ملخص
قائمة التفسيرات النفسية كثيرة وأغلبها يضع صاحب الهاتف المحمول في خانة المتهم أو المعتل نفسياً أو الأناني.
لا يضاهي أو ينافس أو يجذب الأنظار بعيداً من المأساة إلا ما هو أكثر مأسوية. فبينما تنهار مبان، وتتهدم مساجد، وتتهشم كنائس، وتتساوى حياة البشر بالأرض لتكون والركام سواء، ينغمس البعض في منافسة شرسة لالتقاط المشهد الأكثر بؤساً، والصورة الأعتى ألماً، والزاوية الأعمق كآبة. وكلما تمكنت هذه الشاشات الصغيرة من التقاط قدر أوفر من الكرب والكمد زادت مكانة صاحب الشاشة، وكلما نجح في الوصول إلى لحظة الانهيار أو توقيت الخراب أو وقت حدوث الموت، انتاب صاحب الهاتف المحمول شعوراً بالرضا، لا للموت، بل للسبق والإنجاز.
شاشات في العتمة
زلزال المغرب المدمر هو الأحدث، لكن ليس الأوحد. هذه الشاشات التي تضيء ظلام الخراب وعتمة الموت بينما يحدثان باتت سمة كل كارثة، والحاضر الأول في كل مصيبة. مصائب الكوكب لا تنتهي. كوارث من صنع الإنسان، حيث حوادث طرق وحرائق وجرائم وحروب وصراعات يجري توثيقها، وفي أقوال أخرى نقلها أو بثها، من قبل من تصادف وجوده في المكان، وكوارث طبيعية من براكين وأعاصير وفيضانات وزلازل يهرع الناجون والناجيات إلى مواقع حدوثها لتوثيق تفاصيلها التي جرت، وحبذا اللحاق بتلك التي توشك على الحدوث.
آلاف الهواتف المحمولة التي أنارت ليل مناطق عدة في المغرب لم يجر رفعها بغرض إنقاذ المنكوبين، أو تحديد أماكن وجود الأحياء تحت الركام، أو الارتكان إلى تقنية "بلو توث" لطمأنة من لا يزالون على قيد الحياة. آلاف الهواتف المحمولة وقف أصحابها ليوثقوا انهيار المبنى، أو اهتزاز المئذنة، أو صراخ الأهالي وهم يزيلون الأتربة بحثاً عن ابن هنا أو أم هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دراسات عديدة تم إنجازها حول قدرة الهواتف المحمولة التي غالباً ما يحملها ضحايا الكوارث وقت وقوعها، إحدى هذه الدراسات وعنوانها "استخدام الهواتف المحمولة لتحديد مواقع الضحايا المحاصرين في الكوارث" (منشورة على موقع المركز الوطني الأميركي لمعلومات التكنولوجيا الحيوية) (2022) أشارت إلى قدرة الهواتف على أن تكون أدوات لإنقاذ المحاصرين، سواء من قبل المواطنين العاديين أو عمال الإنقاذ، وتعرض الورقة سبل استخدام هواتف المحاصرين الذين قد يعانون ضعفاً شديداً تحت الأنقاض يمنعهم من استخدام المحمول، لكن عن طريق خدمة الرسائل سابقة التجهيز بغرض الاستغاثة.
استخدام مفرط
لكن القطاع الأغلب من الاستخدام المفرط والمبالغ فيه من قبل ملايين المواطنين العاديين للهواتف المحمولة في أحوال الكوارث والأزمات لا يكون بغرض إغاثة المنكوبين والمحاصرين، بقدر ما تكون بدافع شهوة الأسبقية والرغبة في التميز عبر التحميل على منصات الـ"سوشيال ميديا" تحت شعار "كنت في موقع الحدث".
تفسير آخر يرتكن إلى منظومة الصحافي المواطن، وهي المنظومة المرتبطة بتطور الإنترنت والتقنيات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي وتحولها إلى وحش الإعلام الشعبي الكاسر، ومنذ بزغ عصر الصحافي المواطن، وعديد من المؤسسات والجهات تعتبر هذا النوع من الصحافة الشعبية قمة التمكين والديمقراطية كما ينبغي أن تكون.
صحافي بالصدفة
أسهمت صحافة المواطن في تغطية وتوثيق عديد من الأحداث والحوادث التي لم تحظ بتغطيات إعلامية مهنية، لا سيما في حالات الحروب والصراعات أو الحوادث التي يتصادف وقوعها أثناء مرور مواطن يحمل هاتفه المحمول المزود بكاميرا، فيصبح المصدر الوحيد للمعلومات المتعلقة بالحدث متفوقاً على مؤسسات إعلامية لها رصيد من العقود الطويلة في نقل الأخبار، حتى بات البعض يلقب هؤلاء المواطنين بـ"صحافي بالصدفة".
وصار كل مواطن يوجد في شارع أو مبنى أو موقع مشروع "صحافي بالصدفة". وصارت الأيدي التي تمتد دون تفكير إلى الهاتف المحمول لتصوير حادثة مروعة على الطريق، أو تلاسن لفظي بين ركاب في باص عام، أو احتمال تنفيذ أحدهم تهديده بالانتحار أمراً عادياً.
في السويد، في أعقاب ظاهرة مسارعة البعض لتصوير حوادث مؤسفة على الطريق أو حرائق أو غيرها، تنبه البعض لـ"العوار الأخلاقي" في وقوف أحدهم بهاتف محمول ليوثق معاناة آخرين أو لفظ أحدهم أنفاسه الأخيرة أو بكاء وعويل المكلومين أو المصابين.
مارة المحمول
باحثون وصحافيون سويديون أطلقوا على الظاهرة "مارة المحمول". وصفوهم بأنهم أولئك المارة الذين لا يفكرون مرتين قبل أن يخرجوا هواتفهم المحمولة من جيوبهم أو حقائبهم ليلتقطوا صوراً أو فيديوهات لتوثيق مأساة أحدهم بدلاً من أن يقدموا لهم المساعدة.
ولفت هؤلاء إلى معضلة أخرى يتسبب فيها "مارة المحمول" وهي تعطيل عمل أفراد الإسعاف والشرطة والمطافئ وغيرهم، هو ما قد يعطل حصول الضحايا على المساعدة أو إنقاذهم. واتفقت الغالبية على أن مثل هذا السلوك مؤسف وغير مقبول أخلاقياً مهما كان منتشراً على نطاق واسع بين المواطنين وحتى بين السياح.
"زلزال المغرب في بث مباشر غير مقصود" سمة الساعات القليلة الماضية. مئات الفيديوهات المنتشرة على كل من المنصات الإعلامية التقليدية، وكذلك على منصات الـ"سوشيال ميديا" مصدرها الهواتف المحمولة للمارة والسكان والسياح. مشاهد انهيار المباني وتصدع العمارات واهتزاز المآذن وهروب السكان والنبش بالأيدي بحثاً عن الأبناء والآباء مرصعة بمئات الشاشات حيث يصور المارة ما يجري.
لكن نوعية أخرى من البث المباشر غير المقصود حدث مع وقائع الزلزال، إذ تصادف وجود البعض "على أثير الإنترنت المباشر" لحظة وقوع الزلزال فتم توثيق لحظات الرعب دون قصد، أحد هؤلاء هو شاب مغربي كان منخرطاً في لعبة فيديو مصورة بالبث المباشرة، وحين بدأ الزلزال أعتقد أن المقعد الذي يجلس عليه يهتز، لكن اكتشف أن الاهتزاز هو زلزال عنيف نجم عنه توثيق لحظات هلعه على هواء الإنترنت المباشر.
سيلفي المصيبة
لكن التقاط لحظة وقوع زلزال أو أي كارثة أخرى بمحض الصدفة بحكم وجود الشخص على هواء الإنترنت مباشرة لأسباب أخرى يختلف كثيراً عن التقاط اللحظة مع سبق الإصرار، الإصرار على أن يتوقف أحدهم لتصوير قتلى أو مصابين في حادثة على الطريق، أو التوجه إلى مكان وقوع تفجير إرهابي أو انهيار عمارة سكنية أو ما شابه لتصوير الضحايا وآثار الدمار أمر يعتبره البعض طبيعياً في عصر الـ"سوشيال ميديا" في حين يراه آخرون دلالة على خلل عقلي، وهناك من لا يجد حرجاً في التقاط "سيلفي" لنفسه على خلفية المصيبة، وهو ما يسبغ عليه البعض صفة "الإباحية".
أستاذة الاقتصاد الرقمي والثقافة في جامعة كوين ماري في لندن ياسمين إبراهيم تصف في دراسة عنوانها "تمثيل النفس والحدث الكارثي: تصوير الذات والأخلاق والخلود" (2016) من يقف ليلتقط لنفسه صورة على خلفية كارثة بـ"إباحية الكوارث". وتشير إلى أن تصوير الشخص لنفسه على خلفية كارثة يطرح أسئلة حول الحدود الأخلاقية لمثل هذه التصرفات في عصر السوشيال ميديا. كما تطرح تحذيراً مما تسميه "التلصص بغرض إعلاء الذات في فضاء ما بعد الكارثة".
