Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تدلنا كروية الأرض على طبيعة الكون اللامتناهية؟

يتجلى في هيئات شتى ويحمل في رمزيته من المعاني ما يلائم طبيعة الوعي الإنساني وتصوراته المذهلة

كوكب الأرض الذي حير العلماء والفلاسفة (غيتي)

ملخص

يتجلى في هيئات شتى ويحمل في رمزيته من المعاني ما يلائم طبيعة الوعي الإنساني وتصوراته المذهلة

تعود الناس أن يتصوروا الأرض تصوراً يناسب اقتناعاتهم الوجدانية العميقة. غير أن العلوم أثبتت لنا أن الاقتناع الوجداني يخالف المعطى العلمي الذي لا يلبث أن يخضع لمنطق التحقق الدحضي المبني على تناقض الأدلة أو تكافئها. لا ريب في أن الجميع يدركون اليوم أن الأرض كروية. غير أننا غالباً ما نكتم حشريتنا، فلا نسأل عن سبب كرويتها، إذ إن مثل هذا السؤال يربكنا أشد الإرباك، ويذكرنا بسؤال الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646-1716) الذي طرحه في عام 1714: لماذا ثمة شيء ما عوضاً بالأحرى عن العدم؟ Warum ist überhaupt etwas und nicht vielmehr nichts ?.

من المؤكد أن مثل هذا السؤال يفقد شرعيته حين يخرج من دائرة الاستقصاء العلمي المحض. الواضح أن العدم، في نظر الفلاسفة، أيسر على الفهم من الوجود المعقد. وما كروية الأرض سوى وجه من وجوه الوجود المربك هذا. ذلك بأن الشكل الكروي يتكرر في الكون الأرحب، على هيئات شتى، ويحمل في رمزيته من المعاني ما يلائم طبيعة الوعي الإنساني الذي يطيب له أن يسند إليه ضروباً مذهلة من التصورات. الثابت في هذا كله أن كروية الأرض لا تدل بحد ذاتها على حقيقة ماورائية واضحة المعالم. بيد أنها لا تلبث أن تستثير فينا، على رغم حيادنا العلمي الموضوعي، صوراً فكريةً تتجاوز ماديتها الجغرافية المحض.

هل تكون الكروية الشكل الوحيد الممكن؟

يجمع العلماء على أن الأرض كروية بسبب من قوة الجاذبية التي تمنعها عن اتخاذ شكل آخر. من جراء الضغط الجاذبي الفضائي الذي تخضع له الأرض، تكونت عناصرها منذ حوالى أربعة مليارات سنة ونصف من شتيت الأجسام المتناثرة في الفضاء. ومن ثم، يبدو الشكل الكروي أقرب الأشكال الممكنة في تطور الظاهرة الكونية هذه، إذ إن الطبيعة الخاضعة لقانون الجاذبية تميل فطرياً إلى التكوين الكروي. المثال على ذلك كثرة الأجسام الفضائية الكروية المعلقة في الفضاء.

كلما تكثفت المادة، استقطبت القوة الجاذبة أجساماً وعناصر متناثرة في الفضاء، ونحتت منها كوكباً كروي الشكل. الحقيقة أن الجاذبية الفضائية قوة عمياء تفتقر إلى الإبداع النحتي، إذ يفضي عملها إلى شكل واحد، ألا وهو الشكل الكروي. حين تجتمع كمية كافية من العناصر الصلبة، تمارس الجاذبية قوتها الاستقطابية، فتجذب هذه العناصر جذباً تتساوى طاقته من كل الأطراف وفي كل الاتجاهات، بحيث تنعطف الكتلة المادية المنجذبة إلى الوسط المركزي. من الطبيعي، والحال هذه، أن ينشأ شكل واحد من أشكال ائتلاف العناصر المنجذبة: الكوكب الكروي. أما إذا أردنا شكلاً هرمياً، على سبيل المثال، كان لزاماً على الطبيعة أن تستثير ضرباً آخر من الجاذبية يستقطب استقطاباً متنوع المقادير، بحيث تفوز بعض أطراف الكتلة المنجذبة بقوة استقطابية متفوقة تجعلها تتكون في هيئة الهرم. وهذا أمر محال بحسب قوانين الجاذبية الكونية المعروفة. لا بد هنا من الإشارة إلى أن الأرض ليست على هيئة كروية مثالية، إذ إن العلماء لاحظوا بعض التباين في جذب الأطراف جعلهم يعاينون امتداداً طفيفاً في القطبين المتقابلين يكاد يفضي إلى شكل بيضوي أو إهليلجي.

