قد تبدو أفلام ثمانينيات القرن الماضي أكثر سذاجةً وسخفاً في نظر الجمهور العريض حالياً بعد مرور كل هذا الوقت على عروضها الأولى. لكنّ الاحساس بأن ثمة ابتذال في العمل القديم الذي يخضع لمراجعة راهنة، لا أثر له في فيلم "الفجر الأحمر" الملحميّ المجبول بالدّم والتّراب الذي أخرجه ميليوس عام 1984.
ويشعر المرء أن مشاهد تبادل إطلاق النار المطولة التي صمّمها ميليوس ويظهر فيها مراهقون مسلّحون بشعرٍ طويل وهم يتصدون للهجمات السّوفياتية والكوبية والنيكاراغوية على الولايات المتحدة، لا تزال تنطبق على عصرنا الحالي إلى حدٍّ مخيف. وتكاد تتجلّى كحلم يقظة مليء بالحركة منسوج من أجزاء عشوائيّة من الخطاب الذي ألقاه دونالد ترمب أثناء مراسم تنصيبه. ترقّبوا "المذبحة الأميركية" من شركة "ذا موشين بيكتشر".
في ذكرى مرور 35 عاماً على إطلاقه، يُخيّم فيلم "الفجر الأحمر" بظلاله الوارفة على أبرز أفلام الأكشن في عهد الرئيس ريغن. وبسبب حصيلته من مشاهد سقوط القتلى، كثيراً ما يُشار إليه على أنّه الاشد عنفاً بين أفلام هوليوود. فوفقاً لـ"الائتلاف الوطني للعنف التلفزيوني"، يتضمّن "الفجر الأحمر "134 فعلاً عنيفاً في السّاعة الواحدة أو 2.23 من هذه الافعال في الدّقيقة". وفي الآونة الأخيرة، أُفيد بأن الفيلم نال أخيراً أرفع تقدير حين اشارت إليه سلسلة "أشياء خارقة" التي في إطار حبكة أحداثها الثانوية المتعلّقة بالقاعدة السّوفياتية السّرية.
علاوة على ذلك، فإن الفيلم المليء بمشاهد إطلاق نار مباشر لا أهمية له في مرحلة ما بعد الحداثة بالاعيبها وحركاتها الايحائية المختلفة. فعبارات السطر الواحد الساخرة، التي تميز افلام أرنولد شوارزنغر، غائبة عن "الفجر الأحمر" تماماً. لا أحد يُشارك في المزاح لأنّ المزاح لا وجود له أصلاً؛ الفيلم مجرّد معارك إطلاق نار غير ساخرة تأتي الواحدة تلو الأخرى ويُحاول من خلالها أبطال ميليوس "المستذئبون"، وقد سُموّا كذلك تيّمناً بتميمة مدرستهم الثانوية، القضاء على الشّيوعيين.
مع تصاعد وتيرة موسيقى بازل بوليدوريس وقوة ايقاعها، نكتشف أنّ أوروبا وجنوب أميركا قد وقعتا في قبضة الشيوعية. وهذا يترك الولايات المتحدة في الخندق الأخير في مواجهة القمع اليساري: منارة تُشع بالأمل فيما أجانب يتحدثون بلكنات مضحكة ينهمكون في إرساء نظامٍ عالميّ جديد.
هذه معالجة بالأبيض والاسود بالقدر الذي يستطيع فيلم الأكشن والإثارة أن يكون هكذا. من وجهة نظرٍ سياسية، سيجد كثيرون أنّ رؤية الفيلم السطحية إشكالية. لكنّه كان خبطة فنية قوية إلى درجة لا يُمكن نكرانها، وكانت طبيعته هذه وراء انطلاقته المبكرة والسريعة وأثره الباقي. وهو بحق واحد من أكثر الأفلام قسوة على الإطلاق.
جدير بالذّكر أيضاً أنّ الفيلم يضمّ باقة من ألمع النجوم، لكأنّ ميليوس كان يُحاول بطريقةٍ غريبة استدراجنا إلى عالمٍ موازٍ لعروض "مجموعة برات باك". كان الفيلم أول عمل كبير يشارك فيه باتريك سوايزي وشارلي شين وجينيفر غراي، التي لعبت في ما بعد دور البطولة مع باتريك سوايزي في فيلم "رقص قذر" (Dirty Dancing) وليا تومبسون من فيلم "العودة إلى المستقبل" (Back to the Future). وإلى جانب هؤلاء، كان ظهور لكلّ من كريستوفر توماس هاول من فيلم "إي.تي"(ET) وهاري دين ستانتون المعروف بأدائه لدور رجل سياسة مسنّ وصاحب شخصية ساخطة وغريبة الأطوار.
