عادت غيوم الخلافات لتهدد جورجيا مرة أخرى، فبعد تلويح رئيسة جمهوريتها سالومي زورابيشفيلي، الفرنسية الجنسية، في مايو (أيار) الماضي بسابق شعارات العداء مع روسيا، رداً على إلغاء الرئيس فلاديمير بوتين نظام التأشيرات بين روسيا وجورجيا واستئناف الرحلات الجوية بين البلدين، تعمدت زورابيشفيلي استفزاز الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" بزيارات بلدان الاتحاد الأوروبي بغير إذن من الحكومة، بحسب ما ينص دستور جورجيا، وكانت تعمدت قبل ذلك في مايو الماضي تأييد التظاهرات المعادية لروسيا في وقت مواكب للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ولرفض الحكومة الجورجية طلب أوكرانيا الانضمام إليها في معركتها ضد روسيا.
ومن المعروف أن الدستور الجورجي يحدد "وظائف تمثيلية لرئيس الدولة في السياسة الخارجية"، شرط أن يتم تنفيذها فقط بموافقة الحكومة، وقد اتخذت في وقت سابق عدداً من القرارات التي تنص على منع سالومي زورابيشفيلي من إجراء زيارات بعض الدول الأجنبية، ولا سيما 10 دول منها ألمانيا وأوكرانيا وإسرائيل، وقد أثارت رئيسة جمهورية جورجيا سخط وغضب الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" بزيارتها إلى ألمانيا في الـ 31 من أغسطس (آب) الماضي بناء على قرار شخصي ومن دون موافقة الحكومة، وذلك بحجة عقد اجتماعات مع القادة الأوروبيين لدعم مسألة الحصول على وضعية جورجيا كمرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ما يستوجب العزل
ويؤكد الحزب الحاكم في جورجيا على أن مثل هذه الأعمال التي تقوم بها رئيسة الدولة هي انتهاك للدستور، أما بالنسبة إلى حظر سفر زورابيشفيلي فقد اعتبر مجلس الوزراء الخطاب الأخير للرئيسة في البرلمان موجهاً "ضد التكامل الأوروبي لجورجيا"، وقد بدأ الحزب الحاكم في جورجيا إجراءات عزل رئيسة البلاد، مؤكداً أن مثل هذه الأعمال التي تقوم بها هي انتهاك للدستور.
وكانت التناقضات اشتعلت في مايو الماضي بين الرئيسة وحكومة جورجيا، إذ انتقدت سالومي زورابيشفيلي في خطابها الرسمي لمناسبة عيد الاستقلال الحزب الحاكم لفقدانه المسار نحو التكامل الأوروبي، وأعربت عن اعتذارها لتقارب جورجيا مع روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أثار ذلك الخطاب السخط والتذمر العام بين الأوساط الحكومية والرسمية، وفي يونيو (حزيران) الماضي استخدمت زورابيشفيلي حق النقض ضد تعديلات قانون الانتخابات، لكن الغالبية الحاكمة في البرلمان استطاعت تجاوز هذا الحق، وقال رئيس الحزب الحاكم إيراكلي كوباخيدزه إن "الحلم الجورجي" يبدأ إجراءات عزل الرئيسة على رغم الحاجة إلى دعم المعارضة بوصفه ضرورياً لتنفيذ الإجراء في البرلمان.
وأدلى رئيس "الحلم الجورجي" ببيان إحاطة في أول سبتمبر (أيلول) الجاري قال فيه إن زورابيشفيلي سافرت لعقد اجتماعات مع القادة الأوروبيين في الـ 31 من أغسطس الماضي للتفاوض على عضوية البلاد في الاتحاد الأوروبي، مضيفاً أن "هذه الزيارات إلى البلدان الأجنبية من دون موافقة الحكومة هي انتهاك جسيم للدستور" من رئيسة الدولة، معرباً عن رفضه ذلك بالقول، "وفقاً لدستور جورجيا فإن الحكومة الجورجية هي الوحيدة المخولة بتنفيذ كل من السياستين الداخلية والخارجية للبلاد"، مضيفاً "هذا أمر يستوجب العزل، فانتهاك الدستور هو أحد سببين لعزل الرئيسة".
غير أن الواقع يقول إن الحزب الحاكم قد لا يستطيع بلوغ مراده نظراً إلى أن النصاب القانوني المطلوب يجب أن يكون ثلثي عدد أصوات النواب، أي 100 صوت، بينما لا يملك الحزب الحاكم سوى 84 صوتاً فقط، وبالتالي فليست لديه أية فرصة لاحتمال التنفيذ.
وعلى رغم ذلك فقد قرر اجتماع المجلس السياسي للحزب الشروع في إجراءات عزل رئيسة جورجيا على أمل إحراز النجاح في استقطاب أصوات المعارضة الراديكالية، وقامت زورابيشفيلي بزيارة إلى ألمانيا في الـ 31 من أغسطس، وفي أول سبتمبر الجاري قصدت بروكسل لإجراء محادثات مع رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل، ومن المقرر أن تزور سويسرا في الـ 16 من سبتمبر الجاري، وبولندا بين الثاني والثالث من أكتوبر (تشرين الأول)، وبلجيكا بين الرابع والسادس من أكتوبر، والدنمارك من الـ 31 من أكتوبر وحتى الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) ، والإمارات العربية المتحدة في الأول والثاني من ديسمبر (كانون الأول) خلال هذا العام 2023.
أيهم أكثر غربية؟
وجاء في الموقع الإلكتروني الخاص بمجلس الوزراء الجورجي أن "الرئيسة مُنعت أيضاً من القيام بزيارات رسمية إلى بلغاريا يومي الـ 27 والـ 29 من سبتمبر الجاري، وإلى جمهورية التشيك يومي الـ 10 والـ 12 من ديسمبر المقبل، وإسرائيل يومي الـ 18 والـ 20 من الشهر ذاته".
إذاً فقد انتهكت رئيسة الجمهورية الحظر في واقع الأمر، لكن أسبابها كانت سياسية بحتة، وتستمر هذه المواجهة منذ أعوام عدة على رغم أنه عندما ترشحت زورابيشفيلي للرئاسة عام 2018 كمرشحة مستقلة، دعم حزب "الحلم الجورجي" ترشيحها ولكن منذ ذلك الحين تباعدت مساراتهما.
ويتبادل حزب "الحلم الجورجي" وزورابيشفيلي غير الحزبية الاتهامات بمحاولة الاستيلاء على أمجاد التكامل الأوروبي، فقد سافرت الرئيسة إلى برلين وبروكسل فقط لإقناع العواصم الأوروبية بمنح جورجيا وضعية المرشح الرسمي للاتحاد الأوروبي قبل نهاية العام، ومع ذلك يقول "الحلم الجورجي" إن نشاط زورابيشفيلي لن يسفر إلا عن الإضرار بالقضية، "إذ إن الحزب الحاكم لا يريد قبول حقيقة أن زورابيشفيلي تحاول الظهور في صدر الساحة السياسية بأية وسيلة خلال نهاية فترة ولايتها الرئاسية باعتبارها المناضل الرئيس لمستقبل جورجيا الأوروبي".
وقال عالم السياسة بمركز "أوروبيلي" في يريفان جوني مليكيان "إن قرار الرئيسة القيام بزياراتها الأوروبية على رغم الحظر الذي فرضته الحكومة يشير إلى أنها لن تترك الساحة السياسية، وتعد احتياطاتها للمستقبل كمعارضة".
ووفقاً لمليكيان فإن منطق السلطات الجورجية بسيط ويتلخص في أن زورابيشفيلي تحاول تشويه سمعة الحزب الحاكم، وبالتالي عرقلة عملية التكامل الأوروبي التي تروج لها الحكومة الجورجية أيضاً، ويحاول كل من الأطراف إثبات أنه الغربي أكثر، فإذا تمكن "الحلم الجورجي" من تحقيق مكانة المرشح لجورجيا قبل انتخابات عام 2024 فستكون هذه ورقة رابحة كبيرة له، كما أن المعارضة أيضاً تعلن تأييدها لأوروبا، ولكن من المفيد لها ألا تصبح جورجيا مرشحة قبل الانتخابات، فعندها سيكون من الممكن القول إن الحزب الموجود في السلطة قد فشل في مهمته.