أما الأمر المستغرب في هذه المسألة فقول بعضهم بسطحية الأرض، إذ نشأت في عام 1956 جمعية أميركية Flat Earth Society تؤيد مبدأ الأرض المسطحة، وتسوق الأدلة على زيف الشكل الكروي. غير أن هذه الأدلة لم تثبت علمياً، على رغم إصرار أهل التسطيحية flat earthers على النظرية القائلة بأن امتداد النظر الأفقي وإمكان الطيران الآلي وغيرها من الظواهر الطبيعية تبطل مبدأ الكروية.

الانبساط والانقباض في الشكل الكروي الكوني

لا بد لنا أيضاً من النظر في المدى الأرحب اللامتناهي الذي يحتضن ما ندعوه بلغتنا المألوفة الكون الأكبر. ذلك بأن خلاصات الاكتشافات الفضائية الأحدث تدلنا على أن الكون لا يمكن أن يقيده حد مكاني، ولو أن حده الزماني أضحى معلوماً (حوالى أربعة عشر مليار سنة). تقترن مشكلة الحد المكاني باستحالة تصور ما هو قائم وراءه، حتى لو استخدمنا تقنية التصوير الهولوغرافي التي ابتدعها العالم الفيزيائي الهولندي غرارد هوفت (1946-....) وجودها العالم الفيزيائي الأميركي ليونارد ساسكيند (1940-....) من أجل قياس كمية العناصر المحتشدة داخل جسم من الأجسام بكمية العناصر المجتمعة على سطح هذا الجسم عينه. لذلك يميل العلماء إلى القول بالانبساط والانقباض في كتلة الكون الرهيبة. وقد يكون الانبساط أو التوسع ناجماً عن طاقة الفراغ التي أتت بها نظرية الكوانتم أو الكم الفيزيائية quantum physics.

نظرية تعدد الأكوان

غير أن أخطر الأقوال تنطوي عليها نظرية تعدد الأكوان multivers، إذ تعتمد على التضخم الذاتي الذي يختبره الكون في حراك قواه الجاذبة والنابذة. يوجز الباحث الأميركي توم سيغفريد نظرية تعدد الأكوان في كتابه الشهير "عدد السماوات: تاريخ الكون المتعدد والسعي إلى فهم الكون" The Number of the Heavens. ولا يلبث أن يسأل: "لماذا استقرت الطبيعة على الثوابت الأساسية هذه؟ لماذا ينطوي كوننا على زمن كاف من أجل خلق النجوم والكواكب؟ لماذا تضيء النجوم على هذا النحو، مستخدمةً، على نحو دقيق، كمية الطاقة التي تحتاج إليها؟ جميع هذه الموضوعات مسائل ليس عندنا أجوبة عنها في نظرياتنا الفيزيائية". ومع ذلك، يخلص الباحث إلى استخراج تفسيرين ممكنين: يبين لنا الأول أننا ما زلنا نحتاج إلى نظريات جديدة أوثق وأفعل حتى نشرح خصائص الكون الذي نعرفه اليوم؛ أما الثاني فيدلنا على أنه من الجائز علمياً أن ينسلك الكون الذي نحيا في رحابه انسلاكاً طبيعياً في سلسلة عظيمة من الأكوان المختلفة، ولو أننا نختبر اليوم أفضل أصناف الحياة على الكون الأنسب والأمتع.

الشكل الكروي أنسب الأشكال الممكنة

لا ريب في أن العبرة الأولى التي يمكننا أن نستخرجها من كروية الأرض تملي علينا أنها الشكل الأنسب الوحيد الذي يلائم طبيعة الأجسام الحية التي نحملها في هيكلنا البيولوجي. تصوروا أن الأرض مسطحة، وأنها تطفو أو تسبح في الفضاء من جراء توازن دقيق في الجاذبية يخفى على أذهاننا! كيف لنا حينئذ أن نقتنع بحدودها التي تتماهى بالهاوية الكونية من كل طرف من أطرافها؟ هل نستطيع، والحال هذه، أن نمنع الناس عن القفز الانتحاري في الخواء الفضائي؟ هل يمكننا أن نتصور وضعية المدن التي تحاذي الأطراف الحدودية؟ هل يجوز لنا أن نتفحص الغلاف التحتي الذي تحتضنه السماكة الضخمة في قشرة الأرض؟ إذا لم تكن الأرض كرويةً، استطاع كل إنسان أن يذهب إلى أقاصي الأطراف الحدودية ويرمي منها كل النفايات السامة. أستصعب أن يتصور الناس أجساماً فضائيةً في هيئة السجادة السحرية السابحة في محيط الكون الرحيب.

صعوبة الاستفسار العقلاني عن الأصل والغاية

أقف عند هذا الحد من تخيل المشاهد الطبيعية والحياتية الافتراضية المقلقة التي تنجم عن احتمال الأرض المسطحة. ما يعنيني في التأمل التخيلي هذا أن أستخرج الدلالات الرمزية الممكنة التي تنطوي عليها كروية الأرض. من أخطر حقائق الكروية أنها تبطل، على الأقل نظرياً، مبدأ البداية والنهاية. بخلاف الأرض المسطحة التي تدل حدود أطرافها على البداية والنهاية، تضطرنا الأرض الكروية إلى الإعراض عن تصور البدايات والنهايات. أما حين نتوسع في تصور دائرية الكون الفسيح، ونربط كروية الأرض بهذه الدائرية، فلا نملك إلا أن نستنتج أن الكون مبني على خلفية اللامتناهي اللامحدود.

لا ريب في أن نظريات الكون والمادة والزمن والحركة تتضارب تضارباً خطيراً، إذ إنها تعجز عن حسم المسائل الجوهرية التي تتعلق بوثوقية المعطيات العلمية. يعلم الجميع أن العقل البشري لم يرصد إلا جوانب محدودةً من رحابة الكون، وأن المبادئ الفيزيائية التي نعرفها حتى اليوم لا تنطبق إلا على التصورات العلمية السائدة في حضارتنا الإنسانية الراهنة. قد تأتي حضارات إنسانية أخر وتختبر اختبارات علميةً مختلفة. وقد تطل علينا من الفضاء الأعلى كائنات غير إنسانية تحمل في بنيانها ما نعجز اليوم عن تصوره وتعقله وتحليله. في جميع الأحوال، تفرض علينا الحكمة العلمية أن نعتصم بما اكتسبناه اليوم من حقائق العلوم الجزئية الخاضعة للتعديل الإصلاحي.

الثبات والحركة في وضعية الأرض

من الضروري إذاً أن نتفكر في كروية الأرض ودائرية الكون الفسيح بالاستناد إلى ما اكتسبناه من فرضيات العلوم في زمنيتها الراهنة. أعتقد أن كروية الأرض تعفينا من إرباكات الحدود، من غير أن تريحنا من لغز رمزيتها المشرعة الآفاق. ذلك بأن الدوران السريع الذي يجعلنا نختبر الكروية في شكل السطحية الممتدة يفرض علينا أن نتصور في الوقت عينه منطقين متعارضين: منطق الثبات، ومنطق الحركة. كل شيء حولنا وتحتنا وفوقنا يتحرك ولا يتحرك في الآن عينه بفضل الكروية التي تتيح تجاوز هذين المنطقين. ومن ثم، يمكننا أن نستخرج من وضعية الكروية حقيقةً رمزيةً أخرى تملي علينا أن نقبل تلاقي الأضداد تلاقياً يذكرنا بحكمة الفلاسفة الإغريق القدماء الذين كانوا يصرون على مبدأ التناقض اللصيق بطبيعة الكينونة والوجود والحياة. كان الفيلسوف الإيطالي نيقولاوس الكوزاني (1401-1464) يبحث عن دليل توافق الأضداد coincidentia oppositorum في الجمع الحصيف بين الدائرة والخط المستقيم، مبيناً أن اتساع خط الدائرة اتساعاً مطلقاً يجعله، من حيث البعد اللامتناهي، يشبه الخط المستقيم.

