لا حدود فاصلة بين جسد شرقي وآخر غربي في مسرحية "تابو". العرض السوري - الألماني الذي مثل كلاً من البلدين في المسابقة الرسمية لـ"مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" في دورته الـ30. قدم "تابو" رؤية بصرية وجسدية راقصة من خلال 10 لوحات متتالية جمع فيها مخرجها محمد ديبان بين الرقص الصوفي والمعاصر، في صيغة أقرب إلى صيغة "النمرة" التي ما إن تنتهي حتى يتم وصلها بأخرى عبر الضوء والحركة والإيماء.
واعتمدت بريسا أيوب ونادين مرشي كمصممتين للكريوغرافيا في العرض على حوارية متصاعدة استقت موضوعاتها من رفض الكائن الإنساني المحرمات في شتى وجوهها، ومجابهتها بكل الطرق الممكنة. ولعل هذا ما جعل "تابو" بمثابة صرخة صامتة في وجه العرف والعيب والتقاليد البالية، ليكون الجسد الراقص خير مثال للرد على ذلك المنفى الخفي الذي يحياه إنسان الألفية الثالثة، بين ثورة تقنية عارمة ومحظورات تقيد الجسد وتوثقه بأغلال لا مرئية، بل وتقدمه للمحاكمة العلنية أمام هيئات العائلة والقبيلة والعرف السائد في مجتمعات تقيم الحد على التفكير ووسائل التعبير.
تمكن "تابو" من مجاراة اللحظة بلياقة كل من راقصيه الستة محمد أمين وفادي واكد وكارلا أنطونيا ويبر، جنباً إلى جنب مع أوكسانا تشوبرينيوك ومحمد علي ديب وإينا جوشار. وشكل هؤلاء ما يشبه مشهدية لافتة في مساحة فارغة إلا من لازمة الإضاءة الجانبية التي عمل مخرج العرض على تكثيفها وإشباعها من اليمين واليسار على الخشبة في مسرح السلام وسط العاصمة المصرية. ومن هنا أضفى ذلك جماليات على العرض (إنتاج سوري - ألماني مشترك). وجاء ذلك على حساب توفير بنية درامية واضحة، ووحدة أسلوبية افتقد إليها "تابو" في كثير من فقراته ولوحاته المتباعدة على صعيد الشكل الفني.
بدا ذلك في اعتماد العرض على أكثر من مزاج موسيقي، فمن الاتكاء على آلة العود والدفوف الشرقية في لوحة "الملك لك"، إلى الاتكاء على الموسيقى الإلكترونية والإيقاعية وآلة البيانو في لوحات "الصرخة" و"الخط الأحمر" وسواها من اللوحات، التي لم تشكل في النهاية وحدة الموضوع في العمل المسرحي، بل ظلت مشتتة بين العديد من أنواع الرقص الحديث والمعاصر، في حين أوغلت الأزياء في تعميق هذا التباين في العرض، فمن التنانير البيضاء الخاصة برقصات المولوية وحلقات الذكر الصوفية إلى الشورتات والقمصان السوداء ذات الموديلات المعاصرة.
على مستوى آخر تكثفت جهود كل من مصممتي العرض ومخرجه على إيجاد شراكة مع الجمهور، لا فرجة وحسب، من خلال الأجواء النفسية التي نجح المؤدون في إيصالها للمتلقي عبر حركات وإيماءات، حاولت تجسيد المعاناة الداخلية للكائن الإنساني في وسط كل ما هو فيه معاد له، لكن هذا الأداء الجماعي كان متقطعاً وأحياناً كثيرة كان لا يسمح له أن يصل إلى ذروته، ولا سيما في التدخلات الإخراجية التي لم توظف طاقة الراقص وعالمه الداخلي لحساب بينة العرض ككل، بل بقيت كل جهود الراقصين شبه مهدورة لصالح المونتاج القسري الذي عزل بين لوحة وأخرى.
هكذا اعتمد محمد ديبان على السولو (الرقص الإفرادي) والرقص الثنائي في تحقيق ما يشبه نقلات درامية بين فقرات العرض، ولكن من غير أن ينجح في إبراز العلاقة مع الراقص الشريك. كأن يوحي "تابو" أن الجميع في العرض يرقصون ولكن كل على حدة، ومن دون أن نرى توزيع الجسد على الكتل الراقصة. هذه الشراكة المفقودة قدمت الراقصين في مقاطع كثيرة من العرض كجوقة حركية، وأحياناً اكتفى بتقديم الراقصين كمشاجب للأزياء الصوفية الفضفاضة. وهذا ما يوضح أن كل لوحة من لوحات العرض تم إنجازها بمفردها، ثم جرى تجميع هذه اللوحات تحت عنوان خطر وبراق مثل "تابو".
هذه النظرة للرقص على أنه وصيفة من وصيفات الدراما لا يمكن أن تنجز عرضاً لمسرح جسدي معاصر، بل تبقى في حدود الجمع والالتقاط لأمزجة حركية من هنا وهناك. فالمسرح الجسدي اليوم قادر على إبداع صيغة درامية يكون الجسد فيها حكواتياً ماهراً من غير الحاجة إلى الحوار كما الحال في المسرح الدرامي، لكن هذا لم يوفق به صناع "تابو" على رغم الجماليات التي وفرتها أجساد الراقصين وسباحتهم في الضوء والفراغ، إذ بدا واضحاً أن سينوغرافيا العرض أوضح من السياق المقترح لمعالجة فكرة المحرم فنياً، بل أسهمت اللمحة الصوفية للعرض في تكريس التصالح مع الغيب بدلاً من الاشتباك معه.
الجسد الدرامي
كل هذا ناتج من غياب الدراماتورج القادر على تحقيق الانسجام بين عناصر العرض الجمالية ومضمونها، فمن غير ذلك تبقى المراوحة والتكرار ونظام "النمرة" الراقصة هي المسيطرة على "تابو" أو على أية تجربة في فنون الأداء المعاصرة. فلا تأخذ بالحسبان الجسد كمادة درامية فائقة الرمزية والدلالة، وليس كعشوائية حركية تمزج بين أنواع الرقص والموسيقى والأزياء في صيغة استشراقية، مما يشكل عائقاً بين الراقص وشريكه أو شريكته، والجمهور الذي يطرب غالباً لعروض من هذا النوع من دون أن يحقق معايشة فعلية للبعد الدرامي للرقص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق متصل لم يتخل العرض السوري - الألماني عن تلك الانقباضات الخاطفة للجسد، ومحاولة تجسيد المواجهة عبر حركات الصدر والأيدي والجذع، إضافة إلى تحرير التصميم الكريوغرافي لإمكانات الراقص في اختبار التمثيل الصامت، ولا سيما استعارة لوحة الصرخة للفنان النرويجي إدفار مونخ (1863-1944)، والتي قام بأدائها معظم الراقصين كتعبير عن احتجاج داخلي عميق على جملة المحظورات التي تحيل الجسد إلى إناء للشهوات والعادات اليومية الاعتيادية، بل وتجعله غرضاً من أغراض اليومي ورتابته وتأطيره في حدود وظائفه البيولوجية، وحاجاته إلى التكاثر والنوم والطعام والعمل. وهذا ما توضح في معالم وجوه الراقصين التي تخلت هي الأخرى عن الحياد، وبدا عليها التأثر من تجسيد مشاعر كثيفة ومتنوعة على المسرح.
في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن الراقصات الألمانيات الثلاث في العرض لم يرقصن ولا مرة مع زملائهم الراقصين السوريين الثلاثة، بل رقصن إلى جانبهم، فلا شراكة في الرقصات بينهم، بل شراكة في الوجود على خشبة المسرح، ومن دون أي تماس يذكر أو محاولة لتوزيع الكتل الراقصة وتقاسمها في تصميم لوحات العرض. وهذا مرده إلى ضعف في التصميم، أو عدم قدرة على الاعتراف بعالمية الجسد وعدم تبعيته لشرق أو غرب.