تفاصيل ما بعد الكارثة، وكذلك أثناء الكارثة وتوثيقها والتجول من أجل البحث عن مزيد منها من قبل مواطنين عاديين في زلزال المغرب المروع تسلط الضوء على القوة النافذة والسطوة الطاغية والقواعد الملتبسة في الاستخدام الذي بات "فطرياً" للهاتف في الكوارث، هذا العدد المهول من أجهزة المحمول المرفوعة أمام كل مبنى انهار أو ينهار، ومئذنة تتمايل، وأهال يصرخون في كل مكان تحول هو نفسه لتفصيلة من تفاصيل الكارثة.
تعمق في الشاشات
المشاهدون والمتابعون حول العالم لا يتعمقون فقط في صور الدمار والموت، بل في الشاشات الصغيرة المرفوعة التي تحيط بكل منها، المتابعون للكارثة صاروا كذلك مهتمين برافعي شاشات الكارثة ويطرحون أسئلة كثيرة، لماذا يقفون في موقع الكارثة؟ هل لديهم أهل يتوجب عليهم البحث عنهم؟ هل يشعرون بأنهم في مأمن بينما الآخرون في خطر؟ لماذا يمسكون هواتفهم ويصورون المآسي بهذا القدر اللافت من الثبات الانفعالي؟ المشهد بالفعل غريب.
غرابة شاشات الكارثة ربما تعكس ميلاً بشرياً قوامه حب استطلاع مفرط تجاه الأخطار والفواجع، يسميه البعض "الفضول المرضي" وأحياناً "الفضول المميت".
الفضول المميت
المقالة المنشورة في دورية "ذو سوادل" الهندية تحت عنوان "الفضول المميت" (2020) تعرف هذا النوع بأنه التيار الخفي الداعم لصناعات تدر أرباحاً مثل سياحة الكوارث وتغطية أخبار الجرائم وإنتاج أفلام الرعب، وأنه الغريزة التي تجعل البعض يبحث عن مقاطع جنسية عنيفة وصادمة أو مشاهدة البثور الملوثة بالدماء والقيح ومقاطع من جرائم وحشية سواء حقيقية أو جرت محاكاتها.
ما الذي يدفع البعض إلى فقع دمل مليء بالصديد ومشاهدة ما في داخله، أو رفع غطاء سلة المهملات وشم المحتوى على رغم معرفة مسبقة بأن المحتوى مقرف؟ يرجح خبراء أن ذلك ربما يكون بهدف توثيق التجربة واستعادتها في وقت لاحق، إذ أحياناً تكون المعرفة المنطقية وحدها غير كافية وتكون في حاجة إلى توثيق لا يخلو من حس مغامرة وإثارة محببة إلى النفس.
تفسير آخر يشير إلى أن ما يجري أمام البعض من كارثة كبرى أو حادثة مروعة هو ترجمة فعلية للمخاوف والكوابيس التي تسيطر على جانب من البشر، لذلك وقوعها أمام أعينهم، ولكن لآخرين تجذبهم لمعرفة مزيد عنها وهو ما قد يهدئ من روع التوتر والقلق النابعين من الخوف من المجهول، وذلك بعد أن يتحول المجهول إلى أمر يقع أمام أعين الأفراد، وهنا قد يلتقط هؤلاء الأفراد هواتفهم المحمولة ليوثقوا مجريات الكوابيس وكأنهم يوثقونها لمراجعتها في وقت لاحق.
أخلاقية التصوير
آلاف الفيديوهات لزلزال المغرب المروع الملتقطة بهواتف المارة ستظل تطرح أسئلة عديدة حول مدى أخلاقية تصوير وتوثيق مصائب الآخرين، قائمة التفسيرات النفسية كثيرة وأغلبها يضع صاحب الهاتف المحمول في خانة المتهم أو المعتل نفسياً أو الأناني.
بين تطفل تصوير مآسي الآخرين، والإصرار على التسمر في المكان لاكتساب معرفة في وقت يتسم بالحرج والحساسية وحيث الثانية تصنع الفرق للوصول إلى الضحايا، والتعامل مع الضحايا ومصائبهم وخسائرهم واعتبارهم مادة للتربح أو فرصة للشعبية والانتشار والمتابعة وتحقيق شروط منصات الـ"سوشيال ميديا" لتحقيق الدخل أو عمل الترند، تتراوح تفسيرات رفع الهواتف المحمولة في وقت المصائب والكوارث.
أما الهواتف المحمولة التي تنقل تفاصيل الكارثة لمن يهمه الأمر من مسؤولين للتدخل أو أهال لمساعدة ذويهم أو في حالات التعتيم الرسمي على ما يجري، فستظل منصة إنقاذ في عز الأزمات.