ملخص
يبدو أن الساحة السياسية الأميركية أصبحت مؤهلة لمزيد من الاشتعال قبل نحو عام على موعد الانتخابات الرئاسية
مع إعلان الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي عن بدء تحقيق رسمي يرمي إلى عزل الرئيس جو بايدن من منصبه على خلفية ادعاءات بإساءة استخدام السلطة وإعاقة العدالة والفساد على اعتبار أنه كان على علم بتصرفات نجله هانتر عندما كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، يبرز التساؤل عن الهدف من إجراءات المساءلة والعزل في الدستور الأميركي، ومغزى أن تقتصر المساءلة على مجلس النواب الذي يقوم بدور الادعاء قبل الانتقال لإجراءات المحاكمة في مجلس الشيوخ الذي يكون بمثابة المحكمة، ولماذا لم تكن محاكمة الرئيس في المحكمة العليا الأميركية؟ وهل المساءلة التي قد تؤدي للعزل أفضل للرئيس والوطن أم لا؟
ساحة مشتعلة
يبدو أن الساحة السياسية الأميركية أصبحت مؤهلة لمزيد من الاشتعال قبل نحو عام على موعد الانتخابات الرئاسية، حيث بدأ الجمهوريون في مجلس النواب إجراءات ترمي إلى عزل الرئيس الديمقراطي بايدن على خلفية تعاملات لنجله هانتر. وأعلن رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي أنه سيكلف ثلاث لجان هي لجنة الرقابة، واللجنة القضائية، ولجنة الطرق والوسائل بإجراء تحقيق مع الرئيس وعائلته سعياً للحصول على أدلة على ارتكاب مخالفات مالية أو فساد، ما سيسمح لمحققي مجلس النواب بإصدار مذكرات استدعاء للسجلات المصرفية للرئيس بايدن وأفراد عائلته.
وفيما كشف مكارثي عن وجود مزاعم ذات مصداقية بحوزة الجمهوريين ترسم صورة لثقافة الفساد واتهم الرئيس بايدن بالكذب بشأن معرفته بالمعاملات التجارية لنجله، كما أثار تساؤلات حول الملايين التي كسبها الأخير وأفراد الأسرة الآخرون من الشركات الأجنبية، يصر البيت الأبيض على اعتبار تحقيق المساءلة بأنه ذو دوافع سياسية، بينما يقول بعض الديمقراطيين في الكونغرس إن التحقيقات التي قادها الجمهوريون على مدى أشهر لم تظهر بعد دليلاً موثوقاً على أن الرئيس متورط في أي نشاط غير قانوني وأن سجلات هانتر بايدن لم تظهر حتى الآن أي مدفوعات أجنبية لوالده أو أي دليل آخر على ارتكاب مخالفات بما يستوجب المضي قدماً في إجراءات عزل الرئيس وفقاً للدستور الأميركي الذي يجيز ذلك في حالات الخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم الكبرى والجنح.
المغزى من عزل الرئيس
وعلى رغم أنه من الممكن إساءة استخدام التحقيقات المتعلقة بعزل الرئيس، كما يدعي الديمقراطيون، الذين يعتبرون خطوة الجمهوريين "حيلة سياسية" تستهدف الانتقام من محاولتي عزل الرئيس السابق دونالد ترمب في عامي 2019 و2021، إلا أن الذين يشعرون بالقلق إزاء تصرفات مكارثي بصفة خاصة والجمهوريين بصفة عامة، ينبغي لهم أن يفكروا في الكلمات التي قيلت في المؤتمر الدستوري، عندما أوضح الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في نهاية القرن الثامن عشر أن المقصود من عزل الرئيس هو تحقيق العديد من الأغراض المهمة، وليس فقط عزل الرئيس من منصبه.
ووفقاً لأوراق الدستور الأميركي، فقد جرت مناقشة حاسمة في 20 يوليو (تموز) عام 1787، أدت إلى إضافة بند المساءلة والعزل للرئيس إلى دستور الولايات المتحدة، وخلال المناقشات قال بنجامين فرانكلين، الذي كان أقدم المندوبين في المؤتمر وربما أكثرهم حكمة، إنه عندما يقع الرئيس تحت الشك، تكون هناك حاجة إلى تحقيق منتظم وسلمي.
وبحسب أستاذ القانون والأخلاق بجامعة ولاية جورجيا، كلارك كننغهام، فإن التصريحات التي تم الإدلاء بها في المؤتمر الدستوري توضح أن المؤسسين نظروا إلى المساءلة باعتبارها ممارسة منتظمة لها ثلاثة أغراض، أولها تذكير الأمة الأميركية والرئيس بأنه ليس فوق القانون، والثاني هو أن تكون المساءلة والعزل رادعة لإساءة استخدام السلطة، أما الغرض الثالث فهو توفير طريقة عادلة وموثوقة لإزالة الشكوك حول سوء السلوك.
كما اتفق المندوبون في المؤتمر الدستوري مع تأكيد جورج ماسون الذي كان يمثل ولاية فرجينيا، على أنه ليست هناك نقطة أكثر أهمية من الحق في توجيه الاتهام لأن لا أحد فوق العدالة.
الحاجة للردع
كان أحد أكبر مخاوف الآباء المؤسسين للولايات المتحدة هو أن الرئيس قد يسيء استخدام سلطته ومن ثم فإنه كان يُنظر إلى العزل باعتباره أداة ردع مهمة، فقد وصف جورج ميسون الرئيس بأنه "الرجل الذي يمكنه ارتكاب أكبر قدر من الظلم". كما اعتقد جيمس ماديسون الذي أصبح هو نفسه رئيساً بعد ذلك، أن "الرئيس قد ينحرف مع إدارته ويدفعها إلى مخطط لسرقة الأموال العامة أو القمع أو خيانة الثقة الممنوحة له لمصلحة قوى أجنبية"، في حين اعتبر إدموند راندولف، حاكم ولاية فرجينيا، أن "الرئيس ستتاح له فرص كبيرة لإساءة استخدام سلطته، بخاصة في زمن الحرب عندما تكون القوة العسكرية، وبعض مجالات إنفاق الأموال العامة في يده".
ووفقاً للأوراق الرسمية المنشورة على موقع مكتبة الكونغرس الأميركي، فإن موريس وهو حاكم ولاية بنسلفانيا في ذلك الوقت، كان يشعر بالقلق من أن الرئيس قد تتم رشوته من طرف ما لتحقيق مصلحة أكبر بالنسبة له لكي يخون الثقة الممنوحة له، ولهذا السبب لا يجب أن تعرّض الولايات المتحدة نفسها لرؤية رئيس يتقاضى أجراً من طرف أجنبي، بينما قال جيمس ماديسون، إنه "في حالة الرئيس، فإن الفساد يعد ضمن بوصلة الأحداث المحتملة، وقد يكون قاتلاً للجمهورية الأميركية".
في الوقت نفسه جادل ويليام ديفي من ولاية كارولينا الشمالية بأن "عزل الرئيس يعتبر ضماناً أساسياً لحسن سلوك الرئيس، وإلا فإنه لن يدخر أي جهد أو أي وسيلة من أجل إعادة انتخابه، في حين أشار إلبريدج جيري من ولاية ماساتشوستس إلى أن "الرئيس الجيد لن يقلق بشأن عزله، لكن الرئيس السيئ لا بد أن يظل في حالة خوف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لماذا الكونغرس وليس المحاكم؟
حتى الأسبوع الأخير من النقاشات داخل "المؤتمر الدستوري"، كانت لا تزال خطة الآباء المؤسسين للولايات المتحدة هي أن تبدأ عملية عزل الرئيس في مجلس النواب وتنتهي بالمحاكمة أمام المحكمة العليا الأميركية، لكن حين وصل النقاش إلى يوم 8 سبتمبر (أيلول) 1787، صوت المؤتمر الدستوري على منح مجلس الشيوخ سلطة إجراء محاكمات الإقالة والعزل وليس المحكمة العليا الأميركية، وهذا دليل واضح على أن المؤتمر أراد في البداية أن يجمع مجلس النواب بين سلطة إجراء تحقيق المساءلة مع السلطة المتمثلة في المحاكمة.
وعلى رغم نقل المحاكمة بشأن الاتهامات من المحكمة العليا إلى مجلس الشيوخ، إلا أن مجلس النواب لا يزال بإمكانه الاستفادة من إجراءات المحكمة لإنجاز تحقيق فعال، بخاصة إذا كان يريد الحصول على معلومات من أشخاص غير متعاونين وهو ما يشير إليه الجمهوريون بعدم تعاون إدارة بايدن في البيت الأبيض، وهو ما تكرر أيضاً حينما رفضت إدارة ترمب تسليم الوثائق ومنعت المسؤولين من الإدلاء بشهادتهم أمام الكونغرس في تحقيق المساءلتين للرئيس ترمب في عامي 2019 و2021.
غير أن هناك العديد من الأسباب التي دفعت واضعي الدستور إلى جعل المحكمة العليا ليست طرفاً في الحكم المتعلق بعزل الرئيس وفقاً لموقع "ناشيونال انترست"، إذ يوضح الدستور أن الاتهام ليس محاكمة جنائية، وينص على أنه لا يجوز أن يمتد الحكم في قضايا العزل إلى أبعد من العزل من المنصب.
كما تنص المادة الثالثة من الدستور على أن محاكمة جميع الجرائم، باستثناء قضايا الإقالة أو العزل، تتم أمام هيئة محلفين، وذلك لأسباب وجيهة، وهي أنه في المحاكمة العادية، يقتصر دور هيئة المحلفين عموماً على تقصي الحقائق، بينما يحدد القاضي نطاق القانون وتطبيقه، ولكن في محاكمة الإقالة، يتمتع مجلس الشيوخ نفسه بـ "السلطة الوحيدة" للبت في كل قضية.
وكان المبدأ القائل بأن أعضاء مجلس الشيوخ ليسوا محلفين بالمعنى التقليدي، راسخاً في بداية محاكمة عزل الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1999 حين حكم ويليام رينكويست، الذي كان يرأس المحاكمة بصفته رئيس المحكمة العليا آنذاك، بأن مجلس الشيوخ ليس مجرد هيئة محلفين وإنما المحكمة في هذه القضية، ولموازنة المحاكمة، أطلق رينكويست على أعضاء مجلس الشيوخ اسم "المحاكمين بالقانون والواقع".
وعلى حد تعبير المحكمة العليا في الولايات المتحدة، فإن عملية المساءلة التي يمكن أن تقود إلى العزل تمثل "مسألة سياسية"، حيث يتم وضع كل السلطة في مجلس الشيوخ وليس في أي مكان آخر، كما أن أحد أبرز الأسباب بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، هي أن شرعية المحكمة العليا يمكن أن تتأثر أيضاً، لأن قضاة المحكمة العليا الذين تم تعيين بعضهم من قبل الرئيس الذي يتم عزله، سيشاركون في العملية، وقد تصبح نزاهة المحكمة واستقلالها موضع شك، الأمر الذي من شأنه أن يسبب أضراراً جسيمة للمحاكم كمؤسسة مع مرور الوقت.
خير للرئيس والوطن
وعلى رغم أن البعض يعتقد أن المساءلة أمر سيئ للرئيس وللبلاد ككل، إلا أن بنجامين فرانكلين أخبر زملاءه المندوبين قصة نزاع وقع أخيراً في الجمهورية الهولندية وسبّب انزعاجاً كبيراً، حيث كان ويليام الخامس وهو أحد القادة الهولنديين (أمير أورانج)، يُشتبه في أنه قام سراً بتخريب تحالف مهم مع فرنسا، بينما لم يكن لدى الهولنديين أي نص دستوري أو قانوني يتيح لهم البدء في عملية عزل، وبالتالي لا توجد وسيلة لإجراء تدقيق وفحص منتظم لهذه الادعاءات. لكن عندما تصاعدت هذه الشكوك، ظهرت أسوأ وأعنف الحروب والنزاعات، وكان المغزى من قصة فرانكلين أنه لو كان الأمير ويليام قابلاً للعزل، لكان قد تم إجراء تحقيق منتظم وسلمي، فإذا كان الأمير مذنباً، فستتم معاقبته بحسب الأصول، وإذا كان بريئاً، فسيستعيد ثقة الجمهور، ولهذا خلص فرانكلين إلى أن المساءلة تعد عملية في مصلحة الرئيس، قائلاً إنها أفضل طريقة لتوفير عقوبة منتظمة للسلطة التنفيذية عندما يستحق سوء سلوك الرئيس ذلك، وتبرئته بشكل مشرف عندما يُتهم ظلماً.
ومع ذلك، لا تبدو الصورة على هذا النحو في العصر الحديث، فعلى رغم تبرئة الرئيس كلينتون في عام 1999، ظلت قضية مونيكا لوينسكي عالقة في أذهان الأميركيين، كما أن تبرئة ترمب من المساءلتين لم تساعده في الفوز بدورة رئاسية ثانية، وإذا تمت مساءلة الرئيس بايدن في مجلس النواب وحصل على البراءة في مجلس الشيوخ، فمن المحتمل بشكل كبير أن تلحق به بعض الضرر في انتخابات 2024، ولن يقلل من الضرر سوى وجود منافس تعرض لمساءلتين وبراءتين وهو دونالد ترمب.