ملخص
يعاني كوكب الأرض بشدة إثر الحرائق الضخمة من خلال انتشار التصحر وانخفاض مستوى المياه وتلوث الهواء والماء والتربة وفقدان ملايين الهكتارات من الغطاء النباتي
يقول جبران خليل جبران:
ليس في الغابات حزنٌ ... لا ولا فيها الهموم
فإذا هب نسيمٌ ... لم تجئ معه السموم
يؤسفني أن أقول لجبران، الذي كان يتمنى أن يتخذ الغاب منزلاً دون القصور، إن النسيم الذي يهب على الغابات في زمننا لا يرحم أخضر ولا يابساً من شره، وكأنه ينطلق من فم تنين هائج، يترك كل من فيها مهموماً حزيناً، هذا إن بقي حياً أساساً.
نشوب النيران في الطبيعة ليس حدثاً نادراً أو جديداً أو كارثياً دائماً، بل قد يكون مفيداً أحياناً لتجديد النظام الإيكولوجي وتحفيز نمو بعض الأنواع، لكن عندما تندلع النار في المناطق الحرجية أو البرية وتصل إلى مساحات كبيرة مغطاة بالأشجار والنباتات وتبلغ درجة لا تمكن السيطرة عليها، تُسمى رسمياً "حرائق الغابات" التي تعد إحدى الكوارث التي باتت أكثر شيوعاً وشدة في عالمنا أخيراً.
كيف تشب النيران في الغابات؟
قد تنجم هذه الحرائق عن عوامل طبيعية مثل البرق أو البراكين والظروف الجوية الجافة والحارة، لكن في الواقع، يعد البشر مسؤولون عن حوالى 85 في المئة من حرائق الغابات في العالم، وتتنوع إسهاماتنا فيها بين الإهمال والتخريب، إما عن طريق الخطأ مثل إلقاء السجائر أو أعواد الثقاب المشتعلة أو استخدام المعدات الحارقة أو إشعال النيران لأغراض ترفيهية كالتخييم والشواء أو كنتيجة للصراعات المسلحة. أو قد يحدث ذلك عمداً لأسباب اقتصادية وسياسية تأخذ أشكالاً متنوعة مثل حرق الزراعة ومحاولات التخلص من الغابات في ما يُعرف بالتحريق المتعمد وإساءة استغلال التربة إذ يتم حرق الأشجار بغية تحويل الأراضي الحرجية إلى مساحات زراعية أو سكنية أو صناعية، لكن الأمور تخرج عن السيطرة.
كذلك يسهم البشر بطريقة غير مباشرة في زيادة أخطار حرائق الغابات من خلال الدور الذي يلعبونه في التغير المناخي، حيث تؤدي زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة في الجو إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وتغيير أنماط هبوب الرياح والأمطار. يجعل هذا شهور الصيف القائظ موسماً لاشتعال حرائق الغابات، بخاصة في المناطق الجافة والحارة. وبدورها تؤثر حرائق الغابات على تغير المناخ بإطلاق مزيد من غاز ثاني أكسيد الكربون والجسيمات في الجو، ما يدخلنا في حلقة مفرغة من التدهور والانهيار.
وتتأثر درجة ضراوة حرائق الغابات بعوامل متنوعة، فكلما كان الوقود النباتي الذي يغذيها أكثر جفافاً وكثافة وتنوعاً زاد احتمال وقوع الحرائق وانتشارها وشدتها. كذلك يؤثر شكل وارتفاع الأرض وانحدارها على سرعة الحرائق واتجاهها، وعادةً ما تنتشر الحرائق بسرعة أكبر على المنحدرات الصاعدة لأن الهواء الساخن يصعد إلى أعلى. وتلعب الأحوال الجوية، من درجة الحرارة والرطوبة والرياح والأمطار دوراً هاماً في نشوب الحرائق وانتهائها، إذ كلما كانت درجة الحرارة أعلى والرطوبة أقل والرياح أقوى، كانت الحرائق أكثر خطورة وصعوبة في السيطرة عليها.
ما خطورة حرائق الغابات؟
إلى جانب تأثير حرائق الغابات على التغير المناخي، فإنها تهدد حياة الإنسان والحيوان والنبات وتعد عاملاً خطراً جداً يتسبب في تدمير الأنظمة البيئية وفقدان التنوع الحيوي والخدمات الإيكولوجية، وتعرض الناس للموت والتشرد وانخفاض جودة الحياة وفقدان مصادر الدخل وخطر الإصابات بالحروق والاختناق والتسمم والعدوى والأمراض التنفسية وزيادة التوتر النفسي، إلى جانب خسارة الممتلكات والموارد الاقتصادية والثقافية والتاريخية، مثل الأخشاب والمحاصيل والآثار. وتُعد حرائق غابات بيشوارغاره في سلسلة جبال الهمالايا الهندية التي اندلعت عام 1905 من أقدم الحرائق المسجلة وأودت بحياة ما يقارب 4000 شخص.
وفي الألفية الحالية، تم تسجيل أكبر عدد من الوفيات الناجمة عن حرائق الغابات، وصل إلى 173 شخصاً، في حرائق غابات فيكتوريا السوداء في أستراليا عام 2009 في ما بات يعرف بـ "سبت الجحيم" الذي أسفر عن تعرض أكثر من 400 شخص لإصابات مختلفة ودمار أكثر من 2000 منزل وحرق مساحة تزيد على 450 ألف هكتار.
وتعتبر حرائق غابات إندونيسيا في عام 1997 أكبر كارثة ناجمة عن التحريق المتعمد للأراضي الزراعية والغابات، وأطلقت سحابة من الدخان والضباب غطت جنوب شرقي آسيا وتسببت في وفاة ما بين 240 إلى 8000 شخص بسبب مشكلات التنفس والأمراض المرتبطة بها.
وأدت حرائق غابات الأمازون في عام 2019 إلى تدمير بعض المواقع الثقافية والتاريخية للسكان الأصليين في أميركا الجنوبية وخسارة بعض المعارف والتقاليد واللغات التي تنتقل بين الأجيال من خلال التواصل مع الطبيعة.
وفي عام 2020 دمرت النيران التي طاولت غابات كاليفورنيا بعض المناظر الطبيعية الشهيرة في الولاية، مثل حديقة يوسمايت الوطنية، التي تضم شلالات وصخوراً عملاقة، إلى جانب تهديد بعض المواقع التاريخية والأثرية، مثل قرية أهواني التي تعود إلى قبيلة مايوك من السكان الأصليين.
وبين عامي 2019 و2020 التهمت الحرائق بعض المواقع الثقافية والتاريخية للسكان الأصليين في أستراليا، مثل موقع بودغيري في جزيرة كانغارو الذي يحتوي على رسومات صخرية تروي قصصاً عن خلق العالم. وكذلك اختفت بعض الموروثات الحية، مثل فن صناعة المظلات من أوراق الشجر.
وعادةً ما تكون الحيوانات أكبر الضحايا في مثل هذه الكوارث، حيث تواجه التشرد والهجرة والموت بالملايين وانقطاع السلاسل الغذائية وزيادة التنافس عليها وانحسار التكاثر وبالتالي الانقراض.
في عام 1936 تسببت حرائق غابات تاسمانيا بالقضاء على آخر فصيلة من حيوان الذئب التسماني أو الثايلسين، وهو كائن مفترس جرابي يشبه الكلب في شكله والدب في سلوكه، وانقراضه بالكامل.
ويمثل الكنغر، أكثر الحيوانات المتضررة نتيجة الحرائق التي شهدتها غابات البلاد في الفترة بين عامي 2019 و2020 حيث نفق ونزح حوالى 143 مليون حيوان كنغر، أي تقريباً النصف، وتستمر هذه الثدييات في دفع الثمن بسبب تأثر جودة تغذيتها وقدرتها على التكاثر ما سيؤدي إلى مزيد من الانخفاض في أعدادها في المستقبل. وفي الفترة عينها، تسببت الحرائق في نفوق أو نزوح نحو 60 ألف كوالا، أي قرابة ثلث العدد الإجمالي لهذه الكائنات التي تعرضت للجوع وتهديد الحيوانات المفترسة بعدما دمرت الحرائق موائلها الطبيعية.
كذلك تتعرض الأنواع النباتية إلى التدمير أو التشوه أو تغير خصائصها وانخفاض التلقيح وزيادة احتمالية انتشار الأمراض أو الآفات. كما أن كوكب الأرض يعاني بشدة إثر الحرائق الضخمة من خلال انتشار التصحر وانخفاض مستوى المياه وتلوث الهواء والماء والتربة وفقدان ملايين الهكتارات من الغطاء النباتي، وانخفاض مخزون الكربون في التربة وبالتالي تدهور جودتها وزيادة خطر حدوث انهيارات أرضية وفيضانات واختلال الأنظمة البيئية المتمثل في تغير تركيب أو توزيع مكوناتها أو التفاعل في ما بينها ونقصان قدرتها على تقديم خدمات بيئية مثل تنظيم الماء أو تثبيت التربة أو إزالة ثاني أكسيد الكربون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل كل الغابات عرضة للحرائق؟
وتُعتبر بعض الغابات أكثر عرضةً من غيرها للحرائق الضخمة، مثل غابات الأمازون في أميركا الجنوبية التي تشهد حرائق غير مسبوقة منذ عشر سنوات، نتيجة النشاط البشري في قطع الأشجار وتحويل الأراضي للزراعة أو الرعي، وكذلك بسبب التغير المناخي الذي يجعل الغابات أكثر جفافاً وحساسية للبرق والرياح.
وتُعتبر غابات كاليفورنيا وولايات الغرب الأميركية ميالة أيضاً لأن تكون فريسة لألسنة اللهب وتواجه نتائج مدمرة كل عام، بخاصة في موسم الجفاف الذي يشهد ارتفاعاً في درجة حرارة الهواء وانخفاضاً في مستوى المياه، وتعززه التضاريس الوعرة. كما أن سياسة إدارة الغابات التي تحد من إزالة الوقود النباتي المتراكم تصب مزيداً من النار في الهشيم. بدورها تتأثر غابات أستراليا بالحرائق في فصل الصيف عادةً بسبب انخفاض معدلات الأمطار وارتفاع معدلات التبخر، كما أن بعض الظواهر الجوية مثل التيار المداري المتحول "إل نينيو" تؤدي إلى تفاقم حالة الجفاف والحرارة المرتفعة.
في عام 2003 شهدت غابات "التايغا" في سيبيريا أكبر حريق غابات مسجل في التاريخ، إذ التهم مساحة تُقدر بـ 18.6 مليون هكتار، وهو ما يعادل حجم بلجيكا والدنمارك وسويسرا مجتمعةً. وقد نشب الحريق بسبب الجفاف والبرق والإهمال البشري، وأطلق كميات هائلة من غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو، فاقمت مشكلة ثقب الأوزون.
كيف تتم الاستجابة لحرائق الغابات؟
في حين أن الوقاية خير من آلاف الهكتارات المتفحمة، إلا أنه ينبغي على الحكومات اتخاذ مجموعة من التدابير للتعامل مع هذه الكوارث عند وقوعها تتمثل في إخماد الحرائق بأسرع ما يمكن باستخدام الموارد المتاحة، مثل الماء والطائرات والآليات، وإنقاذ الأشخاص والحيوانات المحاصرين أو المصابين، وفرض حظر أو قيود على حركة السير أو التجول في المناطق المتضررة. وفي أعقاب السيطرة على ألسنة اللهب بالكامل تبدأ مرحلة إعادة تأهيل الأشخاص والمجتمعات المتضررة من الحرائق، وتقديم المساعدات الإنسانية والمالية لهم، وإعادة زراعة الغابات وتجديد الأنظمة البيئية، وتقييم الخسائر والأضرار والدروس المستفادة، ولعل أهمها هو محاولة تجنب وقوع هذه الكوارث في المقام الأول من خلال تطبيق سياسات وقوانين لحماية الغابات من التحريق المتعمد أو الإهمال، وتنظيم استخدام الأراضي والزراعة والرعي، وإزالة الوقود النباتي المتراكم، ووضع حواجز وفواصل بين المساحات الحرجية، وتثقيف المجتمعات المحلية عن أخطار الحرائق وكيفية منعها، والتأهب لمواجهتها بتطوير نظم التنبؤ والإنذار المبكر للحرائق، وتجهيز فرق الإطفاء والإنقاذ بالمعدات والتدريب اللازمين، وإنشاء شبكات اتصال وتنسيق بين الجهات المعنية، وإعداد خطط طوارئ وإخلاء للسكان في الأماكن الأكثر عرضة للخطر.
عالم من دون غابات؟
هذا سؤال صعب ومهم ولا توجد إجابة بسيطة عليه. تعد غابات الأمازون، أكبر غابة مطيرة في العالم، رئة الأرض لأنها تمتص نحو 25 في المئة من انبعاثات الكربون في الغلاف الجوي. لكن بسبب قطع الأشجار والزراعة والتعدين والحرائق، أصيبت هذه الرئة بالإرهاق وباتت أسوأ من تلك التي نرى صورها على أغلفة علب التبغ لإخافة المدخنين. وتشير بعض الدراسات إلى أن غابات الأمازون قد تصل إلى نقطة تحول ينقلب عندها دورها من ممتصة للكربون إلى باعثة له، ما سيؤدي إلى تسارع تغير المناخ وانقراض بعض الأنواع وإلى اختفاء الغابات المطيرة تماماً بالنتيجة في غضون 100 عام فقط.
وإذا استمرت هذه المعدلات من حرائق وتدمير الغابات، قد نصل إلى عالم تنعدم فيه الغابات بالكامل في المستقبل. سيكون هذا سيناريو مروعاً للإنسانية والطبيعة، لأنه سيؤدي إلى اضطراب المناخ وانخفاض جودة الهواء والماء والتربة، وزيادة المجاعة والأمراض والصراعات. تماماً كتلك المشاهد التي نراها في أفلام الرعب المستقبلية المتشائمة التي تصور الأرض مغطاة بالرماد والغبار وشوارع فارغة جرداء والبشر يحاولون العثور على عرق أخضر واحد يمنحهم الأمل في إعادة الحياة كما كانت عليه من قبل. وأخشى ما أخشاه أن يكون بينهم شخص يردد ما قاله جبران في قصيدة المواكب، "ليس في الغابات راعٍ... لا ولا فيها القطيع".