ملخص
أرض تميد ومبان تترنح وتسقط وبشر كأنما في مشهد أبوكاليبسي ورعب وصراخ في عراء الليل
كانت الثواني الأربعون كافية لخلق حالة من الذعر والهلع في معظم مناطق البلاد. لم تكن ليلة السبت الفائت ليلة عادية في تاريخ المغرب. فقد قضى معظم الناس الليل كله خارج بيوتهم، ينتظرون ارتدادات الزلزال، خائفين من هزة مباغتة قد تكون أعنف من سابقتها.
وعبر الهواتف ووسائل التواصل كانوا يتعقبون عدد الضحايا. انهارت منازل في الأحياء القديمة، وتشققت أخرى. أما الأقاليم القريبة من مراكش، الحوز وشيشاوة وتارودانت، فقد كانت الأكثر تضرراً. بل إن قرى دُمّرت بالكامل. تعاقبت المشاهد المؤلمة والموجعة، وانقطعت الطرق في الجبال. وكان همُّ الجميع إنقاذ من يمكن إنقاذهم.
لم يألف المغاربة زلزالاً مثل هذا منذ أكثر من قرن. كانت البيئات الهشة أكثر تضرراً، المنازل المبنية بالطوب والقش سقطت على ساكنيها الذين لم تسعفهم الثواني القلية في الفرار. أسر ماتت في البيت الذي ظنّت أنه ملاذ من كل شرّ. ناهز عدد القتلى إلى حدود أمس 2826، وهو عدد مرشح للارتفاع ما دام هناك جرحى في حالات خطرة، وما دام هناك مفقودون تحت الأنقاض.
أعلنت البلاد الحداد لثلاثة أيام، وتوقفت كل الأشكال الاحتفالية، بما فيها الأنشطة الثقافية. ولم تخرج المآثر التاريخية من دائرة الضرر، فقد تهدّم مسجد تينمل الأعظم الذي يعود إلى العصر الموحدي، وانهارت صومعة مسجد خربوش في ساحة جامع الفنا، وتضرر مسجد الكتبية العريق بنسبة أقل خطورة، بينما عرف "الملاح اليهودي" أضراراً بنسبة 60 في المئة، كما أن المدينة العتيقة في مراكش عرفت انهيارات عدة لمبانيها التاريخية، إضافة إلى تصدعات وتشققات طاولت أسوار المدينة القديمة.
هبّ المغاربة لدعم بعضهم بعضاً من دون انتظار إذن من الدوائر الرسمية، فنصبوا الخيام لتجميع المواد الغذائية والطبية والأفرشة والأغطية وإرسالها إلى المناطق المنكوبة. وتوالت المشاهد المؤثرة للشباب وهم ينتشلون الضحايا، وللبسطاء وهم يساهمون بمؤونتهم القليلة من أجل من هم أحوج إليها، ولقوافل السيارات والشاحنات محملة بالمساعدات وهي تتوجه إلى المناطق المنكوبة. تعاطف الناس من خارج البلاد مع أهالي الضحايا تعاطفاً كبيراً. وعبر الحسابات الشخصية وصفحات التواصل تعاقبت ملايين التدوينات التضامنية.
وكان أهل الثقافة والفن ضمن المتعاطفين مع المتضررين من الزلزال، بل قاد عدد منهم حملات من أجل مساعدة الذين تضرروا من الكارثة، وظلوا في العراء بلا مأوى وبلا طعام وغطاء.
الصدمة وشعرية الأنقاض
ينقل لنا الشاعر والروائي حسن نجمي تجربته مع الزلزال: "كنت في بيتي في الرباط، وقد اتكأتُ على طرف السرير وإلى جانبي كتابات وأوراق بيضاء، تحرك السرير في الهزَّة الأولى للزلزال، ثم تحركت الغرفة والكتب والطاولة وكل شيء من حولي. وقفنا، عائشة وأنا، نُشَاهِدُ الزلزال أمامنا ولم نكن نحس به فقط. الزلزال، العين في العين. حملتُ حفيدي يانيس نائماً، وأيقظتْ عائشة والدتها التي تزورنا هذه الأيام، وجَرينا هَلعَيْن إلى باب الشقة، في الطابق الثالث، في شارع الجزائر في الرباط. في الشارع، كان الجيران أسرع في إخلاء البيوت. تدريجاً، استوعبنا اللحظة، وانخرطنا في الأجواء التي كانت لا تزال مطبوعة بالفزع العام. وبغير قليل من الالتباس، وشيئاً فشيئاً، بدأت الأخبار تتوارد، راديو السيارة، التليفونات، الفيسبوك. وكانت الأخبار لا تزال ناقصة أو متناقضة".
يضيف نجمي: "على الفور، عدت إلى البيت، ثم عادت عائشة، لنخرج الأغطية وما به نتستر. أطفأنا مصابيح البيت، وأوقفنا الكهرباء وغاز البيت، وبقينا في السيارة غير بعيدين عن البيت. بعد ذلك، تحركنا بسيارتنا الصغيرة لنكتشف الرباط ليلاً، في غمرة الإحساس بالزلزال. وأمكنني، على عجل، أن أنشُرَ تدوينة أولى على الفيسبوك، دقائق بعد لحظة الفزع الطارئ. وتداعت في البال تمثلات كثيرة ومشاعر متضاربة. ولاحت في الذاكرة وجوهٌ وأحداث وزلازل سابقة. وباء كورونا ليس بعيداً بكلِّ تداعياته وصوره المرعبة".
يتحدث نجمي عن الزلزال بنظرة تأملية: "كارثة أخرى تأتي بها الطبيعة هذه المرة، تنبثق من عمق الأرض، وتحديداً من جبال الأطلس الكبير، في أحواز مراكش. تجربة الصدمة والهلع التي عشناها مع هذا الزلزال لم تكن سهلة. وظني أن امتداداتِها ومشاهدَها المروعة لن تمر من دون أن تُخلف أثرها في النفوس، وفي الذاكرة الفردية والجماعية، وربما في الذاكرة الشعرية والفكرية تحديداً. وقد تظهر تجلياتها في خطابات الشعراء والروائيين والسينمائيين والمسرحيين وغيرهم."
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعود الشاعر المغربي إلى تاريخ الزلازل في المغرب: "إن للمغرب تاريخاً حافلاً بالزلازل، على الأقل منذ "زلزال لشبونة" عام 1755 الذي ضرب شبه الجزيرة الإيبيرية والمغرب، مُخَلِّفاً كارثة ظلت راسخة في مدونات المؤرخين، وبالخصوص منذ زلزال مدينة أگادير عام 1960 الذي دفن المدينة المغربية بكاملها. وهذه مرة ثانية أستشعر فيها الزلزال بعد مرور زلزالٍ عابرٍ بالرباط عام 2001، إضافة إلى زلزال الحسيمة عام 2004 لكن هذه المرة كانت أكثر وطأة وهلعاً. والآن ما زال الزلزال الجديد في أحاديثنا اليومية، في البيت والعمل، وفي التليفونات والقنوات التلفزيونية. ورأيت آثار الزلزال في مراكش، وفي مدينة سطات. المشاعر الشخصية سرعان ما أصبحت جزءاً من المشاعر الجماعية لمغاربة عبَّروا عن قيم تضامن رائعة، وعن وحدة متماسكة والتفاف جماعي وإحساس بالمسؤولية بل وعي بأخلاق المسؤولية".
يختم صاحب "الرياح البنية" كلامه: "إنها كارثة كبيرة لم تتوقف ذيولها وتبعاتها وخسائرها البشرية والمادية حتى الآن، لكن التضامن العربي والعالمي مع المغرب في هذه الكارثة خَفَّفَ من إحساسنا المرعب. وعلى رغم فداحة الخسائر وهَوْلِ الأنقاض والخرائب والتداعيات النفسية والاجتماعية ومشاهد الموت المتراكم، أحسست أن لدى المغاربة وعياً بأنهم يعيشون مع ذلك "وجها من أوجه التاريخ" كما وصَفَهُ والْتَر بنيامين وهو يتحدث مرة عن معنى الكارثة، ويقفون مرة أخرى أمام "الحياة عارية". ولعلهم يعيشون من جديد ما سَمَّيْتُه مرة بـ "شعرية الأنقاض"، أي كيف نختصر الكارثة المهولة، ونحتفظ للذاكرة وللتاريخ بعمق التجربة ومعناها الإنساني".
تجربة مرعبة على مقربة من بؤرة الزلزال
تقيم الشاعرة فدوى الزياني في مدينة مراكش، على مقربة من بؤرة الزلزال. وتسرد لنا التفاصيل الأولى التي عاشتها خلال وعقب الكارثة: "كنت جالسة أمام التلفزيون حين لاحظت غياب قطط البيت الستة التي اعتادت القفز أو التَّمدد في الصالة قريباً من النافذة، مستمتعة بالهواء البارد الذي يتسلل عبرها في هذا الوقت من المساء. لكنني لم أعر الأمر أهمية كبيرة، قلت ربما غيرت مكانها إلى الشرفة. بعدها بوقت وجيز بدأت أسمع صوت اهتزاز مرعب وعجيب، كان خفيفاً في البداية، ثم بدأ صوته يشتد، ولا أظنني سأجد له في يوم من الأيام وصفاً يناسبه. لكنني الآن أستطيع أن أقول إنه صوت يشبه الدوران النهائي لآلة غسيل بحجم شاحنة نقل بترول ضخمة. لم أستوعب الاهتزازات لحظتها، لكنّ وعياً ما بداخلي جعلني أعرف أنه زلزال، على رغم أنني لم أعش أبداً تجربته بشكل مباشر. بدأ الصوت والاهتزاز يشتدان، في اللحظة نفسها، قفزت من مكاني إلى وسط الصالة. جاء سليم ابني من المطبخ مرعوباً حاملاً إبريق شاي في يده، بينما إيمان التي كانت نائمة في غرفتها جاءت فزعة وهي تصرخ. تجمَّعنا في ثوان قليلة وسط الصالة والاهتزازات تتزايد والصوت المرعب مستمر، والهلع يزيد من ارتفاع إفراز الجسم للأدرينالين، حاولت تهدئتهم وجعلهم يتوقفون عن الهلع. كنت بلا إحساس فعلاً، ولم يعد يهمني ما يحدث بالخارج، أو خارج هذه الدائرة الضيقة التي تجمعني بأولادي وهم في حضني، دائرة الضوء الوحيدة التي بقيت بعد انقطاع الكهرباء".
تضيف فدوى: "طلب منا سليم أن نردد الشهادتين، ارتباكي وضعفي أمام خوفه علينا وبكاؤه وهو يطلب مني ومن أخته أن لا نموت وأن لا أموت "عافاك أ ماما متموتيش ليا عافاك أماما متموتيش ليا". جعلني أسمع كلامه وهو يطلب منا أن نختبئ تحت طاولة الطعام، وبقي هو خارجاً في محاولة لحماية ظهرنا مما يحدث وما يجهله ونجهله. بقيت ثوانيَ قليلة، ثم خرجت من تحت الطاولة، وأنا أشعر بعبثية الاختباء من شيء مرعب ومجهول لا نعرف ما هو وما النهاية التي سيوصلنا إليها. عانقت أولادي وعيناي معلقتان ما بين الفراغ والظلام، في انتظار سريالي لنهاية مفجعة، هكذا سينتهي الأمر، قد يسقط السقف أو تنشقّ الأرضية تحتنا وسنموت متعانقين تحت الركام. لم أكن أشعر بأي شيء سوى بخوفهم وارتجافنا كأن الحياة أو ربما الموت يحاول أحدهما عجن أجسادنا بعضها ببعض في خلاط كهربائي كبير".
تصف صاحبة "خدعة النور في آخر الممر" اللحظات الأخيرة للزلزال: "قبل توقف الزلزال، مال البيت كله يمنة ويسرة، وصمت كل شيء كأنما توقفت حركة الأرض. فتحنا أضواء هواتفنا واطمأن كل واحد منا على سلامة الآخر ثم بدأنا نسمع صراخ الناس في الشوارع حولنا. نعيش في الطابق الرابع والأخير، لهذا السبب لم نفكر في الخروج كما فعل بقية الجيران".
تسرد الشاعرة المغربية تفاصيل أخرى لليلة الفاجعة: "بتنا تلك الليلة في ساحة أمام العمارات الذي نسكن فيها، لم يكن باستطاعتنا العودة، والبيوت التي كنا نأمن فيها أصبحت مصدر رعب حقيقي. اتصلنا بالعائلة وعرفنا أن الزلزال ليس فقط في مدينة مراكش، لكنه ضرب غالب مناطق المغرب، وأن الفاجعة عمَّت. جميع من نعرفهم بخير لكن الهزات الأشّد والأقوى كانت في المدينة القديمة، في القرى والضواحي المجاورة لمراكش ولتارودانت ووارزازات. حينها عرفنا أن خساراتنا في الناس ستكون مهولة وأكبر بكثير مما كنا نتوقع".
وتضيف: "ليس هناك أكثر رعباً من أن تجد نفسك تحت وقع زلزال مدمر، وأن تجد نفسك خلال وقت وجيز في العراء خائفاً من العودة إلى بيتك أو من دون مأوى، من دون عائلة ومن دون أي حيّز للأمان. كيف يستطيع عقل كائن ضعيف أن يتعامل مع هذا الخراب الكلِّيّ الذي يطمس هوية المكان ويعيد ترتيب طبقات الأرض؟ أو يستوعب كيف انفتحت الأرض وابتلعت البيوت والكائنات وخلّفت وراءها الكثير من الخراب والموت؟ هذا الدمار العام يفقدك قدرتك على مواجهة الحياة فتجد نفسك أمام تراكمات من مخاوفك البعيدة الاحتمال والتي أصبحت واقعاً ملموساً، لا تستطيع الهرب منه، فاقداً الثقة في نفسك وفي مستقبلك المجهول وفي كل أشكال الإيمان والطمأنينة التي تستطيع أن تساعدك لتنجو. حتى الآن لا أعرف من أين جاءني اليقين بأن التوقيت الزمني للزلزال الذي ضربنا كان دقيقة وعشرين ثانية، وحتى هذه اللحظات ما زلت أرفض التأكد من المصادر المتخصصة، لأن هذا ما أؤمن به، على رغم أن الوقت المهم في مثل هذه اللحظات هو لحظة النجاة فقط".
تضامن وتعاطف بعد ليلة الهلع
الكاتب المترجم محمد آيت لعميم، المقيم في مدينة مراكش، يسرد تفاصيل تجربته مع الزلزال عبر محكيات متداخلة: "قبل أسبوعين كنت أقضي عطلتي في الرباط، تواعدت وصديقي الناقد خالد بلقاسم في مقهى متحف الرباط للفنون، فتجاذبنا أطراف الحديث في مواضيع شتى، وطلب مني مقالة لمجلة "بيت الشعر"، فقلت له لدي نص قوي ترجمته تحت عنوان "خراب الخراب". أعجب بالعنوان، وأضفت قائلاً إن المقالة تفتتح بجملة لجاك دريدا يقول فيها: "في البدء كان الخراب". واستمر الحديث فأشرت إلى فكرة عنت لي من خلال المقالة، وهي أن الشعر العربي دشن القصيدة بعنصر يحيل إلى الخراب في مقدماته الطللية، وقلت له سأعيد قراءة هذه المقدمات من خلال هذه البدئية الخرابية. لم أكن أعرف أن هذا الحديث سيتحقق بعد مضي أسبوعين في تلك الليلة الرهيبة، التي لم يسبق لنا أن عشنا مثلها من قبل، على رغم أننا أدركنا زلزالاً في زمن السبعينيات في أيام عيد الأضحى، لكنه لم يكن بهذا العنف والرعب".
يصف صاحب "الروح القلقة والترحال الأبدي" اللحظات الأولى التي عاشها حين ضرب الزلزال مدينته: "إلى حدود الساعة الحادية عشرة ليلاً كانت الأجواء هادئة، قضيت اليوم في هناء وسرور، تلك الليلة، كنت في مقهى أقرأ في كتاب، مع العاشرة والربع، قمت من المقهى، وتوجهت إلى منزلنا في حي كاسطور، عند والدتي، دخلت المنزل وبعد قليل خرجت لأتناول عشائي في مطعم يوجد في الطابق الأرضي من منزلنا. كان الناس متحلقين وجالسين في المطعم، مع أبنائهم، فرحين والجو كان جميلاً. اقتعدت طاولة قرب الرصيف، أنتظر عشائي، بدأت في تناول كبد لذيذ. آخر لقمة وضعتها في فمي، لا أعرف إلى حدود الآن هل وصلت إلى فمي أم أرجعتها إلى الصحن، كان هاتفي على الطاولة، فسمعت صوتاً رهيباً، فاعتقدت أن طائرة ارتطمت ببيتنا، صوت وكأن وحشاً أسطورياً انبعث من تحت الأرض، توقف ذهني، ونهضت مسرعاً، وجدتني في الضفة الأخرى من الشارع، والتفت فوجدت الناس مذهولين. هناك من بقي في مكانه لا يعرف ما يفعل. بدأت أنظر إلى بيتنا والبيوت المجاورة تهتز وتترنح فأدركت أنه الزلزال".
يواصل آيت لعميم: "مرت في ذهني أفكار سوداء، أمي في فراشها تستعد للنوم، كان معها أخي. اعتقدت أن آلة الغسيل اشتغلت، أخي عرف أنه الزلزال، فخطفها وخرج بها مسرعاً إلى الخارج. حين نهضت رحت أبحث عن مكان منعزل عن البيوت التي خشيت أن تنهار، وأنا أسرع الخطى على الإسفلت أحسست كأنني أمشي على سجاد متحرك، كدت أفقد توازني. ظل الصوت المرعب يتردد صداه في أذني، وشعرت كأنني في سكر. الغريب أنني اعتقدت أن الزلزال ضرب بيتنا والمنازل المجاورة، فاتصلت بأبنائي وزوجتي، كان الخط مقطوعاً، طلبت من أخي أن يوصلني إلى بيتي. في الطريق رأيت الناس مذعورين يفرون من منازلهم، إذاك فهمت أن الأمر أصاب الكل. حين وصلت إلى بيتي في حي سكوما، وجدت الناس متجمهرين، وكل يحكي قصته، والرعب الذي أصابه، وجدت ابنتيّ وقد خرجتا من المنزل، زوجتي كانت مع أسرتها في أحد المطاعم، وقد حكت لي في ما بعد الهول الذي عاشوه أثناء الهزة الأرضية العنيفة، حين انقطعت الكهرباء والناس تجري في اتجاهات مختلفة وصراخ الأطفال. كانت ليلة رهيبة، في ثوان معدودات تغيرت الأمور، كانت الرجة القوية سبباً في رجة نفسية وذهنية. في تلك الليلة لم نعد قادرين على الدخول إلى دفء المأوى، تحولت المنازل إلى أمكنة معادية، احتجنا إلى المبيت في العراء، ومن حسن حظي أن بيتي يوجد في ضيعة، أمامه هناك فراغات وشجر، بدأ سكان الحي وأناس من أحياء أخرى يتقاطرون على هذا المكان بأغطيتهم ليفترشوا الأرض تحت سماء بلا نجوم. بت الليلة في هذا المكان مع أسرتي، ثم فضلت أن أنام في سيارتي، لم نر النوم تلك الليلة".
