ملخص
من بغداد الحريات النسوية في الخمسينيات إلى واقع العنف والاضطراب
لا تزال محاولات السينما العراقية في تجسيد حياة البلاد الممتحنة، مستمرة على رغم الصعوبات القائمة التي تحيط بالصناعة. فيلم "آخر حلم" للمخرج ملاك عبد علي، أُنموذج جديد على محاولات هذا الفن في ديمومة الحضور إزاء بيئة عمل معقدة وواقع سياسيّ واجتماعي غير مستقر. فيلم عبد علي الجديد هو السادس بين أفلامه القصيرة، من إنتاج دائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة العراقية. كتب السيناريو حسن شغيدل، وجسّد بطولته الفنان أياد الطائي والفنانة فاطمة أبو هارون التي عرفت بدورها في مسلسل "خان الذهب" الذي عرض في موسم رمضان الماضي وحقق حضوراً جماهيرياً طيباً.
يسلط الفيلم الضوء على أوضاع المرأة العراقية المضطربة داخل البلاد، والتي لما تزل تعاني من تبعات تسلط الرجل وسطوة المجتمع الذكوري والعنف الديني. ويتخذ الشريطُ الحلمَ ثيمةً مركزية في الحكاية والحوار الثنائي بين البطلين: حلم الفرد، حلم المجموع، وحلم البلاد الذي لا يزال ينتظر. في الأوقات التي يضيق فيها الواقع بنفسه، ولا يعود بإمكانه أن يظل أميناً لإرادته، يحل الحلم بديلاً منه، شرط أن تكون للأحلام بيئة مناسبة وحالمون آمنون!
لم تشفع السنوات الأخيرة التي تلت اندحار تنظيمات "داعش" وتنفس المجتمع العراقي –والمرأة بالضرورة- هواءً جديداً يخالطه الهدوء والإقبال على الحياة. لم تشفع في تحسين سقف الحريات التي تتمتع بها المرأة العراقية إلّا في حدود ضيقة واشتراطات لا تتاح للجميع. وتنقل وكالات الأخبار بين حين وآخر أخباراً عن حالات قتل في "قضايا شرف" أو اعتداءات جسدية وتعنيف، يضع جهود الحكومة ومنظمات المجتمع المدني في حرج كبير.
يأخذ شريط "آخر حلم" واقع المرأة من تفاصيل صغيرة قد تبدو عادية وغير مركزية في طبيعة العيش، لكن غيابها والحرمان منها يتركان في النفس آثاراً عميقة من الأسى والحرمان اللذين قد يأتيان بتقلبات غير محسوبة. يستند الفيلم على حياة الفنان التشكيلي العراقي محمد مسير. يرسم مسير في لوحاته نساءً عراقيات يطرن بأجنحة بيضٍ في الهواء، فوق الأزقة والأحياء، أو يقدن دراجات هوائية، يقبلن عشاقهنّ في السماء في إشارة بليغة على عجزهن عن ممارسة أبسط حرياتهن على الأرض، مثلهن مثل الرجل شريكهن في الوطن. من هذه التفصيلة ينطلق ملاك بحبكته التي تُظهر أياد الطائي فناناً في الستين من عمره، يتوحّد في معتزله، يعيش حلم الشهرة والمعجبات، يمنح نساء مدينته حريتهن بقوة الفن والفرشاة، بقدرات سحرية تتجاوز الواقع والظروف الطاحنة. تأتي إحدى معجباته من لندن باحثةً عنه، فاتنة في العشرينيات من عمرها، تجمعهما قصة حب في منزل/مرسم الفنان المطل على نهر دجلة. في لحظة توهج الأحداث، وبعد مشهد عاطفي حميم، تطل "وردة" من شرفة الدار العتيقة على هدوء النهر المنساب، يرد "مازن" على جملة مقتطعة: "هذا مو هدوء. هذا خوف. اكو صخب مكبوت بهاي المدينة. ركزي واسمعي! تحسين الهدوء صرخة".
من عارضة سينمائية في مرسمه، يقدم الرسام العاشق لحبيبته صوراً عن بغداد، وواقعها المدني في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم. كانت نساء بغداد يتمتعن بهامش جيد من الحريات الشخصية: التعليم والحفلات ونوادي الطبقة الوسطى الاجتماعية. ثمة فسحة لألوان متجاورة ومختلفة من أساليب العيش فكرياً واجتماعياً حتى دخول البلاد نفق الدكتاتورية لتجيء الحروب والعنف والصدام الداخلي. ومع انقشاع الحكم الشمولي تخيل الناس أن زماناً جديداً سيفتح للعراقيين نوافذ للأمل والحياة الحرّة، غير أن سنوات من الفساد السياسي والانقسامات وتسلط الأحزاب كانت بانتظارهم كاتمة المشهد/الحلم المنتظر بآخر يصنعه الرعب والقلق والخراب.
الحياة الممنوحة
سوط العرف الاجتماعي و"العيب" لطالما ترك على الجسد العراقي آثاره سياسياً وعقائدياً وعشائرياً. فحتى الحكومات السابقة ظلت تعامل الحياة الممنوحة لمواطنها بوصفها هبةً أو عطية، فكانت تستسهل زجه في حروب إقليمية لا طائل منها سوى شعارات المجد والانتصار الموهومة، أو تطلق فجأة "حملاتها الإيمانية" التي تجيء دائماً بعد هزة كبيرة يتعرض لها العراق جراء مغامرات حكّامه.
المقابلة الضدية بين الحلم المنتظر والواقع المُعاش جسّدها المخرج بشعريّة عالية في مشهد ركوب البطلين دراجة هوائية في شارع الرشيد في قلب بغداد، لكن نهاية المشهد أرجعت البوصلة إلى مراسي الصدمة. ما أسهل أن ينقلب الحلم إلى كابوس. يرجع البطل إلى أمكنة الحلم التي تداخلت بين الخيال والواقع، بين ألوان لوحاته وفضاءاتها وبين أرضية المشهد الكابي وحقيقته.
دقيقة من التلاحق المشهدي الذي يفتح كوّة على جرح الإنسان العراقيّ عامة، والمرأة بشكل خاص، وهي تكابد وتكافح من أجل تفاصيل هي في حكم أبسط حقوقها الطبيعية: التعلم في مدرسة، العمل، ركوب دراجة، التنزه بلا مضايقة أو نظرات حارقة. يختتم الشريط بإهداء "إلى نساء بغداد الحالمات". رسالة مشهدية ناجحة في أن الطريق إلى تحقيق الحرية لا يزال طويلاً، وأن النجاحات المشجعة التي أنجزتها المرأة في السنوات الأخيرة بحاجة إلى نظرة شاملة ترى المشهد كاملاً لتدرك أن نساء بغداد لا يقتصرن على الأحياء الراقية والأسر الغنية فحسب، وأن في الكواليس نساء ينتظرن في صمت حياتهن وهي تمرّ كما يمر شريط سينما فارغ بلا مشاهد ولا حياة. يقف البطل على جسر يتقوّس على دجلة، لم تعد المياه تجري هناك بغزارة كما تعوّد أهل المدينة. لقد توارت كما تتوارى الأحلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول ملاك عبد علي" "إن السينمائيين العراقيين يحاولون النحت في الصخر من أجل الوفاء بالتزامهم الفني إزاء شعبهم وقضاياه، على رغم صعوبات الإنتاج وواقع الدعم الذي يتلقاه قطاع السينما في البلاد، وهو دعم يظل دون الطموح". ويضيف عبد علي: "من المهم أن يكون هناك تشريع حكومي يقره البرلمان يضمن تخصيصات مالية سنوية لدعم السينما العراقية ومساعدتها من أجل النهوض بواقعها وتقديم أفلام جيدة تنافس المطروح في المنطقة، بالأخص بعد التطور الكبير الذي شهدته سينما الشرق الأوسط نتيجة الدعم والمهرجانات وبرامج المنح واستقطاب النجوم والخبرات العالمية".
وتظل تخصيصات وزارة الثقافة العراقية التي تنضوي تحت لوائها دائرة السينما والمسرح، تظل الأقل بين وزارات أخرى تنال حصة الأسد في الموازنة الاتحادية العراقية مثل الدفاع والداخلية والكهرباء.
حصل فيلم "آخر حلم" على جائزة أفضل فيلم في مهرجان عيد السينما العراقية، وجائزة أفضل سيناريو من مهرجان العودة في فلسطين، وجائزة أفضل ممثل لمهرجان سوريا الدوليّ الإلكتروني للأفلام. وشارك في مهرجان أفلام السعوديّة بدورته التاسعة، والمسابقة الدوليّة لمهرجان قليبية في تونس، وتنتظره مشاركة قريبة في الجزائر ويتطلع فريقه إلى الترحال بأحلام شخصياته إلى شواطئ جديدة ليقصّوا الحكاية من جديد.