ملخص
في فلسطين 944 موقعاً أثرياً و10 آلاف معلم وما يزيد على 350 نواة لمدينة وقرية تاريخية
داخل متجرها الصغير القريب من منطقة "تل السلطان" في مدينة أريحا شرق الضفة الغربية، تنهمك يسرى العبد (40 سنة) بترتيب التحف والهدايا التذكارية الجديدة ذات الرموز الإسلامية والمسيحية التي صنعتها يدوياً من الصدف وخشب الزيتون، فبعد أن أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) نيتها تسجيل أريحا القديمة "تل السلطان" موقعاً للتراث العالمي في فلسطين، استبشرت العبد بموسم سياحي مزدهر، فالمنطقة بحسب توقعاتها ستعج بعشرات آلاف السياح المحليين والوافدين الذين سيسهمون في دفع اقتصاد المدينة وإنعاش مرافقها السياحية، بخاصة في ظل الأجواء المتشائمة التي كانت مسيطرة على القطاع السياحي نتيجة الاقتحامات الإسرائيلية شبه اليومية والاغلاقات المتكررة لمدينة أريحا خلال الآونة الأخيرة، وتتمثل الأهمية العالمية الاستثنائية لأريحا القديمة "تل السلطان"، وفق موقع المنظمة الرسمي، كونها من أقدم المدن المحصنة في العالم التي تعود للعصر الحجري الحديث (8350 ـ 7000 قبل الميلاد) وتضم سوراً دفاعياً ضخماً وخندقاً مقطوعاً في الصخر وبرجاً دائرياً يحوي مدخلاً وبهواً مسقوفاً ودرجاً داخلياً يتكون من 22 درجة يقود إلى قمة البرج، وهو أقدم درج مبني في العالم.
وسلمت السلطة الفلسطينية "يونيسكو" ملف أريحا القديمة "تل السلطان" أو "تل أريحا" رسمياً لمركز التراث العالمي في الـ 26 من يناير (كانون الثاني) 2022 ليتم درسه وإدراجه على قائمة التراث العالمي وفق الإجراءات المعمول بها لدى مركز التراث العالمي في المنظمة.
وبحسب وزارة السياحة والآثار الفلسطينية يوجد في فلسطين 944 موقعاً أثرياً و10 آلاف معلم، وهناك ما يزيد على 350 نواة لمدينة وقرية تاريخية تضم ما يزيد على 60 ألف مبنى تاريخي.
رؤية طموحة
ووفقاً لوزارة السياحة والآثار الفلسطينية فإن "تل السلطان"، وهي التسمية المعاصرة لأقدم تلال منطقة أريحا، يمثل أول بقعة للاستقرار والسكن في العالم، ويبلغ ارتفاعه حوالى 20 متراً وطوله نحو 300 متر وعرضه 160 متراً، ويقع إلى الشمال من البحر الميت وعلى ارتفاع 240 متراً من مستوى سطح البحر تقريباً، مما يجعله أخفض وأقدم بقعة في العالم، ويمثل حضارة امتدت لـ 10 آلاف عام ضمن 29 مرحلة زمنية، وكانت البلدة القديمة وأسوار القدس أول موقع فلسطيني يتم تسجيله في "يونيسكو" من قبل المملكة الأردنية الهاشمية عام 1982، في حين تمكنت السلطة الفلسطينية من تسجيل كنيسة المهد ومسار الحجاج عام 2012، وفلسطين أرض الزيتون والعنب عام 2014، والمشهد الثقافي لمدرجات جنوب القدس – بتير (بلدة فلسطينية)، والبلدة القديمة في الخليل بما فيها الحرم الإبراهيمي عام 2017، في قائمة التراث
العالمي المهدد بالخطر.
وعن أهمية تسجيل مدينة أريحا القديمة في قائمة التراث العالمي، قال المدير العام للتراث العالمي في وزارة السياحة الفلسطينية أحمد الرجوب إن "هذا سيعزز مكانة فلسطين في العالم وسيحقق الرؤية الطموحة لتطوير الموقع وتسجيله كموقع تراثي عالمي، وسيسهم لا محالة في إبراز التراث الفلسطيني"، مضيفاً "ستعمل الوزارة على ترويجه كموقع تراث عالمي يستحق الزيارة لما يحويه من عناصر وقيم جذب سياحي، إضافة إلى استقطاب مشاريع تطويرية تستهدف الحفاظ عليه، وتأهيل بنيته التحتية السياحية وبناء القدرات في مجال الحفاظ على الموروث الثقافي، مما يحسن الوضع الاقتصادي للمجتمع المحلي والصناعة السياحية في فلسطين".