يضيف الناقد المغربي: "كانت الأخبار تأتي تباعاً عن طبيعة الزلزال وقوته، وعن بؤرته في منطقة جبلية، هي التي تضررت في شكل كبير. هناك ضحايا وشهداء وجرحى ومصابون كثر. كنت أتابع لحظات ما خلف الزلزال، وبكيت على ضحاياه. وبكيت لما شاهدت في فيديو صومعة الكتبية في المسجد الموحدي القديم تترنح يميناً وشمالاً. ليلة رهيبة. تذكرت الآية "وترى الناس سكارى وما هم بسكارى". ليلة جعلتني أتامل في وجود الإنسان الذي يعيش على حافة الخطر، وأنشدت في خاطري "إنما الناس سطور كتبت لكن بماء". هناك هشاشة في الوجود، يمكن أن يطوى في أي لحظة ومن دون إنذار. إذا كانت الكوارث في ظاهرها نقمة، فيبدو أنها تنطوي على شيء قد يعود بالإيجاب. أعجبني تضامن الشعب، والجوهر النقي للنفوس التي هبت للإنقاذ والمساعدة، وهذا أمر إيجابي أن يهب الإنسان لإنقاذ الإنسان. وخلاصة القول ها نحن في ظرف وجيز عشنا كارثتين، إحداهما ألزمتنا البيوت وأخرى أخرجتنا منها، فبين الحجر والهجر ستتغير نظرتنا إلى الوجود والعالم والعلاقات الاجتماعية واستخلاص دروس حقيقية من هذه العلامات القاسية".
الشمال الناجي يتضامن مع الجنوب المنكوب
يقيم الناقد السينمائي عبد الكريم واكريم في طنجة، شمال المغرب، بعيداً من بؤرة الزلزال، لكنّ شهادته مؤثرة: "أخجل أن أحكي عن تجربتي مع الزلزال أنا الذي كنت بعيداً في منطقة لم يحس أهلها بأي شيء، وتابعوا هول ما وقع من بعد. ففي طنجة وعلى عكس مدن كثيرة، حتى تلك التي كانت بعيدة عن مركز الهزة، لم يقع أي شيء ولم تهتز الأرض ولو قليلاً. ربما نحن في أقصى الشمال أحسسنا بالذنب أكثر من أي شيء آخر، لكوننا لم نذق مع أغلب المغاربة لحظات الرعب وهول الفاجعة".
يواصل واكريم: "كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وبضع دقائق وكنت في مكان تضج فيه الموسيقى وصخب الزبائن، الذين لم يشعروا بالزلزال. كنت وحدي منغمساً في هاتفي النقال لما توالت في صفحتي الفيسبوكية أخبار من عديد المدن المغربية، يصرح أصحابها أنهم شعروا بالأرض تهتز تحت أقدامهم، من مراكش إلى الدار البيضاء والرباط والقنيطرة وبني ملال وخريبكة حتى حدود الشمال في القصر الكبير. شعرت ساعتها بخوف اجتاحني وانتظرت أن تهتز الأرض تحت قدمي أيضاً. علقت على تدوينات بعض الأصدقاء مبدياً قلقي وتعجبي من كون الهزة الأرضية شملت مناطق جد متباعدة، الأمر الذي لم نعهده في المغرب أبداً. بعد وقت قليل توجهت إلى المنزل مستقلاً سيارة أجرة، ووجدت سائقها ملماً بتفاصيل ما وقع قبل قليل، ومتحدثاً معي عنه. في المنزل وأنا أنتقل بين المواقع الإلكترونية وعيت هول المأساة وكنت قلقاً على بعض أهلي الذين يقطنون قرب مركز الزلزال. حاولت الاتصال بهم لكن الهاتف لم يكن يرد. في الصباح حاولت مرات أخرى، وفي آخر المطاف ردوا وحكوا لي هول ما وقع، وكف مادت الأرض بهم وكيف شلوا حتى عن الوقوف على أرجلهم، وكيف أن دواراً قريباً منهم أبيد عن آخره".
لم يكن الزلزال قوياً تحت قدمي الشاعرة إيمان الخطابي، فهي تقيم شمال المغرب، بعيداً من بؤرة الزلزال، لكنها أحسّت بالرجة: "مساء الجمعة، حوالى الحادية عشرة ليلاً وبضع دقائق، كنت أستلقي مرهقة فوق الأريكة، زوجي منشغل برقن مادة حول آسين بالاسيوس. لوهلة أحسست أني أموج مثل مركب على صفحة ماء، دوار خفيف وأرجحة. نظرت حولي أتحقق مما إذا كان سلك اللابتوب المثبت في مقبس إلى جواري، هو السبب في شعوري بعدم الثبات، افترضت أن تحريك السلك هو ما تسبب لي في هذا الشعور. كان عقلي يحاول أن يضللني ويخلق مبررات لوضع مقلق ومخيف. لكن الحقيقة سرعان ما كشفت نفسها متجردة من أي لبس أو عاطفة؛ أرفع عيني إلى السقف وأرى الثريا تترنح فوق رأسي مثل بندول عملاق. هزة أرضية لا شك، ابني خارج البيت يجلب أغراضاً من المتجر المجاور، أسمع صوت المصعد يقترب من الوصول ويرتجف قلبي من الخوف. قد يتوقف المصعد وهو داخله، قد يتعطل، قد تصعد الأرض من وتيرة ارتجافها. يا للعجز والضآلة وانعدام الحيلة. يفتح باب البيت ويبدو واضحاً أن معتز لم يشعر بشيء وهو في الخارج. أوزع نظري بينه وبين السقف المترنح خشية أن يهوي فوق رؤوسنا. لم أتحرك، سوى أن لساني كان يلهج بالدعاء من دون توقف".
تضيف صاحبة "حمّالة الجسد": "مرت الهزة بلا خسائر مادية هنا في تطوان، لكن الدمار الذي لحق بالجنوب، والصور المرعبة التي طالعتنا على مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات الأخبار، كانت كابوساً حقيقياً هز المغاربة والعالم. قضينا ليلة بيضاء أنا وأسرتي، اخترنا أن نبيت في بيتنا المعلق في الطابق السابع، فلا إغاثة ممكنة، ولا باب خلفياً لحالة طوارئ متوقعة، بناية من بنايات المدن الحديثة التي تذخر مساحة أوفر لجشع المستثمرين والسماسرة. يبدو أن لا أمان لأرض وسقف؛ وجود هش ومقلق. مات كثيرون أمام أنظارنا في غمضة عين، تكسرت بيوتهم فوق رؤوسهم مثل جرار من طين. لكن يبدو أن أرواحهم الطيبة حشدت بعد رحيلهم طاقة هائلة من الحب والبذل. فمشاهد التآزر والتراحم بين المغاربة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب درس بالغ الإنسانية والنبل. مالت الأرض هناك، وأردنا أن نعدلها هنا بثقل المحبة والعطاء. لم ننتظر بادرة من حكومة ولا قراراً من سياسي. ارتمينا بقلوبنا العارية وأيادينا البيضاء لنجبر الضرر. غمرني شعور عال بالعزة والفخر وأنا أشاهد وأشارك في رأب صدع هذا الوطن".