ليس تفصيلاً أن يكون السودان بعد ثلاثين عاماً، المختبر الحصري لخطيئة الإسلام السياسي في تجريب أعمال الجريمة الكاملة في المنطقة العربية والأفريقية. فما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية في السودان، يمثل اليوم أمثولة حقيقية لمعاينة وهم الإسلام السياسي وهو يتبدّد. فكيفما قلبنا وجوه الاختبار في تلك الخطيئة، ستتمثل لنا حقيقة واضحة وجلية، لا يخطئها أي ناقد بصير، وهي أن الشعارات العمومية لأي قيمة أخلاقية ناهيك عن قيم الإسلام، هي بمثابة خطر وجودي للجماعة الوطنية، ما دام التخلف حاكماً لنظم إدراك الوعي الفردي للبشر في تلك الجغرافيا السياسية.
لهذا، فإن خطورة تجريب الإسلام السياسي وفق هذه الشروط المتحققة لاشتغال آليات التخلف، ستكون مناخاً مثالياً لتحقق الخطايا العظيمة، مع ضمان سياج مقدس في المنطقة المشوشة لوعي المتخلفين حال عجزهم النظري عن فرز الحقائق من الأوهام، أو المعرفة عن الأيديولوجيا في خطاب الإسلام السياسي.
فالتعقيد الذي يقتضي تخصصاً في النقاش العمومي (الذي ليس على كل عامّي استيعاب معناه بالضرورة) حول فقه تنزيل الأحكام وفق علم مقاصد الشريعة كحجة لتبيين الطبيعة غير الشعائرية والمتصلة بالمصالح في الحدود مثلاً، سيشلّ قدرة الشخص العامّي عن إدراك الحقيقة الموضوعية، فيما تضخ الدعاية الموازية في شعارات الإسلاميين استثماراً لشعارات الشريعة في خطاب عاطفي، يتعرض لتأثيره ذلك العامّي 5 مرات في المسجد ومرة أسبوعياً في صلاة الجمعة.
ثمة عناصر أساسية جعلت تلك الخطيئة الكبرى للإسلام السياسي على هذا النحو من الفداحة في حياة السودانيين، أحد هذه العناصرـ أنّ الخطاب الديني له تأثيره القوي في شعب متديّن على نحو حرٍ كالشعب السوداني، إذ إنّ السودانيين الذين ظلوا تاريخياً خارج منظومة الفتوحات الإسلامية (التي تحوّلت مع سيطرة الأمويين إلى منظومة للاستبداد في منطقة المشرق، وتفاقم الأمر بعد ذلك مع الخلافة العثمانية) دخلوا الإسلام عبر الطرق الصوفية بطرائق حرة وطوعية.
لقد كان صبر السودانيين على نظام الإسلام السياسي صبراً طويلاً استنفذ الاحتمالات الممكنة لإحسان الظن الذي متى ما نفذ، تحوّل إلى طاقة جبّارة للمقاومة والثورة، لا سيما أن الشعب السوداني أنجز ثورتين قبل ثورته الأخيرة، على نظامين كانا أقل سوءاً بكثير وبما لا يقارَن مع نظام الإسلام السياسي الذي صمّمه الراحل حسن الترابي وخطط له بانقلاب عام 1989.
والمفارقة هنا هي أنه، حين يقع لهذا الشعب الصابر من أجل إحسان الظن بما ظنه إسلاماً، من الجرائم السياسية ما يرقى إلى حدود قصوى لم تبلغها أي دولة في هذه المنطقة: انقسام الوطن، الحروب الأهلية، الفساد العريض، الهجرة وتدمير الهياكل المؤسسة لمشاريع الدولة، فإن كل التقديرات المستَمَدّة من تاريخ الشعب السوداني وعلاقته بالحرية، كانت تؤكد قيام الثورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما لا يدركه كثيرون من المراقبين في المنطقة العربية هو أن الصبر غير الطبيعي لهذا الشعب على مثل هكذا نظام، ولَّد مع الزمن يقيناً أصبحت معه الثورة خياراً لا بد منه، لكنه ليس كالخيار الذي مثّلته انطلاقة الربيع العربي في المنطقة. فصبر الشعب السوداني على خطايا نظام الإسلام السياسي لثلاثين سنة كان صبراً فرضته طبيعة هذا الشعب على احتمال أقسى الاحتمالات على ما يظن فيه خيراً. لقد كان صبر السودانيين صبراً أقرب إلى الطبيعة الصوفية منها إلى الطبيعة الزمنية، لذا حين أيقن هذا الشعب أن نظام الإسلام السياسي هو محض آلة جبارة للخراب الذي خَبِرَه عياناً، استعاد قدرته على الثورة، ليس على أنها استنساخاً لتجارب الربيع العربي، بل لأن الثورة أصبحت سبباً حصرياً لمنع المجتمع السوداني من الوصول إلى الحلقة الأخيرة في سلسلة الخراب، أي تحوّل المجتمع إلى عصابات نهب وسلب، بعدما أصبح الفرد لا يستطيع أن يتصرف حتى في جزء من راتبه الشهري، لقد تعذر على السودانيين قبيل اندلاع هذه الثورة، مطلق الحياة ومطلق العيش. فحين لا يقدر المواطن أن يسحب من راتبه إلا جزءًا يسيراً جداً بأمر البنك، جزء لا يكاد يجزّئ حاجات يومين، فإن استجماع طاقة الثورة على الخطايا المتراكمة، تصبح الملاذ الوحيد لاستعادة الوطن.
هكذا، يمكننا القول إن ما حدث يوم 17 أغسطس (آب) في حفل التوقيع النهائي للإعلان السياسي والإعلان الدستوري بين العسكريين والمدنيين في السودان، وسط حضور كبير لشخصيات دولية كالأمين العام للأمم المتحدة ورئيس المفوضية الأوروبية ورئيس الاتحاد الأفريقي، إلى جانب رؤساء بعض دول الجوار، سيطوي مرحلة قاسية امتدت لثلاثين عاماً، وسيضع السودان على أعتاب وبدايات جديدة نحو الحرية والسلام والعدالة.