وبحسب مليكيان فإن "هناك حرباً دائمة تدور بين الرئيس والبرلمان" في البلاد، مضيفاً "لقد بدأ شهر سبتمبر بالنسبة إلى جورجيا باضطرابات أعتقد أنها ستستمر خلال الأشهر القليلة المقبلة".
من يهمل الماضي؟
وعلى صعيد مواز كتب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيديف في مقالة نشرتها وكالة أنباء "تاس" الرسمية نقلاً عن المطبوعة الأسبوعية "وقائع وبراهين" في الـ 23 من أغسطس الماضي أن فكرة ضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إلى روسيا يمكن تنفيذها إذا استمر الغرب في تأليب الأوضاع في جورجيا، ويذكر ميدفيديف كيف وصف الرئيس جورج بوش (الابن) رئيس جورجيا الأسبق ميخائيل ساكاشفيلي بأنه "الرجل الطيب"، في ما أعلن عن رغبة غالبية الجورجيين بأن يكونوا على علاقة جيدة مع روسيا.
واستطرد، "نحن لا نحتاج إلى تكرار تاريخ عام 2008، ونحن على استعداد لحل المشكلات على طاولة المفاوضات بروح ميثاق الأمم المتحدة، ولكن إذا أصبحت مخاوفنا حقيقية فلن نتردد، وفي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية يتعين علينا أن نبذل قصارى جهدنا لحل هذه المشكلات".
وقال المسؤول الروسي الذي تحول منذ بداية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا إلى موقع المتشدد، إن فكرة الانضمام إلى روسيا لا تزال تحظى بشعبية وقد يتم تنفيذها إذا كانت هناك أسباب وجيهة لذلك، مؤكداً أنه على يقين من أن "هذا التحول في الأحداث بالنسبة إلى الغرب سيكون إخفاقاً مخجلاً آخر ورمزاً جديداً لخسارة كارثية للنفوذ".
وأضاف أن التاريخ يعاقب بشدة كل من يهمل دروسه، محذراً من ضرورة أن يعلم الغرب أن روسيا أوقفت الهجوم على تبليسي عام 2008 عندما تمكنت من القضاء على التهديدات، "لكن الوضع يتفاقم الآن بصورة نشطة مرة أخرى من أجل خلق بؤرة جديدة للتوتر قرب حدودنا إضافة إلى الجناح الأوكراني، وهناك حديث مرة أخرى عن احتمال انضمام جورجيا إلى الـ ’ناتو‘ وهكذا اندلعت دفقات الخوف من روسيا".
وكانت جورجيا أعلنت "أنها ستستعيد السلامة الإقليمية للبلاد"، وقال رئيس الوزراء إيراكلي غاريباشفيلي في الذكرى السنوية الـ 15 لبداية الصراع، "نحن مدفوعون بالاعتقاد الثابت بأن جورجيا السلمية والموحدة والقوية والمتقدمة هي أفضل احتمال للجورجيين والأوسيتيين والأبخاز وجميع الشعوب التي تعيش على أرضنا، ونبذل كل شيء لجعل هذا الهدف حقيقة واقعة في أقرب وقت ممكن".
وقد أشارت أبخازيا إلى أنها لن تكون جزءاً من روسيا فهذا يتعارض مع دستور البلاد، أما في أوسيتيا الجنوبية فقد أثيرت مسألة الانضمام إلى روسيا العام الماضي قبل انتخاب رئيس الجمهورية حتى تم إعلان استفتاء حول الموضوع، ومع ذلك فقد اعتبر رئيس الدولة المنتخب آلان غاغلويف أن من الضروري التشاور أولاً، مما يعني أنه قد "أعذر من أنذر".