنوج الزرقا ومنافستها شكوس في "حارة الشحادين" إلى امرأة القبو في "الشمس في يوم غائم" إلى كاترين الحلوة في "الدقل" إلى ماريا في "الشراع والعاصفة" إلى... يبدع حنا مينه في بناء الشخصية الروائية المجبولة من الحب أو الجنس أو الوحشية أو الأمومة... أما ظل الكاتب فهو المهيمن على الروايات السيرية، وما أكثرها. فالطفل في "بقايا صور" وفي "المستنقع" والفتى في "القطاف" هم حنا مينه الذي سيتقنع بأسماء عديدة وأقنعة بالغة الشفافية، مثل زبيد الشجري في ثلاثية "حدق في بيتاخو" أو كرم في "الربيع والخريف" أو فياض في "الثلج يأتي من النافذة" أو مروان الطوراني في "فوق الجبل تحت الثلج" أو عناد الزكرتاوي في "النجوم تحكم القمر" أو...

وتبلغ المطابقة بين حنا مينه وظله الروائي مبلغاً يغدو فيه التقنّع بهذا الاسم أو ذاك بلا معنى، وأقرب إلى السذاجة. لكن ذلك لا ينال من إبداع الكاتب في تعرية الذات، بل هتكها الذي ليس غير وعيها أيضاً. ووعي الذات هذا يسمّى أيضاً بناء الشخصية الروائية النسائية والذكورية، أياً تكن للشخصية درجة البدائية أو الجهالة أو الخبرة أو الثقافة. لقد قدمت روايات عدة لحنا مينه الشخصيات التي لا تُنسى. فعدا عما سبق ذكره من النساء، من ينسى شخصية الطروسي في "الشراع والعاصفة" أو المرسنلي في "الياطر"، أو ديمتريو في "مأساة ديمتريو" أو مفيد الوحش في "نهاية رجل شجاع" أو فارس في "المصابيح الزرق" أو الأب في ثلاثية "بقايا صور" أو...

من قاع المجتمع تطلع أغلب الشخصيات التي لا تُنسى في روايات حنا مينه. وسواء أنتسبت هذه الشخصيات إلى القاع أم إلى القمة أم إلى ما بينهما، فهي تنصهر في حمأة نيران (أفران) المجتمع، مما يسمّى بالصراع الطبقي، باللغة الماركسية العتيدة التي يعتدّ بها حنا مينه، وهو القائل: "إنني واقعي على سنّ الرمح" والقائل: "أنا الكاتب الواقعي الرومانتيكي كما وصفتني الدكتورة نجاح العطار".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا ينتقل الحديث إلى روايات حنا مينه السيرية، وإلى نمط آخر من شخصيات رواياته، ففي ثلاثية "بقايا صور" تحضر شخصية فايز الشعلة وأسبيرو الأعور وبدايات العمل النقابي والبدايات الشيوعية اليسارية التي سيتتلمذ عليها طفل الثلاثية، ليكون المناضل الشيوعي في رواية "الثلج يأتي من النافذة"، وهذا المناضل (الكاتب) المنفي من وطنه سورية إلى بيروت في هذه الرواية هو نفسه المنفيّ من بيروت إلى الصين في ثلاثية "حدث في بيتاخو" – 1995 و "عروسة الموجة السوداء" – 1996 و "المغامرة الأخيرة "– 1997. ويلحق بهذه الثلاثية ما أصنفه جزءاً رابعاً لها وإن يكن قد سبقها إلى الصدور، وهو "الربيع والخريف" – 1984. فالكاتب كرم في هذه الرواية هو زبيد الشجري بطل الثلاثية، بعدما غادر الصين إثر الخلاف الصيني - السوفياتي، إلى هنغاريا. وفي بودابست يواصل ما سنقرأ عن زبيد الشجري، من سيرة الأستاذ الجامعي والكاتب المتفرد الذي لا يحمل شهادة، والعازب الدون جوان النرجسي الذي تتهافت عليه النساء، مثله مثل مروان الطوراني، في "فوق الجبل تحت الثلج" أو جواد في "الفم الكرزي".

بنى الكاتب أجزاء ثلاثية "حدث في بيتاخو" باليوميات التي تسرد سيرته في سنواته الصينية الخمس. ومن غير المفهوم، لا من الكاتب ولا من الناشر، أن نقرأ في يومية 21/9/1960 أن أحداثاً ثلاثة قد طرأت في حياة الكاتب – وليس سوف تطرأ – في إطلالة العام الجديد 1961.

لحنا مينه، بالإضافة إلى أربعين رواية، عشرة كتب أخرى تضيء تجربته في الحياة والكتابة. ولقد قيل في روايات وحياة حنا مينه الكثير، ولأنه سوف يقال أيضاً، وبخاصة في رحاب الجامعات، آثرت أن أسوق ما تقدم في الطبيعة والأنسنة، لعل ذلك يحرّض على قول جديد ومختلف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة