في خطوة كانت متوقعة منذ إجراء الانتخابات البلدية التركية في 31 مارس (آذار) الماضي، أصدر وزير الداخلية التركية سليمان صويلو أمراً بعزل رؤساء بلديات ثلاث مدن كبرى (يزيد سكانها على مليون نسمة) ذات غالبية سكانية كردية. فقد ذكرت وزارة الداخلية التركية في بيانها، الاثنين، أن رؤساء بلديات مدينة ديار بكر عدنان سلجوق مزراقلي وبلدية مدينة ماردين أحمد ترك ورئيسة بلدية مدينة وان بديعة أوزغوكجه على علاقة بالتنظيمات الإرهابية، وأنهم عُزلوا من مواقعهم، وعُيّن أوصياء بدلاً عنهم.
اتهامات جاهزة
كانت الأوساط السياسية والمجتمعية الكردية في تركيا تتوقع هذا القرار. فحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا كان قد اتخذ مثل هذا الإجراء في الدورة السابقة أيضاً من الانتخابات البلدية. فهزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات البلدية التي جرت عام 2015 في معظم مدن وبلدات جنوب شرقي تركيا حيث الغالبية السكانية كردية، دفعته إلى إصدار أمر أمني إداري بعزل رؤساء تلك البلديات، وتعيين أوصياء من حزب العدالة والتنمية لإدارتها. وكانت أوساط حزب العدالة والتنمية تروّج لاتخاذ الإجراء ذاته، في ما لو تمكن حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) من الفوز برئاسة البلديات الكردية في انتخابات العام الحالي، وهذا ما نُفّذ اليوم.
تعلن السلطات الأمنية التركية عادة، عبر وزارة الداخلية، عن طيف من الاتهامات "الجاهزة" التي توجهها إلى أي من الشخصيات أو الأحزاب أو التنظيمات المؤيدة للأكراد، إذ تتهمهم بالولاء والعلاقة مع حزب العمال الكردستاني وتقديم مساعدات له. ثم تقدم ملفات قضائية شديدة التعقيد للمؤسسات القضائية، يطول التحقيق وإصدار الحكم فيها لسنوات، تكون كافية للتصفية السياسية والتنظيمية لهذه الشخصية أو تلك الجهة المؤيدة للأكراد.
تستند تلك الاتهامات إلى الخطابات والعلاقات العامة والنشاطات المدنية والتعاقد مع المنفذين المحليين، التي يقوم بها رؤساء هذه البلديات والتي تكون عادة في إطار دعم الحقوق المدنية والسياسية والثقافية للأكراد في مناطقهم، ما تعتبره السلطات التركية أمراً على علاقة بحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض كفاحاً مسلحاً ضد السلطات التركية منذ حوالى أربعة عقود.
وصاية أمنية
لتغطية قرارها الخاص بالبلديات الكردية، أعلنت وزارة الداخلية التركية أنها نفّذت حملة اعتقالات في جميع أنحاء البلاد، الاثنين، تمكنت خلالها من اعتقال 418 متهماً بالترويج للجهات الإرهابية وتقديم المساعدات لها.
قرار وزارة الداخلية التركية الجديد تضمن أيضاً تعيين ولاة ولايات ديار بكر وماردين ووان كأوصياء على هذه البلديات. والولاة عادة ما يكونون أعضاءً في الحزب الحاكم ومن الشخصيات الأمنية السابقة، ويشرفون فعلياً على الأجهزة الأمنية كافة في الولايات، ما يعني فعلياً أن الخدمات العامة في الولايات الكردية الكبرى ستكون تحت إدارة وسلطة الأجهزة الأمنية التركية.
تعمل هذه الجهات على تسخير السلطات الإدارية والقدرات المالية للبلديات لمصلحة الطبقات والشخصيات الموالية للحزب الحاكم، خصوصاً في حيز العقود العامة، التي تجريها البلدية مع التجار والمتعهدين المحليين، الذين يشكلون الديناميكية الأكثر حيوية لتأمين القواعد الاجتماعية المؤيدة لأي من الأحزاب.
ردود فعل مباشرة
حدثت صدامات مباشرة بين السكان المحليين في هذه المدن والسلطات الأمنية التركية، التي استخدمت خراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، الاثنين، لتفريق آلاف المتظاهرين الأكراد، الذين كانوا يرغبون في كسر حصار القوات الأمنية على مباني البلديات المعنية.
حزب الشعوب الديمقراطية (HDP) المؤيد لحقوق الأكراد، الذي ينتمي إليه رؤساء هذه البلديات، وصف في بيان رسمي قرار الداخلية التركية بأنه "خطوة معادية للإرادة السياسية للشعب الكردي". وعقب اجتماع مركزي لقياداته الرئيسة، قال الحزب "لن نصمت عن القرارات والممارسات التي تغتصب الحقوق والحريات... والقيام باستفزازات لم تعد تترك مجالاً للديمقراطية"، مُضيفاً أن "رؤساء بلديات ديار بكر وماردين ووان، فازوا في الانتخابات البلدية بنسب 63 في المئة و56 في المئة و53 في المئة على التوالي"، ومؤكداً أن "إيقاف رؤساء البلديات الثلاثة عن الخدمة جاء بأمر من وزارة الداخلية بناءً على أكاذيب وأسباب غير قانونية".
بيان الحزب المؤيد للأكراد لاقاه تصريح لرئيس بلدية اسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، والقيادي في حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، الذي حقق فوزاً انتخابياً استثنائياً على مرشح حزب العدالة والتنمية في آخر انتخابات بلدية جرت في 31 مارس الماضي، بعد تحالف انتخابي وسياسي غير معلن بين حزبه وحزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد. إمام أوغلو أشار إلى أن خطوة السلطات التركية غير قانونية، وأنها تستهدف كل أحزاب المعارضة التركية لتكريس هيمنة حزب العدالة والتنمية، وإن خارج العملية الانتخابية. وأضاف أوغلو أن السكوت عمّا جرى في البلديات الثلاث هذه قد يدفع السلطات التركية إلى أن تتجرأ مستقبلاً وتعزل جميع رؤساء البلديات التي خسر فيها الحزب الحاكم، بما في ذلك بلديتي أنقرة واسطنبول.
ظرف سياسي مركب
الناشط المدني الكردي من مدينة ديار بكر زوزان سورغول، أشار لـ"اندبندنت عربية" إلى أن خطوة السلطات التركية الأخيرة تأتي في إطار سعي الحزب الحاكم وزعيمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تعويض بعض خسائره في مختلف الملفات.
سورغول أكد أن تراجع مشروع حزب العدالة والتنمية في الدول الإقليمية، في سوريا وليبيا تحديداً، وكذلك الهزيمة المريعة التي تعرض لها في الانتخابات البلدية الأخيرة، خصوصاً في بلديات المدن الكبرى، إلى جانب تراجع التنمية الاقتصادية في مختلف مناطق البلاد، وعدم تمكن أردوغان من إقناع الولايات المتحدة بالسيطرة على شمال شرقي سوريا، أسباب تدفع الحزب الحاكم إلى اتخاذ أقصى درجات العقاب الأمني والسياسي والإداري بحق مناوئيه السياسيين، خصوصاً الشخصيات والقوى السياسية الكردية، وذلك بغية جذب انتباه وولاء القواعد الاجتماعية القومية التركية، إلى جانب إعادة الحالة الأمنية إلى المناطق ذات الغالبية الكردية في جنوب شرقي البِلاد.