والمدهش أنّ شخصيات الأدوار الرئيسة في الفيلم تؤدّيها وجوه جديدة. وباستثناء سوايزي صاحب تسريحة الموليت، كان كلّ المستذئبون يبدون وكأنّهم في الثّانية عشر من العمر تقريباً. كانت فجاجتهم وحيويتهم إضافة مهمة لمواجهاتهم العنيفة مع السّوفيات والتي هي عبارة عن مواجهات أطفال ضدّ رجال، يخرج منها الأطفال ظافرين.
وإذ شكّل "الفجر الأحمر" نقطة إنطلاق لممثّليه إلى النجومية، فهو كان وصمة عار الأكبر في مسيرة ميليوس الفنية. وبرأي هذا الأخير، فإن أفكاره اليمينية أدت إلى إدراجه على القائمة السّوداء للعاملين في مجال السّينما. وبات مصيره كمصير المشتبه بإنتمائهم إلى الحزب الشيوعي ذاته في ظل موجة الخوف من المكارثية في خمسينيات القرن الماضي.
وفي إطار فيلم وثائقي لاحقٍ عن صناعة الفيلم، قال ميليوس "كنتُ أعلم أنّ هوليوود ستُدينني بسببه وأن لا مفرّ من أن يعتبرني الجميع من لحظة عرضه فصاعداً داعية حرب يميني".
ولنكن عادلين، ميليوس هو الذي رسم صورة دّاعية الحرب لنفسه. فأثناء المقابلات التلفزيونية، كان يضع مسدساً آلياً من عيار45 على مكتبه؛ تلك كانت طريقته ليقول للصحافي أنه ليس يسارياً آخر من تنسيل تاون. وعند تفشّي خبر تقاضيه أجراً بقيمة 1.2 مليون دولار عن إخراج الفيلم فضلاً عن السلاح الذي يختاره من تلك المستخدمة في التصوير، زاد الطين بلة وتأكدت فرضية أن ميليوس كبير الشغوفين بالاسلحة إلى حد الجنون، على طريقة حالمي اللالالاند.
وهذا ليس كلّ شيء، فقد اتسم المخرج بقدر من التمرد، والدليل على ذلك إنكبابه على فيلم "الفجر الأحمر" على خلفيّة إخراجه "كونان البربري" عام 1982. فعلى أحد المستويات، كان فيلم كونان عبارة عن مطاردة خيالية تحتاج إلى عضلات. شوارزنغر بشعره القصير الشهير، يهزم جيمس إيرل جونز بوصلات شعره المريعة. لكنّ ميليوس يستهل الفيلم بمقولة لفريدريك نيتشه جاء فيها "ما لا يقتلنا يزيدنا قوة". وخلف العضلات القوية وسفك الدماء، ينطوي الفليم على تأمل جدي حول السّلطة السياسية والشرعية. ويُوصينا كونان، في رسالته الأخيرة، بالحذر من النّصابين الماكرين الذين يغروننا بوعودهم الفارغة بمنحنا كل ما نريد، لكن جل ما يهمهم على الدوام هو مصالحهم ومطامعهم الخاصة (الواضح أنّ هذا الأمر لا أهميّة له في أيّامنا هذه).
وميليوس، هو الذي كتب فيلم "القيامة الآن" (Apocalypse Now) لفرانسيس فورد كابولا، وهو احتفال كسير بالكاد كان احتفاءً طنّاناً وقصير الأمد بالهيمنة الأميركية. كما دُعي أيضاً لكتابة سيناريو فيلم "الفك المفترس" (Jaws) لستيفن سبيلبرغ. صحيح أنه اعترض على المهمة في البداية، لكنّه ما لبث أن وافق على المشاركة في إعداد المشهد المعقّد الذي يسرد فيه روبرت تشو، صاحب دور كابتن فلينت، تفاصيل هجوم القرش على طاقم "يو اس اس انديانابوليس" المنكوب في نهاية الحرب العالمية الثانية. ويُعدّ مشهد مناجاة النّفس الشهير لتشو أحد أكثر المشاهد تأثيراً في تاريخ السينما. ويكمن سحره في شعر ميليوس الصّريح وأداء الممثل الجذاب والمقنع على السواء. يقول ذلك المقطع "لقد وقع حوالى ألف و100 رجل في الماء.. 316 منهم خرجوا أحياء... أما الباقون، فتحوّلوا إلى لقمة سائغة للقروش". بمجرد قراءة هذه السطور القليلة تسري القشعريرة في جسد القارئ.
كان العنوان الذي أُطلق على فيلم "الفجر الأحمر"، بادئ الأمر هو "عشر جنود". وتكفل بوضع السناريو كنص متكامل الكاتب الناشئ كيفن رينولدز فيما كان لايزال طالباً في الكلية. وبعد هذه التجربة، مضى رينولدز لإخراج فيلمي "روبن هو:" أمير اللصوص" و"عالم البحار". لكن كان "عشر جنود" بالنّسبة إليه، عبارة عن خيبة أمل كبيرة، ولا سيّما ان ميليوس أعاد صياغة السيناريو عن بكرة أبيه.
عن هذه التجربة، قال ميليوس لمجلة "كريايتيف سكرينرايتينغ" (Creative Screenwriting) "استدعيتُ الكاتب وقلتُ له، لن يكون قبول الأمر سهلاً عليك لأنك مغرور. لكنني سأتولى العمل بنفسي وسآخذ الفيلم على عاتقي لأجعله فيلمي. أما أنت، فستجلس وتشاهد ما سيحدث، وقد لا يُعجبك ذلك.. نصيحتي لك أن تأخذ المال وتُنفقه على فتاة. استمتع بالحب واكتب سيناريو آخر. لأنّ ما ستُشاهده لن يُعجبك البتة"".
وكان رينولدز قد صمّم الفيلم ليكون فيلماً نفسيّاً مثيراً أكثر منه فيلم حركة وغضب عارم. واستوحى فكرته من رواية "أمير الذباب" لوليام غولدنغ التي قُدمت فيلما سينمائياً، ونفّذها على طريقة كوبريك في فيلم "دروب المجد". يتصدى الطلاب الجامعيون للمهاجمين وقد فقدوا الثقة ببعضهم بعضاً، ليكتشفوا بعدها أنّ جنون الاضطهاد في كلٍ منهم هو ألدّ أعدائهم، الذي يكلفهم ثمناً باهظاً.
لكنّ ميليوس ضرب بجهود رينولدز عرض الحائط وأعاد حياكة القصة على طريقته، محوّلاً إياها إلى معركة مسلّحة حماسية قومية، إذ ترفع فيها رايات أميركا ذات النجوم والخطوط، وتُعبّر عن انعدام ثقة المخرج بالحكومة بغض النظر عمّا إذا كان موقع السلطة الفعلية هو موسكو أو واشنطن العاصمة. في نهاية المطاف، يُبيّن الفيلم أنّ الشّخص الوحيد الذي يمكنك الاعتماد عليه حقاً هو الذي يمكث إلى جانبك في الخنادق مدججاً بالسلاح على اهبة الاستعداد للقتال.
يقول ميليوس"كان السيناريو الذي كتبته يخصّ المقاومة..وكان محكوماً بعامل الزمن أيضاً. لقد جعلناه شنيعاً جداً، لا بل أكثر شناعةً من الرؤية الخاصة به. ولغاية اليوم، لا يزال كذلك. وعندما يسألني الناس "ما هي قصة الفيلم؟" أجيبهم بأن الفيلم ليس عن الروس بل عن الحكومة الفيدرالية".
إذا كان المفهوم طموحاً، فالتنفيذ كان صارماً وشجاعاً على مستوى الشارع. يبدأ فيلم "الفجر الأحمر" مع هبوط القوات السوفياتية بالمظلات فوق حرم مدرسة ثانوية في مدينة كالوميت، كولورادو، وإطلاقهم نيران مكثّفة على المعلمين والتلاميذ. وسط هذه المعمعة، تهرب مجموعة من المراهقين، بقيادة جيد إيكيرت الذي يؤدي دوره سوايزي، لتذوّق طعم الحريّة في التلال.
ويعودون إلى بلدتهم بحثاً عن إمدادات بعد فرارهم بأشهر، فيرون أفراد عائلاتهم وقد تحوّلوا إلى عبيد افتراضيين للنظام السوفياتي الجديد. يعد ذلك، يُقررون التحرك ومهاجمة العدو، إذ هذا ما يجدر بكل أميركي أصيل أن يفعله (برأي ميليوس).
مع تتابع سير الأحداث، يتحوّل "الفجر الأحمر" إلى سلسلة معارك نارية عنيفة. ويقود سوايزي الأبطال الذين يتخذون من رزانتهم دروعاً واقية لهم. وتعود هيبة سوايزي في جزء منها إلى الحزن الذي كان يعيشه جرّاء موت والده قبل أسابيع قليلة من بداية تصوير الفيلم. وبصفته الأكبر سناً بين أعضاء جيش "المراهقين"، كان يبلغ من العمر 31 عاماً، كلّفه ميليوس لعب دور الوسيط بينه وبين الممثلين.
كان ميليوس يُعطي الأوامر لـ"الملازم" التّابع له أي سوايزي، مشدداً على وجوب الحرص على التزام زملائه الممثلين بالنّظام. عن ذلك، يقول سوايزي "حمّلني مسؤولية كبيرة وهذا ما أشعرني بتوترٍ شديد للغاية. وأعتقد أنّ جينيفر غراي تأبى العمل معي مذاك".
وكما في فيلمي "كونان" و"القيامة الآن"، أجواء الهلاك المتناهية لن تعجب الكثيرين لأول وهلة، لكنّ العزيمة هي الدّرع الواقي للعمل. المفاجئ أنّ "الفجر الأحمر" لا يزال صامداً إلى اليوم، ليس من ناحية مشاهد الحركة التي يضمها وحسب، بل من حيث رسمه صورة لأميركا كدولة تعشعش فيها الذهنيّة المعنية بالحدود تحت السّطح مباشرةً.
أثار الفليم كثير من الجدال نظراً للكم الهائل من الجثث التي يعرضها (إذ كان أول فيلم ينال درجة تقييم PG-13 في الولايات المتحدة). وكرهه النقاد أيّما كره. في هذا الصدد، كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" موجهة "تحذيراً لكلّ الجبناء النّاحبين الذين يعتقدون أنّ جون ميليوس.. قد وصل إلى ذروة الهيمنة الذكورية على صناعة الأفلام: "الفجر الأحمر" للسيد ميليوس أكثر صخباً من أي عملٍ آخر له.. وها هو اليوم في أسوأ حالاته، يقدّم سيناريو حماسياً بشكلٍ صارخ عن الحرب العالمية الثانية".
صحيح أنه كان من الممكن لـ"الفجر الأحمر" أن يكون أكثر إثارةً للجدل. فميليوس صوّر مشهداً تطلب فيه الطّالبة الثانوية تومبسون، 22 عاماً، من العقيد أندي تانر (باورز بوث، 35 عاماً) أن يمارس الحب معها. لكنّ المخرج سرعان ما عاد عنه وعدّله بحذرٍ شديد. في عصر #أنا أيضاً، من السّهل أن نتخيّل ميليوس وهو يخرق كلّ القواعد والحدود بواسطة "الفجر الأحمر".
كان من المتوقع للفيلم أن يُشعل دور السينما، لكنّه لم يفعل. وفي أسبوعه الافتتاحي، حقّق إيرادات بقيمة 8 ملايين دولار فقط، ليصل في الأسبوع الأخير من عرضه إلى 38 مليون دولار في شباك التذاكر، وهذا أمر مخيّب للآمال نظراً إلى ميزانيته الضخمة التي وصلت إلى 17 مليون دولار. ومع هذا كلّه، لم ولن يتوانى ميليوس يوماً عن الشعور بتحقيقه الهدف المنشود من الفيلم، ولاسيّما أنه أصبح تعبيراً صارخاً عن الكابوس الأميركي بشأن الاجتياح السوفياتي، حتى أنّ الموسم الثالث والأخير من "أشياء خارقة" استشهد به، معاوداً مشهد بناء الروس قاعدة عسكرية تحت هاوكينز في إنديانا.
وبعد كلّ هذه الأعوام، لا شك أنّ المخرج الذي يبلغ 75 عاماً اليوم، فخور بأنّ الناس عندما يفكّرون باجتياح الشيوعيين للولايات المتحدة بلهجاتهم الغريبة، يفكّرون بفيلم "الفجر الأحمر"، أو بالأحرى بنسخته من "الفجر الأحمر" لا نسخة العام 2012 التي كانت من بطولة كريس هيمسورث وتصدّت فيها كوريا الشمالية للجيش الأحمر.
© The Independent