غضب إسرائيلي
ترقب الفلسطينيين لاجتماع الهيئة التنفيذية في "يونيسكو" في العاصمة السعودية الرياض الشهر الجاري للإعلان رسمياً عن أريحا القديمة (تل السلطان) موقعاً للتراث العالمي في فلسطين، قابلته حال من الغضب الإسرائيلي، وتحدثت أوساط إسرائيلية، وفقاً لما ذكرت صحيفة "يسرائيل هيوم" أن "المنطقة واحدة من المدن ذات الأهمية اليهودية الكبرى، لأنها بحسب التقاليد اليهودية كانت في مركز الصراع الدائر حول عبور بني إسرائيل نهر النيل إلى الأرض بعد التيه في الصحراء".
وقالت الصحيفة المعروفة بتوجهاتها اليمينية إن "هذه ليست المرة الأولى التي يستولي فيها الفلسطينيون على أجزاء من التاريخ اليهودي والإسرائيلي، لكن هذه المرة لا يتعلق الأمر بتعريف المكان كموقع تراث فلسطيني، بل كموقع تراث عالمي".
بدوره وجه عضو الكنيست الإسرائيلي دان إيلوز رسالة إلى الأمينة العامة لـ "يونيسكو" أودري أزولاي دعا فيها إلى ضرورة إلغاء التصويت، وكتب في تغريدة عبر موقع "إكس" إن "السلطة الفلسطينية تعمل بطريقة ممنهجة لمحو جميع الروابط التي تربط الشعب اليهودي بأرض إسرائيل"، مضيفاً أن "إصدار قرار يُسند أريحا إلى فلسطين يشكل تدخلاً سافراً من قبل ’يونيسكو‘ في صراع ليس من دورها التدخل فيه".
وفي تصريحات لصحيفة Jewish News Syndicate قال إيلوز إن "أريحا مدينة لها أهمية توراتية وإنجيلية، وطمس هذه الحقيقة إهانة لملايين اليهود والمسيحيين، وعلى ’يونيسكو‘ الاعتراف بالتاريخ القديم لأرض إسرائيل والحفاظ عليه وتجنب تشويهه لأغراض سياسية، ومثل هذه الأعمال تضر بصدقية المنظمة ورسالتها أكثر مما تضر بدولة إسرائيل".
وبحسب ما ذكرت صحيفة "ميكور ريشون" الإسرائيلية فإن "وزارة الخارجية الإسرائيلية ووزارة البعثات الوطنية ووزارة التراث، إضافة إلى السفراء الإسرائيليين لدى الولايات المتحدة، يدرسون إمكان التحرك ضد الخطوة، إما بالتأثير في الدول المشاركة في لجنة الاختيار التابعة لـ ’يونيسكو‘ أو بالاستناد إلى أن مثل هذا الإعلان يشكل انتهاكاً للاتفاقات التي أبرمتها إسرائيل، حتى تعود الولايات المتحدة للمنظمة".
وتقول الحكومة الإسرائيلية التي أعلنت انسحابها من "يونيسكو" عام 2017، إن المنظمة "تقوم دائماً بإعادة كتابة التاريخ بما يشمل محو العلاقة اليهودية بالقدس والخليل، وإنها تستهدف دائماً الدولة اليهودية بالإدانات".
حماية دولية
وفي المقابل أكدت وزيرة السياحة والآثار الفلسطينية رولا معايعة أن السلطات الإسرائيلية تعمد إلى طمس الهوية الفلسطينية وتزوير تاريخها ومعالمها، مشيرة إلى "أن استمرار تسجيل فلسطين مواقعها الأثرية على قوائم التراث العالمي يأتي للإسهام في توفير الحماية الدولية للإرث الاستثنائي العالمي، وتحميل المجتمع الدولي مسؤوليته في الالتزام بالقوانين التي تتعلق بإنهاء الاحتلال". ولفتت معايعة إلى أن "القائمة التمهيدية الموقتة التي قدمها الفلسطينيون إلى ’يونيسكو‘ تضم 14 موقعاً ثقافياً وطبيعياً، تشمل من بين أمور أخرى مواقع مثل جبل جرزيم وموقع السامريين ومغارات قمران ومخطوطات البحر الميت وموقع سبسطية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأعرب مسؤولون إسرائيليون في وقت سابق عن خشيتهم من أن الفلسطينيين سيقومون بتقديم طلب رسمي لـ "يونيسكو" في ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﻟﺘﻌﺰﻳﺰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﻤﺘﻠﻜﺎﺕ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ لبلادها أو ردها في حال الاستيلاء غير المشروع عليها، للمطالبة بإعادة مخطوطات البحر الميت التاريخية التي عثر عليها شرق الضفة الغربية من قبل راع فلسطيني عام 1947، في سلسلة من كهوف قمران التي تطل على البحر الميت.
وبحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" فإن "تل أبيب ترى في مخطوطات البحر الميت كنزاً وطنياً، إذ يعتقد أنها أقدم نسخ عثر عليها للتوراة باللغة العبرية، وأقدم دليل مكتوب على جذور اليهودية والمسيحية في الأراضي المقدسة".
من جهتها اتهمت الحكومة الفلسطينية إسرائيل بالسعي إلى السيطرة على المواقع الأثرية الفلسطينية في الضفة الغربية وتهويدها، وأشارت مراراً إلى القانون الدولي واتفاق "لاهاي" اللذين يحظران على الدولة المحتلة نقل آثار أو مقتنيات أو اكتشافات أثرية خارج الإقليم المحتل، أو التنقيب والتفتيش عن الآثار في الأراضي المحتلة، كما دعا رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية "يونيسكو" إلى تحمل مسؤولياتها الدولية في حماية المواقع الأثرية والتراثية في فلسطين من محاولات بسط السيطرة والتهويد والأسرلة.
وجاءت دعوته إلى المنظمة بتحمل مسؤوليتها بصورة عاجلة منتصف يوليو (تموز) الماضي، بعد رسالة سابقة من أجل التدخل لحماية بلدة سبسطية شمال الضفة الغربية ومنطقة عين الهوية الأثرية بمحافظة بيت لحم المليئة بعيون المياه والبرك، إذ تسعى تل أبيب، وفقاً لما جاء في رسالة أشتية، إلى "تحويلها لمقصد ديني وسياحي للمستوطنين".
إنقاذ وحماية
بدورها قابلت الحكومة الإسرائيلية اتهامات السلطة الفلسطينية المتكررة بالمصادقة على إقرار موازنة تبلغ 120 مليون شيكل (33 مليون دولار) ضمن مشروع يدعي الحفاظ على الآثار وحمايتها في الضفة الغربية على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة.
وبحسب بيان صادر عن وزارة التراث الإسرائيلية فسيشمل المبلغ استثمار 10 ملايين شيكل (3 ملايين دولار) في الإنفاذ والوقاية من تدمير المواقع الأثرية، و45 مليون شيكل (13 مليون دولار) في إنشاء مواقع سياحة، و17 مليون شيكل (5 ملايين دولار) في عمليات الإنقاذ للمواقع التي تضررت في الماضي، و23 مليون شيكل (6 ملايين دولار) لتطوير المواقع الأثرية، كما سيتم رصد مشاريع بقيمة 20 مليون شيكل (6 ملايين دولار) لتطوير موقع قصور "الحشمونائيم" في السهل الغربي لوادي أريحا قرب الطريق الروماني الذي يربط أريحا بالقدس عبر وادي القلط، بحسب ما جاء في بيان الوزارة.
ووفقاً لصحيفة "إسرائيل هيوم" فإن هناك 3064 موقعاً أثرياً في الضفة منها 2352 موقعاً في المنطقة "ج" الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، ومنها 1150 موقعاً بحاجة إلى إعادة ترميم.
وقالت منظمة "صون الخلود" الإسرائيلية التي تنادي بالسيطرة على المواقع الأثرية في الضفة الغربية عبر بيان، "إذا لم تكن هذه المناطق في أيدي أو تحت سيادة السلطات الإسرائيلية التي تعرف كيف تعتني بها وتصونها ولديها الدافع لفعل ذلك، فإننا في الحقيقة نخشى على هذه الأماكن".
وحول الخطة الإسرائيلية لحماية المواقع الأثرية في الضفة الغربية، أكد وكيل وزارة السياحة والآثار صالح طوافشة أن القرار يعد "مخالفة خطرة وغير مسبوقة لاتفاقات أوسلو عامي 1993 و1995"، مضيفاً "تهدف الموازنات الجديدة إلى الاستحواذ والسيطرة على التراث الفلسطيني وتزييف حقيقته برواية توراتية مزعومة تخدم السياسات والدوافع الأيديولوجية الاستيطانية، لضم مزيد من الأراضي الفلسطينية"، داعياً الجهات والمنظمات الدولية ذات الاختصاص إلى العمل على "وقف الإجراءات التصعيدية الإسرائيلية وإطلاق حملة دبلوماسية وشعبية لدعم الجهود الفلسطينية في الحفاظ على المواقع الأثرية، وتفعيل المخاطبة القانونية التي تستند إلى التشريعات والقوانين الدولية لحماية الآثار".