تجليات الكروية في طرائق التفكير المعتمدة

خلاصة القول في هذا كله أننا محكومون بالتفكير المستند إلى تصورات الكروية الكونية. من محدودية وجودنا الأرضي أننا لا نستطيع أن نتجاوز الكروية التي طبعت فكرنا وعقلنا ورؤيتنا. الثابت الحق أن هذه الكروية تناسب أفق الطموح الفكري الأقصى. غير أننا نقول هذا القول، وفي خلفية تفكيرنا ما تعودنا أن نتصوره في مثال الأفق الفكري. لو كانت طبيعة الكون الذي نعرفه بعض المعرفة مختلفةً اختلافاً كلياً، لكان من الممكن أن نتصور تصوراً فيزيائياً يغير طرائق تفكيرنا السائدة. لذلك لا بد من الاستفسار عن مدى التطابق بين كروية الأرض ومناهج التفكير الإنساني. إذا سلمنا بأن الكروية أفضل الممكن في أفضل العوالم الفيزيائية الممكنة، فهل يجوز لنا أن نستنتج من ذلك أن طرائق تفكيرنا هي الأفضل على الإطلاق؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بتعبير آخر، هل تحد كروية الأرض عملية تطوير طاقات التفكير التي يمكن أن نعثر عليها في آفاق الوضعية الفيزيائية السائدة في الكون المعروف؟ أعتقد أن مثل هذا السؤال يتضمن فرضيةً خطيرةً تقضي بالقول إن كل الثورات الفكرية التي اختبرتها البشرية وستختبرها في المقبل من الأيام لن تتعدى الحدود التي رسمتها قوانين الكون الفيزيائية، ومن بينها كروية الأرض التي تؤثر في طرائق تفكيرنا تأثيراً حاسماً قاطعاً.

وعليه، ينبغي أن نعتصم بالفطنة والحذر حين نتأمل في الخلاصات التي يمكن أن نستلها من هذه الكروية. في مقدمة هذه الخلاصات التصورات المتافيزيائية الماورائية الغيبية التي يطيب لبعض الناس أن يركنوا إليها من بعد أن يعاينوا فضائل الكروية في ضبط الانتظام الكوني، وفي إغناء الاختبارات الوجودية والعلمية والعملية. ليس لنا أن نستنتج من جمالية الكروية وجدارتها الإبيستمولوجية وخصوبتها المعرفية وفائدتها التطبيقية أي تدبير متافيزئي يتخطى مستوى الاعتراف بالإتقان العظيم الذي نشأ عليه الكون المعروف. كل مسعًى فكري يتجاوز حدود الإقرار بروعة الهندسة الكونية إنما يدخل في نطاق الاختبارات الوجدانية الخاصة الحرة التي تغني وعي الإنسان من غير أن تكره العقل العلمي الموضوعي المحايد.

أعود إلى ما قلته في مقدمة المقال لأبين أن العكس صحيح أيضاً، إذ إن مادة العلم "الخام" تخضع غالباً لتفسيرات المفسرين الذين يتجاوزون ما تنطوي عليه خلاصات البحث العلمي في أحدث حقول الاستقصاءات الفيزيائية. المثال على ذلك أن بعض الناس يعاينون في عظمة الكون دليلاً دامغاً على ضرورة العقل الهندسي الإلهي، في حين يكتفي بعضهم الآخر بامتداح العظمة الكونية من غير المجازفة المتافيزيائية. أعتقد أن النزاهة العلمية تقتضي احترام الرأيين، إذ إن الحسم في الماورائيات أمر شبه مستحيل. أما السر الأعظم فالرحابة الكونية التي لا حد لها، وقد انبسطت انبساطاً نعجز عن تصور البديل الملائم عنه. ذلك بأن سؤال العدم الأصلي يربك العقل على قدر ما يستثير الحشرية الاستفزازية. حين ندرك أننا مبحرون في محيط الكينونة، لا يليق بنا أن نعود إلى الوراء عوداً افتراضياً من أجل متعة الاستفسار الترفي. لا ريب في أن جميع الأسئلة مباحة في حقل البحث الفلسفي. غير أن السؤال الفلسفي الأخصب ينطلق من الاعتراف بأن العدم احتمال عبثي، وبأن الوجود المختبر أضمن ميادين التفكر السليم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة