ملخص
الجدلية لا تعترف إلا بالحركة التي تصيب العالم في جميع ظواهره وتجلياته ولا تؤمن بحقيقة فلسفية مطلقة
من مفارقات تاريخ الفكر الفلسفي أن الذي استطاع أن يضعف أو، في الأقل، أن يزعزع العمارة الهيغلية الضخمة لم يكن فيلسوفاً بحسب المعنى التقني الدقيق. إنه الثائر الاجتماعي عالم الاقتصاد المؤرخ الفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي ولد عام 1818 في مدينة ترير الألمانية في أسرة يهودية كان الجد فيها حاخاماً، في حين انتقل الأب إلى الإيمان المسيحي البروتستانتي خوفاً من فقدان نفوذ مهنة المحاماة التي كان يمارسها. درس ماركس القانون في بون، ثم في برلين حيث خالط جماعة اليسار الهيغلي، وذلك بعد أن قرأ بنهم أعمال هيغل الذي أثر فيه تأثيراً بالغاً. وما لبث أن أنهى عام 1841 دكتوراه الفلسفة بأطروحة تناولت الفكر المادي الإغريقي القديم عنوانها "الاختلاف في فلسفة الطبيعة بين ديموقريطوس وإبيقوروس"، وأظهرت ميله المبكر إلى الإلحاد النظري.
بدايات السيرة النضالية
كان ماركس يرغب في أن يدرس في جامعة بون، غير أن موقف الإدارة السياسية في الولاية من اليسار الهيغلي، لا سيما من صديقيه اللاهوتي الفيلسوف الألماني برونو باور (1809-1882) والفيلسوف الألماني لودڤيغ فويرباخ (1804-1872) أثبط عزيمته، فصرف النظر عن الطموح الأكاديمي هذا. على رغم تأثر ماركس بالجدلية الهيغلية، فإن الأفكار الإلحادية التي بثها فويرباخ في كتابيه "جوهر المسيحية" (Das Wesen des Christentum) و"فلسفة المستقبل" (Grundsätze der Philosophie der Zukunft) أفضت بالشاب الثائر إلى اعتماد المذهب المادي المحض. التأمت هذه الكوكبة من الفلاسفة المشاكسين، فأنشأوا جريدة سياسية تعارض النظام الحاكم (Rheinische Zeitung)، وعينوا ماركس مدير التحرير فيها. غير أن الحكومة البروسية في منطقة الراين الألمانية منعت الجريدة في عام 1843، فاستقال ماركس من إدارة تحريرها، بعد أن عارض قرار مالكيها مسايرة الحكومة وتغيير نهج المقالات السياسية.
في هذه الأثناء اقترن ماركس برفيقة طفولته يني فون ڤستفالن المتحدرة من أسرة نبلاء المقاطعة، وقد عين شقيق من أشقائها وزير الداخلية في الحكومة البروسية. رزق ماركس سبعة أولاد من هذا الزواج، ولكن ثلاث بنات من ذريته هذه قاومن المرض والموت المبكر، وهن يني ولاورا وإليانور.
المنفى الباريسي والبلجيكي
في عام 1843 انتقل ماركس وزوجته يني إلى باريس، وأنشأ فيها مجلته "الحوليات الفرنسية - الألمانية" (Deutsch-Französische Jahrbücher) التي لم يصدر منها سوى عدد واحد. في باريس التقى الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797-1856) الذي امتدح جرأته وشجاعته في إحدى حواشي كتاب الرأسمال. أما اللقاء الحاسم فجمع بينه وبين صديق عمره المنظر السياسي والاقتصادي الفيلسوف الألماني فريدريش إنغلز (1820-1895). بفضل الإقامة الحرة في باريس، استطاع ماركس أن يؤلف قسماً من نصوصه الأساسية التي لم تنشر إلا بعد مماته: "في نقد فلسفة هيغل في القانون" (Zur Kritik der Hegelschen Rechtsphilosophie)، "مخطوطة النصوص الاقتصادية - الفلسفية" (Ökonomisch-philosophische Manuskripte)، "الأيديولوجيا الألمانية" (Die deutsche Ideoldogie)، "أطروحات في فويرباخ" (Thesen über Feuerbach). وما لبث أن انتقد آراء أصدقائه في الفلسفة والسياسة، فأصدر كتابه الشهير "الأسرة المقدسة" (Die heilige Familie).
لم تتوان الحكومة البروسية عن ملاحقة ماركس وأصدقائه حتى في معقل منفاهم الباريسي. فطردته السلطات الفرنسية، واضطرته إلى مغادرة أراضيها والالتجاء إلى بروكسل حيث انتسب وصديقه إنغلز إلى جمعية نضالية سرية تناصر الثورة الشيوعية. في المدينة البلجيكية هذه تناول ماركس الاشتراكية، لا سيما في فكر عالم الاجتماع والاقتصاد المناضل السياسي الفيلسوف الفرنسي بيار-جوزف برودون (1809-1865)، تناولاً تحليلياً كشف كتابه المعروف "بؤس الفلسفة" الموضوع أصلاً باللغة الفرنسية (Misère de la philosophie) ثغراتها المنهجية وعيوبها الفكرية ومواضع عقمها التاريخي.
الاستقرار في لندن والأممية الأولى
بعد كر وفر وترحال مضطرب بين بروكسل وكلن وباريس، يمم ماركس في عام 1849 شطر العاصمة الإنجليزية لندن وأقام فيها، منصرفاً إلى تنظيم نضاله الثوري، ومستعيناً بصداقة إنغلز الذي كان يدعمه مالياً من أرباح معمل الغزل الذي أنشأه والد الصديق الوفي هذا في مدينة مانشستر. بفضل جهود ماركس الحثيثة انبثقت في عام 1864 جمعية ثورية جديدة سميت رابطة العمال الدولية (Internationale Arbeiterassoziation)، عرفت بالأممية الأولى. أثناء الإقامة اللندنية أدرك ماركس أنه يجب محاربة ضربين من التطرف الفكري: انحراف الاشتراكية اليمينية التي جسدها فكر الكاتب السياسي البروسي فردينن لاسال (1825-1846)، وانحراف الاشتراكية اليسارية التي تجلت في فكر الفيلسوف الروسي ميخائيل باكونين (1814-1876) وفي مذهبه الأناركي الفوضوي العبثي.
أما السنوات الأخيرة فقضاها ماركس عاكفاً على تجويد أبحاثه في الاقتصاد السياسي. فإذا به ينشر في عام 1859 دراساته في "نقد الاقتصاد السياسي" (Zur Kritik der politischen Ökonomie)، ويصدر في العالم 1867 القسم الأول من ثلاثيته الضخمة الرأسمال (Das Kapital). من بعد أن أنهكته نضالاته السياسية وأحواله المعيشية الرديئة، ومن بعد أن توفيت امرأته في عام 1881 انطفأت شعلته، وهو جالس في مقعده يتأمل في مظالم المجتمع الإنساني. بعد وفاته أكب صديقه إنغلز على إصدار المجلد الثاني (1885) والمجلد الثالث (1894) من كتاب الرأسمال. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الأممية الثانية انعقدت في باريس عام 1889، في حين أن الثالثة اجتمعت في روسيا عام 1917.
نهاية الفلسفة وبداية النضال التغييري
لا ريب في أن فكر ماركس يناقض التنظير الفلسفي المحض، إذ يصر على صدارة العمل الواقعي الفعلي التغييري الثوري. جميع هذه العبارات ينطوي عليها اصطلاح البراكسيس (praxis) المشهور الذي غدا شعار ثوار الأرض. الحقيقة أن ماركس عاين اختتام الفلسفة كلها، النظرية والعملية، في أنظومة هيغل الضخمة، فأعلن أن فيلسوف الجدلية هذا هو الفيلسوف الكامل الفذ الذي استطاع أن يضبط حركة الفكر ويبلغ بها ذروة تجلياتها التاريخية. لم يترك لنا هيغل سوى مهمة واحدة: أن نتخلى عن البناء النظري الذي اكتمل في أنظومته، وأن نعمد إلى تجاوز الفلسفة تجاوزاً يجعلها تتحقق في معترك الواقع التاريخي. على غرار النسخ الارتقائي التطوري (Aufhebung) الذي نادى به هيغل، يجب علينا اليوم أن نتجاوز الجانب التنظيري ونحافظ على الجانب العملي الاختباري، بحيث نخضع الفكر لامتحان الفعل التغييري. ومن ثم، يصح ما قاله ماركس في الأطروحة الحادية عشرة من أطروحاته في فويرباخ: "اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم تفسيراً متنوعاً، ولكن الأمر المطلوب أن نغيره تغييراً".
من الواضح أن العمل التغييري أو المراس الفعلي يصيب الطبيعة والإنسان على حد سواء، وينطوي على طاقة ثورية تعارض وترفض وتبطل وتلغي وتتجاوز ما هو قائم. غير أنه من الضروري أن يستند إلى تصور فكري واضح يعاينه ماركس في العلم الوضعي الذي يضمن للإنسان المعرفة الموثوقة. أما معايير الموثوقية فينبغي استخراجها من معترك الاختبار العملي. كل فكرة لا تصمد أمام التجربة العلمية يجب إسقاطها. جميع النظريات المجردة ينبغي أن تخضع لأحكام التحقق العلمي النقدي المتطلب. وعليه، تضحى الماركسية أشبه بالفلسفة النقدية التي تستند إلى معطيات المعرفة العلمية، فترفض الفلسفة النظرية والأنظومات الميتافيزيائية المجردة. يبلغ النقد الماركسي أيضاً منطقة الوجدان الإنساني الذي يعاني ضروباً شتى من الاستلاب أو الاغتراب التشويهي. علاوة على النقد، يصر ماركس على اعتماد منهجين: المنهج الوضعي المستند إلى النقدية العلمية، والمنهج البراغماتي التجريبي الاختباري التحققي. أما الفرضيتان اللتان يقوم عليهما هذا النقد، فترسم الأولى أن الميتافيزياء جوفاء من جراء صعوبة تجاوز خلاصات المعرفة العلمية الوضعية، وتؤكد الثانية أن التنظير عقيم حين نفصل الفكر عن الفعل الواقعي.
إذا أردنا أن نتقصى المصادر التي استل منها ماركس أفكاره، وجب علينا أن نعود إلى هيغل وجدليته الحيوية وتصوره المقترن بالاستلاب الكياني الناشط في علاقة العبد بالسيد، وإلى فويرباخ ونظريته الأنثروبولوجية التي تقصي الدين وتربطه باختبارات المعنى الإنساني، وإلى الفكر الاشتراكي الفرنسي الذي ناصره إصلاحيون بارزون من أمثال برودون، والاقتصادي الفيلسوف الفرنسي سان-سيمون (1760-1825)، والاقتصادي الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه (1772-1837).
تصويب الجدلية الهيغلية
يعيب ماركس على هيغل ميوله الفكرية المحافظة ومثاليته النظرية، ولكنه يهنئه على اكتشاف الجدلية الحيوية التي ينبغي الحفاظ عليها من دون ربطها بالمثالية، ذلك بأن المنهج الهيغلي سليم، في حين أن المضمون النظري رديء عقيم. يبين لنا هذا التمييز أن ماركس يفصل في الأنظومة عينها بين المنهج والمضمون، فيرسم أن الجدلية لا ترتبط حتماً بالمثالية، إذ إن تطور العلوم كشف للجميع عن أنها ناموس الطبيعة والفكر على حد سواء. ومن ثم، يمكن استثمارها في المادية التي تعلن أن الفكر مرآة الطبيعة، يخضع على غرارها للقانون الجدلي عينه.
يتصور ماركس الجدلية علم القوانين الأعم التي تضبط حركة الطبيعة وتطورها، وحركة الاجتماع الإنساني وتقدمه. أما الفرضية الأساسية التي تقوم عليها، فالقول إن العالم مسار حي معقد من التطور الخلاق الذي يصيب كل الأشياء والكائنات، بيد أن الطبيعة لا تنفصل عن حركتها، بل تتماهى بها تماهياً يجعلها تنتقل من طور إلى آخر بفضل التقابل والتجابه والتعارض بين القوى الحية. الحركة عينها جدلية، إذ لا تني تنتقل من مستوى إلى آخر، من نفي إلى إثبات، ومن إثبات إلى نفي، حتى تحرر التاريخ من كل أصناف الاغتراب المهين. ومن ثم، تعتني الجدلية بالنظر في التناقضات الناشبة في ماهية الأشياء عينها، بحيث يضحى التطور أشبه بصراع الأضداد.
لا عجب، والحال هذه، من أن يرفض المنهج الجدلي كل تنظير ميتافيزيائي يقوم على التفكير في ماهية الكينونة الجامدة، وفي انعقاد الكائنات على طبيعة صلبة راسخة مكتملة. أما الجدلية فلا تعترف إلا بالحركة التي تصيب العالم في جميع ظواهره وتجلياته، ولا تؤمن بحقيقة مطلقة خالدة. ليس في الوجود من حقائق ثابتة، أو حلول قاطعة، أو معارف نهائية. ما نحسبه اليوم حقيقة يمكن أن يتحول غداً إلى مغالطة خطرة، والعكس صحيح. ومن ثم، فإن الماركسية التي أسهم ماركس وإنغلز ولاحقاً لنين (1870-1924) في ترسيخ مفاهيمها، تستحسن النسبانية (Relativismus) الشاملة، ذلك بأن الأنظومات التي صاغها العقل البشري، ابتداءً بالميتافيزياء والدين وانتهاءً بالأخلاق والأيديولوجيات السياسية، إنما تخضع لقانون الجدلية النقدية التي تقوم اعوجاجها وتصحح مسارها. وحدها العلوم الطبيعية لا تخضع لهذه النسبانية، إذ إن معارفها مبنية على منهج وضعي شديد التطلب والإحكام.
العالم وجود فعلي مادي طبيعي تاريخي
خلافاً للمثالية الهيغلية التي تربط العالم بالروح المطلق، يصر ماركس على اعتماد نقد فويرباخ واستثماره في تصور العالم على هيئة الواقع المادي الملموس الذي نختبره ونعاينه ونخضع لنواميسه. بفضل فويرباخ استقام فكر هيغل ونهض يسير على قدميه عوضاً عن الاتكاء على رأسه، بحسب تعبير إنغلز، كما أن العالم المادي ليس منبثقاً من عظمة الفكر المثالي، بل الفكر صورة العالم الذي يكتنفنا، كذلك الوعي الذي نحمله في كياننا ليس إلا انعكاساً للوضعيات البيولوجية والدماغية والعصبية الفيزيائية والمادية التي تحكم بنيتنا كلها ووجودنا الواقعي التاريخي. لذلك يمكننا القول إن مادية ماركس ورفاقه انقلاب على مثالية هيغل وأصحابه. عوضاً عن افتراض الروح متجسداً في العالم المادي، ينبغي منذ الآن فصاعداً تصور العالم منعقداً انعقاداً جوانياً في هيئة الفكر الذي يقتصر على وصفه وصفاً علمياً منزهاً: "ليست المادة نتاج الروح، بل الروح ليس إلا نتاج المادة الرفيع".
ومن ثم، تتغير مهمة الفلسفة برمتها، إذ لا تعود تنظر إلا في علاقة الفكر بالطبيعة وبالعالم وبالكينونة. تتباين المواقف الفلسفية بتباين الجواب الذي يقترحه العقل عن أصل العالم: المثاليون يولون الروح مقام الصدارة، في حين يكتفي الماديون بالطبيعة أصلاً حاضناً كل الموجودات. لا بد من الإشارة إلى أن ما نسبه هيغل من حيوية خلاقة إلى الروح، أسنده ماركس إلى المادة، فأدركها طاقة حيوية تحتشد فيها كل قابليات الإنضاج والنمو والتطور والتقدم، ذلك بأن هذه المادة قديمة، تنطوي على قوة ارتقائية تستولد الحياة استيلاداً يبلغ ذروته في انبجاس الحياة وظهور الإنسان. أما الفكر فينتجه الدماغ انعكاساً لحركة المادة الخارجية.
العالم تقوده ضرورات التاريخ المادية
يصر ماركس في ماديته الجدلية على تصوير حركة التاريخ خاضعة لطرائق إنتاج وسائل العيش، بحيث يضيق نطاق الحرية الإنسانية التي تدل على قبول الضرورة التاريخية، وقد استوعبها الإنسان ناموساً حتمياً يجعله يعتصم بالعلم سبيلاً إلى إخضاع الطبيعة لحاجاته. ليست الحرية قدرة على الاختيار، بل اعتراف بمقام العوامل المادية في نحت صورة العالم، ذلك بأن الأفكار التي يظن الناس أنها تسير التاريخ ما هي سوى بنى فوقية أو أيديولوجيات قاهرة أنتجتها الأوضاع الاجتماعية التي تخضع للقرائن المادية الاقتصادية. كان ماركس مقتنعاً بأن البنى التحتية الاقتصادية تحرك التاريخ، إذ إن طرائق إنتاج الحياة المادية تؤثر تأثيراً حاسماً في مسار الوجود الاجتماعي والسياسي والروحي. ليس وعي الإنسان ما يحدد فينا كياننا الاجتماعي، بل بخلاف ذلك كياننا الاجتماعي يحدد لنا وعينا.
من أغرب الغرائب الخلاصات التي يستخرجها الماركسي من المبدأ الأساسي هذا. من جراء ارتباط الوعي بالبنى المادية، يعتقد الماركسيون أن العقل الإنساني لا يطرح على ذاته إلا المشكلة التي من الممكن حلها، وذلك بالاستناد إلى القول الذي يرسم أن المسائل المطروحة جيداً تتضمن الحل، بحسب ما اعتمده أيضاً الفيلسوف الفرنسي برغسون (1859-1941). تسويغاً للنظرة التفاؤلية هذه، تظن الماركسية أن المشكلة لا تظهر في الوعي إلا حين تنعقد الشروط المادية الضرورية الكافية التي تيسر حلها. إذا طرأ على الفكر إشكال لا يملك المرء أن يعالجه بالاستناد إلى التحليل المادي الاقتصادي البحت، فإن مثل هذا الإشكال مزيف لا طائل منه، فضلاً عن ذلك، يعتقد الماركسيون أن تطور البشرية يخضع للحتمية نفسها التي تخضع لها الطبيعة، أي حتمية الجدلية المادية. ليس التاريخ مسرحاً عبثياً تتعاقب عليه الأحداث الطارئة تعاقباً اعتباطياً، بل موضع تحقق الضرورة الجدلية التي تفضي إلى نشوء منطق علمي يترصد حركة العالم وفقاً لأحكام التطور المادي المحض. لذلك ينعقد التاريخ على معنى لصيق به، فتتحقق غايته بواسطة بناء المجتمع الشيوعي، أي مجتمع الأحرار الذي يلغي جميع ضروب التناقض بين الإنسان والطبيعة، بين الفرد والمجتمع، بين الأفراد أنفسهم، بين الطبقات الاجتماعية. ومع ذلك، ما برح التناقض يحيي التاريخ على قدر ما يحتضن صراع الطبقات المتجلي في المواجهة الشرسة الناشطة بين قوتين اقتصاديتين حاسمتين: الرأسمال والعمل.
بما أن التاريخ أضحى موضوعاً للنظر العلمي المحض، فإن العقل يستطيع أن يستشرف مآلاته ومصائره. من آيات هذا الاستشراف التنبؤ بسقوط الرأسمالية ونهاية الملكية الخاصة، وبزوال الدين وتعزيز سلطان البروليتاريا أو حكم الطبقة العاملة، وانهيار الدولة وتفككها، وقيام المجتمع الإنساني المنعتق من نظام الطبقات الظالم. في هذا السياق، لم يحسم ماركس مسألة ارتباط الشيوعية بنهاية التاريخ. يبدو أن نصوصه تميل تارة إلى تصوير الشيوعية خاتمة النضالات التحررية، وتوحي تارة بأن تحرير البشرية من الاغتراب البنيوي يستهل الزمن التاريخي الحق. من جراء الغموض الاستنتاجي هذا، انبرى بعض المنظرين الماركسيين، ومنهم الثائر الشيوعي الروسي ليون تروتسكي (1879-1940)، يعلنون أن الشيوعية نفسها طور من أطوار التاريخ ينبغي تجاوزها من أجل تحقيق ملء قوام الإنسانية.
تحليل بنية الشعور الديني
لم يكتم ماركس رفضه القاطع كل ضروب التدين الذي يسلب الإنسان كرامته وحريته ومسؤوليته. كان حاقداً على الآلهة التي لا تقيم وزناً لمقام الوعي الإنساني. لذلك أرسل قولته الشهيرة: "يفضي نقد الدين إلى المذهب القائل إن الإنسان هو لنظيره الإنسان الكائن الأسمى" (ماركس، "في نقد فلسفة هيغل في القانون"). غير أن مستند النقد الماركسي ما برح التحليل الذي ساقه فويرباخ حين رسم أن الله إسقاط مرضي يجرد الإنسان من ماهيته وينسبها إلى الله. لا شك في أن هذا الإسقاط ينشأ من الاغتراب الذي يعانيه الإنسان حين يخضع لقوى غريبة تتجاوزه. ومن ثم، لا بد من إعادة الإنسان إلى مقامه الأصلي: "الإنسان يصنع الدين، ليس الدين ما يصنع الإنسان" (ماركس، "في نقد فلسفة هيغل في القانون")، بيد أن ماركس لا يعتمد نقد فويرباخ في جميع جوانبه، إذ يرفض مقولة الإنسان المجرد الذي ينشأ بمعزل عن الأوضاع المادية الاقتصادية السائدة. الإنسان، في نظر ماركس، نتاج اجتماعي يعبر عن حال المجتمع. لذلك ينبغي أن نتحرى أصل الاغتراب الكياني الذي يفضي بالإنسان إلى التشبث بأهداب الدين. استجلاءً لطبيعة الشعور الديني، يعكف ماركس على تحليل ثلاثة عوامل: اجتماعية ونفسية وجدلية.
يبين ماركس في تحليل العامل الاجتماعي أن الدين ما فتئ يضطلع بمهمة اجتماعية تقضي بأن يحافظ على النظام السائد ويصون البنى الظالمة المتخلفة الرجعية. إذا كان الدين، في نظره "أفيون الشعب" فسبب ذلك أنه يعد الناس بحياة أبدية مزدانة بالمساواة والعدل والسلام، ويحرض الجميع على التصبر والخنوع حتى تأزف ساعة الملكوت. من عواقب هذا التحريض أن المتدينين ينصرفون عن النضال الاجتماعي والسياسي، وينكفئون إلى جوانيتهم يتأملون في اقتراب نهاية الزمن، عوضاً عن الكدح الصبور والكفاح في سبيل تحسين الأوضاع المادية.
حين يتناول ماركس العامل النفسي يتضح له أن أصل التدين شعور الإنسان بالعجز أمام اقتدار الطبيعة وجبروت القوى الاقتصادية والسياسية المهيمنة. الإنسان البدائي اختبر العجز الكياني في مواجهة غضب الطبيعة، فخر ساجداً للآلهة يستعطفها ويستنزل بركتها. الإنسان الحديث عانى الظلم الاجتماعي في مقارعة القوى الرأسمالية المتجبرة، فالتجأ إلى المؤسسة الدينية يستجير بها ويتعزى بمواعظها التخديرية. في كلتا الحالين يتجلى الدين مناهضاً الرغبة النضالية، يعبر تعبيراً مأسوياً عن بؤس الأوضاع الإنسانية، ويروم أن يحتج احتجاجاً لطيفاً ويستنكر استنكاراً سلمياً وديعاً. والحال أن اليأس من تغيير الأحوال يوازيه ابتهاج بوعود الملكوت الإلهي الآتي. لذلك استشرف ماركس زوال الدين رابطاً إياه بزوال أسباب البؤس. حين ينجح الإنسان في تغيير البنى الاقتصادية الظالمة، لا يعود يحتاج إلى البحث عن تعزية إلهية وهمية.
إذا كان تحليل العامل الاجتماعي يجعلنا ندرك الأثر الخارجي الذي يخلفه الدين في حياتنا، وتحليل العامل النفسي يجعلنا نمسك بأصل فكرة الله، فإن تحليل العامل الجدلي يتيح لنا أن نستخلص ماهية الدين، وقد عبر عنها ماركس في اصطلاح الاغتراب أو الاستلاب. كلما أفرغ الإنسان ذاته وتخلى عن ماهيته الإنسانية، أهدى جوهر كيانه إلى الكائن الإلهي الذي يفترض وجوده في ما وراء الطبيعة. ومن ثم، فإن وجود الله يعني إنكار الإنسان، وإنكار الله يستتبع وجود الإنسان. ليس هذا الوجود مجرد عيش عبودي اغترابي استغلالي، بل حياة إنسانية واعية، حرة، مستقلة، قادرة على النضال التطويري والمبادرة الخلاقة: "حين أعلم أن الدين هو الوعي البشري المستلب، أدرك أيضاً أن وعيي الذي ينتمي إلى ذاته لا يترسخ في الدين، بل في إلغاء الدين". بواسطة التصريح الواضح هذا، يعلن ماركس القطيعة النهائية بين الإنسان والله، ويمهد السبيل إلى نشوء إنسانية جديدة منعتقة من كل أصناف العبودية، ومنها عبودية الإنسان لله.
الإنسان يصنع إنسانيته بواسطة العمل المنتج
يرفض ماركس تعريف الإنسان كائناً مجرداً من أوضاعه التاريخية. في نظره، الإنسان مجموع العلاقات الاجتماعية التي ينسجها بواسطة العمل الإنتاجي. الإنسان كائن اجتماعي يخضع لأحكام العمل الذي يعزز فيه إنسانيته. بما أن العمل يحول الطبيعة وفقاً لحاجات الإنسان، فإنه "يؤنسن" الطبيعة، وفي الوقت عينه "يطبعن" الإنسان، أي يعيد خلقه على الدوام. في هذا السياق، يستلهم ماركس نظرية الاعتراف الهيغلية، فيرسم أن الإنسان إنسان بفضل اعتراف الآخرين بإنسانيته. غير أن هذا الاعتراف لا يستقيم إلا إذا استولد الإنسان ذاته بواسطة العمل الإنتاجي الذي يغير هيئة الطبيعة. الإنسان الواقعي ثمرة عمله الإنتاجي.
غير أن المشكلة تنشأ من سيطرة طبقة اجتماعية رأسمالية مقتدرة على جماعة العمال الكادحين. لذلك أخذ ماركس يحلل أسباب الهيمنة والاستغلال بالاستناد إلى مقولة القيمة التبادلية التي ينطوي عليها العمل. فالمنتجات المادية والرمزية تستمد قيمتها من مقدار العمل الذي أنتجها، فتكتسب المقابل المالي الذي يجعلها خاضعة لأحكام التبادل. أما المال فيمكنه أن يشتري القدرة العاملة أيضاً، فيتحول إلى رأسمال يتعاظم بتعاظم العمل الذي يعزز الإنتاج. يحدد ماركس الرأسمالية بالاستناد إلى الرأسمال الذي يتكاثر بفضل المال المكتنز، فيتحول إلى قيمة فائضة يتيح للاقتصادي الرأسمالي أن يشتري عمل العامل بعد أن يجعله بضاعة للبيع، مانحاً العامل الحد الأدنى من الأجر الذي يكفيه في أكلاف معيشته الأساسية. أما قيمة العمل الإضافية التي تنتج فائض القيمة المالية، فيختزنها صاحب الرأسمال في أهرائه من أجل مضاعفة ثروته وتعظيم اقتداره.
لا بد، والحال هذه، من محاربة الرأسمالية التي تستغل عمل العامل وتحرمه من الإفادة المباشرة من قيمة عمله، وتضطره إلى الثورة وتحطيم البنى الظالمة وإلغاء الملكية الخاصة إنشاء النظام الشيوعي الذي يرمم إنسانية الإنسان. بالاستناد إلى التصور الطوبوي هذا، اعتقد ماركس أن الشيوعية قادرة على استثمار طاقات العمل الإنساني في سبيل تحرير الوعي من كل ضروب الاستلاب الكياني المقيتة. لم يفته كذلك أن يحلل أطوار الاجتماع الإنساني بالاستناد إلى طبيعة الإنتاج، سواء في المجتمع البدائي أو مجتمع العبودية أو إقطاعية القرون الوسيطة أو زمن الرأسمالية البورجوازية. ومن ثم، أدرك أن تكثف الرأسمال وتعاظمه أفضيا إلى إفراغ مبدأ الملكية الخاصة من مضمونه، بحيث تسبب نمو القوى الرأسمالية الإنتاجية بإلغاء الحواجز الفاصلة بين ملكية وسائل الإنتاج وامتلاك القوة العاملة. حينئذ تستطيع الثورة أن تلغي الملكية الخاصة هذه لتمنح البروليتاريا حق امتلاك القوى الإنتاجية، وترتقي بالإنسان من مجرد عامل-بضاعة أو سلعة تباع قوة عمله بأبخس الأسعار إلى إنسان حر يستثمر بذاته طاقات إنتاجه.
خصوصية الفلسفة الماركسية
بمعزل عن التطورات الأيديولوجية التي شوهت فكر ماركس واستغلته في الصراع الشيوعي - الرأسمالي والحرب الباردة البغيضة، لا بد من الاعتراف بأن ما يميز الحدس الماركسي ربط الحياة بأوضاعها التاريخية، وربط الوعي بالنضالات التحررية، وربط العالم بشروط الممارسة التاريخية. لا شك في أن اختزال الحياة وردها إلى بعدها المادي يجعلان الإنسان أسير الحركة الإنتاجية المحضة، بيد أن ماركس لم يرد أن يقتصر مسعاه الفلسفي على النظر الأثيري في الكينونة المجردة والروح المطلق والجوهر المتعالي. جل اعتنائه النظر النقدي في شروط حياتنا الواقعية. لذلك أفضى النقد هذا إلى بناء فلسفة عملية لا تكتفي بتناول العمل غاية بحد ذاته، بل كذلك موضوعاً للتحليل العلمي ووسيلة لاكتساب المعرفة الموثوقة، ذلك بأن دعوة الفلسفة تكمن في إدراك شروط تحول العالم الحي الواقعي الملموس. الفلسفة، في نظر ماركس، وعي العالم وعياً نقدياً يجعله ميدان الممارسة العملية الإصلاحية التغييرية. إذا أردنا أن ننصف الثورة الفكرية الماركسية، قلنا إنها، حين نحررها من انحرافات المدارس والأيديولوجيات المنبثقة منها، ما برحت حية فاعلة ملهمة في العلوم الاجتماعية النقدية وسائر فلسفات الالتزام والإصلاح.