ملخص
على رغم زيادة أسهم الكاتب الياباني كوبو آبي في بورصة نوبل للأدب لكن العالم خسره قبل التتويج بها.
عندما رحل الكاتب الياباني كوبو آبي في عام 1993 كان قراء كثر يعرفونه في العالم ولا سيما في أوساط النخب تحديداً وربما فقط من خلال روايته الأشهر "امرأة الرمال". بل ربما كان كثر من هؤلاء يعرفونه بشكل أفضل من خلال الفيلم الذي اقتبسه مواطنه المخرج هيروشي تيشيغاهارا، عن الرواية نفسها وعرض في إحدى دورات مهرجان "كان" أواخر القرن الماضي.
ولقد أسف كثر من هؤلاء وأولئك لرحيل آبي المبكر في وقت كان يبدو من الأسماء الجدية للفوز بجائزة نوبل الأدبية أسوة بالكاتب الياباني الآخر كنزوبورو أوي الذي منذ فاز بالجائزة وهو لا يكف عن التصريح بأن آبي يستحقها أكثر منه.
ومهما يكن من أمر وعلى ضوء المكانة التي ترسخت مع الوقت لـ"امرأة الرمال" ثم على ضوء الحديث الدائم عن ترشيح صاحبها لنوبل، راح العالم يتعرف أكثر وأكثر إلى ذلك الكاتب الذي لقب بـ"كاتب الرؤى الكابوسية" في بلاده كما في الخارج، وذلك انطلاقاً من فهم راح يتعمق بالتدريج لمجمل أعمال آبي الروائية. تلك الأعمال التي تنم عن رؤى كابوسية موروثة في اليابان من الدمار الذي تسببت به قنبلتا هيروشيما – ناغازاكي وطبع أجيالاً بأسرها من اليابانيين خالقاً في الأذهان خراباً لم يكن ثمة ما يضاهيه في تاريخ ذلك البلد.
بدلاً من التعاطي المباشر
والحقيقة أنه وخلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وفي وقت جابه فيه كثر من المبدعين اليابانيين تلك اللحظة القطيعة في تاريخهم والتي مثلها الانفجاران النوويان، كان ثمة من بين كبار المبدعين من هم على شاكلة كوبو آبي، استبدلوا التعاطي المباشر مع الحدث الحاسم في تاريخهم، برمزية تمازجت مع نوع من استسلام وجودي يصعب القول إنه موروث من تلك الوجودية الأوروبية، حتى وإن كان في مقدورنا في مجال ما أن نقاربه من وجودية أدب أوروبي ظهر في الفترة عينها تقريباً.
ولا شك أن في "امرأة الرمال" ما يؤكد هذا حتى وإن كان ثمة في الفيلم الذي حقق انطلاقاً من الرواية، وبنفس العنوان طبعاً، صحراءين أساسيتين ربما يصح أن نعتبر إحداهما حقيقية بينما من المؤكد أن الثانية جوانية (باطنية) علماً أن الفيلم، وفي بعده البصري الذي خدم موضوع الكاتب بشكل أفضل، أقام قسمة عادلة بين البعدين، ما مكن المتفرجين من إدراك مرامي الكاتب بشكل أفضل، وذلك لأن الصحراء الثانية والأكثر أهمية أتت هنا صحراء جوانية تنطلق من داخل الشخصيات المعنية إلى الخارج بأفضل وأعمق مما تفعل الصحراء الحقيقية الأخرى التي يقع مكان "الحدث" على تخومها.
قرية رمال نائية
ونتحدث هنا طبعاً عن تلك القرية النائية على رغم وقوعها عند ساحل بحري، والتي يتوجه إليها نيكي عالم الحشرات – والذي يمكن اعتباره (أنا آخر) للكاتب الذي كان بدوره شديد الاهتمام بذلك العلم - بحثاً عن حشرات غريبة شديدة الخصوصية، ولكن الحافلة التي من المفترض أن تعود به، تفوته فيسعى للحصول على مأوى لتلك الليلة في قرية مجاورة ويتوجه إلى نزل يخص امرأة تعيش وحيدة بعد أن فقدت زوجها وأولادها في عاصفة رملية اجتاحتهم. وتعمل تلك المرأة الآن لحساب القرية في جمع وتنقية وتجفيف أكوام من الرمل تضعها في أكياس لتستخدم في البناء وفي صناعة الإسمنت. علماً أن جمعها للرمال على تلك الشاكلة يحفظ بيتها كما القرية كلها من أن تغمرها الرمال المتحركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولما كان نيكي حيث آوى تلك الليلة لا يصل إلى مكان نومه إلى على سلم من الحبال، يلاحظ في صباح اليوم التالي حين يريد الخروج للحاق بالحافلة، أن أهل القرية قد قطعوا الحبل ما يجعله أسيرهم ولا سيما أسير كثبان الرمال الهائلة التي تحيط الآن أكثر وأكثر بالبيت والقرية. فيحاول الفرار بكل الوسائل الممكنة لكنه يجد نفسه عاجزاً عن ذلك. وهو إذ يشعر بالرعب والتعب يطلب القرويون من المرأة إبقاءه عندها كي يساعدها في عملها ويرتبط بها في نهاية الأمر. يتمرد نيكي أول الأمر، على ذلك المصير الذي يذهله وما كان له أن يتوقعه ويحاول الهرب من جديد لكن كل محاولاته المتكررة تفشل. وإذ يكتشف أن وجوده كما وجود المرأة الآن مرتبط بالقرويين يخضع لهم في نهاية الأمر ويبقى.
امرأة غير متطلبة
بالنسبة إلى المرأة لا يبدو أنها كثيرة التطلب فهي خاضعة لما يملى عليها بل إنها وبالتدريج تشعر بانجذاب نحو "الضيف" وقد بات مالئاً حياتها... ولاحقاً ستحمل منه وفي اليوم الذي يفترض أن تضع فيه طفلهما، يهرع القرويون للذهاب بها إلى طبيب القرية، لكنهم ينسون رفع حبل السلم وهكذا يجد نيكي نفسه مطلق اليدين حراً في الحركة والفرار أخيراً، لكنه لا يفعل! بل يفضل عن طيب خاطر انتظار عودة المرأة والطفل ليعيش بقية حياته مع... امرأة الرمال.
ومن الواضح بالطبع هنا ذلك البعد الوجودي الرمزي الذي تتخذه هذه الحكاية ولا سيما في اليابان التي بات التصحر فيها سيكولوجياً منذ فقدت وهجها القيم، لكن هذا لا يعني بالتأكيد أن ثمة في الرواية، نوعاً من حنين ما، إلى عصر ذهبي. هناك بالأحرى نوع من استسلام أمام الواقع الماثل. ومن الواضح أن الرمال التي تعمل المرأة على مقاومة تغلغلها في الأجساد والزوايا إنما هي ذلك الخواء الذي وعدت اليابان به، لكن المرأة، وفي رمزياتها المتعددة، تمضي وقتها بعدما جردتها الحياة من عائلتها القديمة وألقت بها وحيدة في ذلك المكان المنعزل، إلى كونه بعيداً من أي عمران، إلى ذلك المكان الصحراوي – وعلى أكثر من صعيد – جاعلة منها الفاعل الذي يسعى من دون وعي مدرك بذلك إلى إنقاذ ما تبقى من حياة العمران، على ضآلته، أداة منع الرمل من غزو كل شيء جوانياً وبرانياً. وهي لأنها تمكنت من خلال وحدتها وتعبها اليومي من أداء المهمة الموكولة إليها، ها هي تكافأ بتكوين عائلة جديدة.
تفاؤل ما
فهل معنى هذا أننا في إزاء فيلم متفائل يغوص في معانيه مترابطة ببعضها البعض؟ هذا على أية حال ما يمكن اقتراحه، إذ كان ذلك في حقبة كانت تشهد محاولات يابانية – ناجحة على أية حال – للخروج من الأزمة الاقتصادية – الأخلاقية، العضوية التي خلفتها هزيمة ودمار هذا البلد (الجزيرة) بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن هنا اتسمت هذه الرواية بخصوصية فريدة من نوعها حيث بدا منطقياً النظر إلى المصير المزدوج لامرأة الرمال وعالم الحشرات بكونه نوعاً من ذلك اليأس الاستسلامي المريح. وهو أمر أكدته توجهات كوبو آبي التي راحت تكتشف تباعاً بعد أن جرى التعرف إلى تلك الرواية الغريبة الأولى، وبات ينظر إلى "وجوديتها" كسريالية ولكن على طريقة يابانية جديدة.
والحال أن كوبو آبي (1924 – 1993) واسمه الحقيقي آبي كيموفوسا، وإن فاتته جائزة نوبل فإنه فاز في اليابان بأرفع الجوائز الأدبية وعلى رأسها طبعاً جائزة آكوتيغاوا. وهو كان شاعراً وناقداً وروائياً وكاتباً مسرحياً. وهذا الكاتب الذي ركز في معظم نصوصه على عزلة الفرد في المجتمعات الحديثة، ولد ونشأ في منشوريا وليس في اليابان، إنما لأبوين يابانيين وكان أبوه طبيباً ومدرساً للطب في الجامعات المنشورية. وهو منذ صباه الباكر اهتم بالرياضيات لكنه اهتم بالأدب الأوروبي والأميركي وقرأ نصوص كافكا وإدغار آلن بو وريلكه ودوستويفسكي ولويس كارول ما وجهه إلى الكتابة منذ عودته إلى اليابان عام 1941، حين راح يدرس الطب في جامعة موسكو ويعزز اهتمامه بعلم الحشرات.
شيوعي مطرود
انتظر كوبو آبي عام 1947 قبل أن ينشر أول قصائده، وعلى رغم أن أول زيارة قام بها إلى أوروبا الشرقية أتت مخيبة لتوقعاته فإن لم يتورع بعدها عن الانتساب إلى الحزب الشيوعي الياباني عام 1952 لكنه سرعان ما وجد نفسه يعارض التدخل السوفياتي في المجر عام 1958 فكانت النتيجة أن طرد من الحزب عام 1961 ولم يأسف على ذلك بحسب ما قاله لاحقاً.
إذاً فكوبو آبي في ذلك الحين كانت له مكانته الكبرى في العالم، بل راح بعض نصوصه المسرحية يمثل حتى في صالات تجريبية أميركية حتى قبل نشره روايته التي ستصبح من أشهر أعماله كما من أبرز نتاجات الأدب الياباني الحديث، "امرأة الرمال" التي صدرت في عام 1964 لتترجم إلى لغات عدة.