Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روايتان تتناولان الحرب السورية بحوافزها وآثارها

"قمصان زكريا" لمنذر بدر حلوم  و"الغابة السوداء" لمازن عرفة تقاربان المأساة واقعيا وغرائبيا

لوحة للرسام السوري محمد شبيني (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"قمصان زكريا" لمنذر بدر حلوم و"الغابة السوداء" لمازن عرفة تقاربان المأساة واقعيا وغرائبيا

لا تزال الحرب السورية منذ اندلاعها في العام 2011، تنوء بثقلها على المشهد الأدبي لا سيّما في نوعه الروائي، فتصدر روايات بين حين وآخر، ترصد تلك الحرب بدءًا من إرهاصاتها الأولى، مروراً بوقائعها القاسية، وانتهاءً بنتائجها المدمّرة. ولعل احدث ما صدر، في هذا الإطار، رواية "قمصان زكريا" للكاتب السوري المقيم في روسيا منذر بدر حلوم الصادرة عن "دار ميسلون" في تركيا، ورواية "الغابة السوداء" للكاتب السوري المقيم في ألمانيا مازن عرفه الصادرة عن منشورات رامينا في لندن. على أنّ ثمة ما يجمع بين الروايتين، من جهة، وثمة ما يفرّق بينهما، من جهة ثانية. أمّا ما يجمع بينهما فهو صدورهما في الخارج، ووجود كاتبيهما خارج سورية، والمنظور الروائي المعارض للنظام القائم. وأمّا ما يفرّق بينهما فهو أن الأولى تتناول الإرهاصات التي أدّت إلى اندلاع الثورة التي تحوّلت إلى حرب بفعل تدخلات داخلية وخارجية، والثانية تتناول النتائج المدمّرة لهذه الحرب وآثارها المتمادية على الضحايا، وأنهما تتفاوتان في الحجم، وأنهما تختلفان في الحكاية والخطاب والعالم المرجعي الذي تحيلان إليه، وهو ما يمكن استنتاجه من خلال هذه القراءة. 

 تتجاور في "قمصان زكريا"، الواقعية والسحرية، تتعاقبان وتتداخلان. وينتظم الأحداث سلكان اثنان؛ أحدهما واقعي تتمحور شخصياته حول المعالج النفسي الدكتور زيدون، والآخر سحري غرائبي تتمحور شخصياته حول الباحث الاجتماعي زكريا المؤمن بالتقمّص الذي يسترجع ذكرياته من قمصانه السابقة ويضرب الأدلّة على صحّتها. على أن زيدون وزكريا صديقان، يجمع بينهما التعاطف مع الفقراء ورفض الظلم ومعارضة النظام الأمني والتصدّي لأدواته بالإمكانات المتاحة، ومن ضمنها الموت. وتحفّ بهما مجموعة كبيرة من الشخصيات المتعالقة معهما أو مع أحدهما، بطريقة أو بأخرى، على أنّ القاسم المشترك بين معظمها هو أنّها من ضحايا النظام الحاكم، ومن معارضيه، ومن المتصدّين له بعد مفارقة الحياة. وعليه، فإن الأسئلة التي يطرحها حلوم، في روايته، تتناول الاستبداد، الفقر، الفساد، التقمّص، الحياة، الموت وغيرها.

 في السلك الواقعي، نقع على مجموعة كبيرة من الوقائع التي يصطنعها "عوف" ورجاله بحقّ من أحسن إليه، أو تفوّق عليه، أو اشتبه بمعارضته إياه، أو تفوّه بكلمة ساخرة منه، أو أقدم على سلوك مخالف له، أو حلم بالخبز والحرية. وهي وقائع يتوخّون في اصطناعها أساليب قذرة، تتقنها أدوات الأنظمة الشمولية المستبدّة للإيقاع بضحاياها، من قبيل دسّ المخدّرات، تلفيق التّهم، افتعال الفضائح، الابتزاز، تشويه السمعة، إشاعة الأخبار الكاذبة، استخدام المخبرين، مما يؤدي إلى إخفاء الضحية أو قتلها أو تحطيمها أو إقصائها أو ابتعادها عن الأضواء.

وفي هذا السياق، نقع في هذا السلك على الوقائع الآتية: موت سلافة الطالبة الجامعية بعد التحقيق معها لدى جهاز الأمن في الجامعة، إقصاء الدكتور زيدون عن الجامعة لتفتيح أعين طلّابه على الحرية، إجبار الطالبة رويدة على التجسّس على أستاذها والانخراط في علاقة حميمة مع مُجبرها، حرمان الطالبة بشرى من حقّها في مناقشة رسالتها الجامعية، إقصاء الدكتور اليافي عن الجامعة للاشتباه بخلفية سؤال طرحه على الطالبة، إخفاء عائلة الحاج حسين ذات الفضل على "عوف" شخصياًّ تباعاً، اعتقال أستاذ الموسيقى عبود ونزع أظافر قدميه، نقل مهندس السد علاّم إلى مصلحة التبغ والتنباك لإبدائه ملاحظات على عملية البناء، انهيار السد وتسبّبه في غرق حي الجورة وموت العشرات، مقتل التلميذ الضابط يونس في ظروف غامضة، موت المجند نور الدين بسادية ضابط أرعن، اختفاء المئات وموتهم في حروب عوف ومعتقلاته، وغيرها.

هذه الوقائع تندرج في المتن الروائي من خلال الاسترجاع والاستقدام والتزامن والتداعي والسرد والحوار وسواها من تقنيات السرد الروائي. على أنّنا نجد بين الضحايا من يتصدّى للقمع بما ملكت يمينه، ويقاوم الأدوات القامعة، بطريقة إيجابية أو سلبية. وفي هذا السياق، يقوم أسامة الشاب الرافض ممارسات أبيه المخبر عزام بحق قصر الأب وبستانه ويتدبّر أمر خروجه من البلاد خلسة، وتقوم رويدة ببتر عضو رجل الأمن العرنوس الذي أجبرها على التجسّس وممارسة الجنس معه، ويقوم سمير بكسر أنف الضابط الذي أهان أخاه وتحطيم أسنانه، وتقوم بشرى وغزوان بمغادرة البلاد تحت جنح الظلام. غير أن هذه المحاولات تبقى في الإطار الفردي ولا ترقى إلى محاولة تحرير البلاد من المستبد وزبانيته، وهو ما يتحقق في السلك السحري، ولو بطريقة عرائبية.

وقائع غرائبية    

في السلك السحري الذي يتمحور حول شخصية زكريا، العابر للقمصان والمتنقل بين الموت والحياة، نقع على مجموعة من الوقائع الغرائبية التي تحيل على عالم مرجعي تختلط فيه الحقيقة بالخرافة، والواقع بالخيال، والحياة بالموت، والإنس بالجن. ويتكرّس في ظل أنظمة الاستبداد القمعية. ومن هذه الوقائع، على سبيل المثال، مشاركة الجن في الأحداث، عودة الموتى إلى الحياة بالتقمّص في أجساد جديدة أو بالتجرّد أرواحاً ترى ولا تُرى، وتؤثر في الأحياء من دون أن تتأثر بهم، وهذا ما يجعل الموتى اقوى من الأحياء، لا يخشون من عوف وأدواته القمعية، ولا يتورّعون عن التعبير عن آرائهم بحرية، ولا يتورّعون عن معاقبة الظالمين والانتقام منهم. ولذلك، ينجحون حيث يفشل الأحياء في السلك الواقعي، ويتمكنون في نهاية الرواية من نزع الرتب العالية عن أكتاف الضباط، ومن إسقاط عوف من القمر والتحرّر منه. وهنا، تبرز أهمية التقمّص باعتباره آلية دفاع ضد الظلم، فزكريا الذي ينظم ثورة الموتى بالتعاون مع موتى آخرين يتمكن من تحقيق ما عجز عنه زيدون وسواه من الأحياء، وهو الشاهد على الأحداث والمؤثر فيها، على مدى ثلاثة قمصان، لا سيّما في قميص اسماعيل الذي يشهد على انهيار السد وضحاياه، وقميص زكريا الذي يشهد على سقوط القمع وأدواته. هذه الوقائع الغرائبية تندرج في المتن الروائي في تقنيات السرد المختلفة، وتنتظمها علاقات طبيعية يتم فيها الانتقال من واقعة إلى أخرى بسلاسة ويسر.

 أمّا في رواية "الغابة السوداء" لمازن عرفه فتتمحور الأحداث  حول شخصية الراوي الذي يعهد إليه الروائي بمهمة الروي، لكنه يبخل عليه باسم عَلَم، فنعلم من خلال الروي أنه هارب من أجهزة الإستخبارات في بلده، إثر علمه بقرار القبض عليه، تاركاً شقته الكبيرة وأسرته في بلدته داريا، ليجد نفسه مريضاً نفسياًّ في منتجع صحّي، قرب بلدة بفورتسهايم الألمانية. غير أن الكاتب لا يبيّن كيف وصل الراوي إلى هذا المكان، مما يشكّل فجوة كيبرة في مجرى الأحداث كان الأحرى به ردمها. أمّا كيف آلت حاله إلى ما هو عليه ممّا يشخّصه الطبيب المعالج بـ"اضطراب ما بعد الصدمة"، فلعلّه ناجم عن اختفاء أسرته، وانهيار شقته، واختفاء مكتبته، واحتراق مذكّراته، وسقوط القذائف على مقربة منه، ممّا يرويه في سياق الروي. وهو ما يؤدي إلى ضعف قدرته على التذكّر وإصابته بالشواش الذي يلازمه على شكل أصوات مجنونة وصرخات يائسة ونداءات مبهمة، تطلع من داخله، من جهة، وتتناهى إليه من تل الأنقاض في وولبيرغ المجاور للمنتجع، من جهة ثانية، وتتحول إلى هلوسات وكوابيس.

وحدة الحروب والضحايا

إزاء هذه الحالة المرضية، ينصحه الطبيب بمواجهة الأصوات للشفاء منها، ويوصيه بالاسترخاء والهدوء. فيحاول هو مواجهة المصدر الداخلي للأصوات، وتساعده الروائية ليليان العاملة في مساعدة اللاجئين على الاندماج في مواجهة المصدر الخارجي لها، من خلال تسلّقهما تل الأنقاض الصناعي، ذلك المكوّن من أنقاض بفورتسهايم وأشلاء أهلها بعد تدميرها، خلال الحرب العالمية الثانية. وكأنّي بالكاتب يقول بوحدة الأثر الذي تخلّفه الحروب حول العالم، بغضّ النظر عن مكان حدوثها، من جهة، ويقول بوحدة الضحايا الناجمة عنها، من جهة ثانية. وهو ما يعبّر عنه على لسان الراوي بالقول: " لم أعد أشاهد حركة السيارات العابرة في الاتجاهين، إنما أنقاض مدينتي غرنيكا وبفورتسهايم. ومن خلفهما تمتد أنقاض بلدتي داريا، وبقية المدن السورية، وإلى جانبها المدن الأوكرانية المدمّرة حديثاً" (ص 22).  فالراوي السوري الذي تطلع من داخله  أصوات ضحايا بلدته داريا وبلاده سوريا، تترامى إليه أصوات ضحايا بفورتسهايم الألمانية من التل المجاور للمنتجع. وبذلك، يكون تسلّق التل مع الروائية ليليان نوعاً من المواجهة للأحداث، لعلها تفضي به إلى الشفاء، في نهاية الأمر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن للروائي مشيئة أخرى، وللأحداث مجرى آخر. فهو، ما إن يبدو أنه يتماثل للشفاء ويغادر المنتجع، حتى تهاجمه الكوابيس، على أنواعها، المختلفة باختلاف الأماكن التي يتواجد فيها. ففي الغابة، يرى خيالات شبحية، وأشجاراً عملاقة، ووجوهاً مجعّدة على الجذوع، وعيوناً نارية، وجثثاً متحرّكة. وفي الشقّة، يرى النباتات تغطّي الجدران والسقف، والشخصيات تتحرك داخل الصور وهو يتحرك معها، وتمثالين حجريين يمارسان الجنس الحجري، وامرأة خنثى تسقط من غمامة. وفي السيارة العجيبة، تتحول ألفريدا إلى فرس، ومن ثم إلى سمكة. وفي الحي، يرى بنات يحملن الاسم نفسه والملامح ذاتها ويزعمن أنهن بناته، ونساء يتشابهن زاعمات أنهن صديقاته، ورجالاً نسخاً بعضهم عن بعض على شرفات البيوت زاعمين أنهم جيرانه.  ويكون آخر الكوابيس في بلاده حين تطلّ نسخ كثيرة منه على البلدات السورية من علٍ، ليجد أنّها قد فرغت من سكانها، وليطرح سؤاله الاتهامي الذي تُختتم به الرواية: "من فرّغ البلاد من أناسها؟ فراغ، خواء، لازمان ولامكان... عدم" (ص203)، مما يشكّل مضبطة اتهام للنظام الحاكم. فهل يُعتبَر سؤاله بداية جديدة يتحرر فيها من الغابة السوداء إلى الغابة المنيرة على حد تعبير؟ ذلك ما نقرأه ما وراء السطور. 

علاقات عابرة

 ليست الأحداث وحدها هي التي تتمحور حول شخصية الراوي في الغابة السوداء. بل إن الشخصيات الروائية تتمحور حوله أيضاً، وتتعالق معه في علاقات قصيرة عابرة، وهي نادراً ما تنخرط في علاقات في ما بينها، مما يجعل وجودها الروائي مرهوناً بوجود الشخصية المحورية؛ وفي هذا السياق، نشير إلى أن علاقته بالقاضي العقاري بيتر تقتصر على الفترة التي ينجز فيها الأخير المهمة المكلّف بها، حتى إذا ما أنجزها ينقطع التواصل بينهما. وأن العلاقة بالروائية ليليان تتناول تعريفه إلى تاريخ المدينة وحركتها الثقافية، ودعوته إلى عشاء منزلي، واصطجابه في زيارة التل. وأن علاقته بالروائية أندريا المهووسة بالغرائبية الشرقية تنتهي حين لا يستجيب لرغبتها في ممارسة الجنس في مكان عام رغم استجابتها لتحرّشه  بها. وأن العلاقة بالروائية الأخرى كورينا تنقطع حين ترفض تحرّشه بها وتعدّيه على حريتها الشخصية وحقّها في أن تكون لاجنسية. وأن العلاقة بمواطنته علياء الأستاذة الجامعية المتديّنة اللاجئة بدورها إلى ألمانيا، تقتصر على زيارة تقوم بها مع ابنها إليه. أمّا العلاقة الأطول في هذه الشبكة العلائقية فهي تلك التي تربطه مع الثنائي الغرائبي مارك وألفريدا، تلك التي تبدأ لأسباب دينية تبشيرية، وتستمر بحكم الحاجة المتبادلة، وتتخلّلها سلوكيات غرائبية تصدر عن ألفريدا، وتنتهي بعودة الراوي الكابوسية إلى بلاده. ولعل هذا النوع من العلاقات العابرة ينسجم مع كون الطرف الثابت فيها لاجئاً ومريضاً نفسياًّ، وكون الأطراف الأخرى، باستثناء علياء، تنتمي إلى بيئة اجتماعية غربية لا تقيم وزناً للتواصل الاجتماعي الدائم، وهو ما ينطبق على جيران الراوي في شقة اللجوء أيضاً.

أسئلة الرواية

من خلال هذه الأحداث والشخصيات، يطرح مازن عرفه في روايته أسئلة الحرب واللجوء والعلاقة بين الشمال والجنوب والعنصرية الغربية والمثلية الجنسية وسواها من الأسئلة المطروحة في اللحظة الروائية الراهنة. وهو من خلال طرحها، يرفض الحرب، وينحاز إلى الضحايا، ويحمّل النظام الحاكم مسؤولية تفريغ المدن والبلدات من أهلها، ويراهن على بدايات جديدة، مما لا يجعل روايته مجرّد شهادة أدبية على مرحلة سوداء بل نافدة مفتوحة على أخضر سيأتي ذات يوم، وبذلك، يكون في صلب رسالة الأدب.

هكذا، نكون إزاء روايتين سوريتين تغطيان مرحلتين مختلفتين، مرهصة بها وناجمة عنها، وتعلنان الانحياز التام إلى الضحايا ضد الجلادين، وتراهنان على مستقبل أفضل، فهل تربحان الرهان؟    

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة