تجري سفنٌ حربية روسية دوريات في مياه البحر الأسود، وتطلق صواريخ على مدن وبلدات أوكرانية كجزء من هجوم شبه يومي. وفي الوقت الذي يُفرض فيه أيضاً حصار بحكم الأمر الواقع، فإن السفن لا تترك مجالاً للشك في العواقب التي يمكن أن تترتّب عن محاولة كسره.
وهنا تكمن أهمية طريق الشحن هذه لكلا الجانبين. فلفترة طويلة، ظلّت السفن الروسية تتحرّك في مياه تلك المنطقة مفلتةً نسبياً من العقاب. كما أن صفقة نقل الحبوب التي مكّنت أوكرانيا من التصدير من موانئها الواقعة على البحر الأسود، سمحت بنشوء وضع قائم غير مستقر. لكن بعد تراجع موسكو عن الوفاء بالتزاماتها المتعلّقة بتلك الصفقة في الصيف، وتكثيف هجماتها على موانئ أوكرانيا، بدأت كييف هجوماً مضادّاً لاستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا في جنوب أوكرانيا وشرقها، وأصبح البحر الأسود إحدى أكثر الجبهات الساخنة في الحرب الدائرة هناك.
وكانت العاصمة الأوكرانية تبعث على مدى أسابيع بنوع جديد من المسيَّرات البحرية - وهي في الأساس قوارب سريعة مسيّرة محمّلة بمتفجّرات، يمكنها الإبحار لأميال عدّة - في محاولة منها لإحداث فوضى وإلحاق أكبر مقدار ممكن من الخسائر بآلة الحرب في موسكو، لمساعدة قوّاتها في الميدان. ويمكن لتلك القوارب أن تصل سرعتها إلى 50 ميلاً (80 كيلومتراً) في الساعة، كما في مستطاعها أن تنقل حمولةً من المتفجّرات تصل إلى 300 كيلوغرام، بحسب المعلومات المتوافرة. وهذا هو نوعُ الحرب المبتكرة التي لجأت إليها سلطات كييف مرات عدة للرد على قوة عسكرية تتفوّق عليها بكثير من حيث الإمكانات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل، دُعمت هذه المسيَّرات البحرية بضربات صاروخية، بما في ذلك استخدام صواريخ "ستورم شادو" Storm Shadow طويلة المدى من المملكة المتحدة. أما الإنجاز الأحدث؟ فيُعتقد أنه أهم هجوم أوكراني على مقرّ الأسطول الروسي في البحر الأسود، منذ بدء غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا.
وتؤكد كييف أن الهجوم على القاعدة الروسية في مدينة سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا قد أصاب غواصة - أشار محللون إلى أنها من المحتمل أن تكون غواصة هجومية من طراز "كيلو" Kilo-Class (مجموعة من الغواصات الهجومية تعمل بالديزل والكهرباء والتي بُنيت في مرحلة الاتحاد السوفياتي في سبعينيات القرن الماضي) التي يمكنها أن تطلق صواريخ "كروز" تحملها على متنها – وكذلك سفينة إنزال. ويُعتقد أن هذا هو أول هجوم ناجح وموثّق ضد غواصة روسية خلال الحرب التي تشنّها موسكو، والتي استمرت على مدى 18 شهراً.
قبل ذلك، استعادت القوات الخاصة الأوكرانية السيطرة على عدد من منصات التنقيب عن النفط والغاز التي استخدمتها روسيا للمساعدة في السيطرة على البحر الأسود في "عملية فريدة"، بحسب ما ذكرت "المديرية الرئيسية للاستخبارات" الأوكرانية GUR، وهي الاستخبارات العسكرية في البلاد. وكانت وزارة الدفاع البريطانية قد أوضحت في وقت سابق أن المنصات يمكن استخدامها لإطلاق طائرات مروحية، ووضع أنظمة صواريخ بعيدة المدى، وأن تكون قاعدة نشر أمامية.
وقالت "المديرية الرئيسية للاستخبارات" الأوكرانية إن "روسيا حُرمت من القدرة على السيطرة الكاملة على مياه البحر الأسود، وهذا يجعل أوكرانيا أقرب بخطوات عدة إلى استعادة شبه جزيرة القرم".
في غضون ذلك، رست سفينتان تجاريتان في ميناء أوكراني في الأيام الأخيرة، بعدما كثّفت كييف جهودها لكسر الحصار الروسي من جانب واحد، وذلك باستخدام ممرّ يربط ما بين ساحل البحر الأسود وجارتيها الجنوبيتين العضوين في "حلف شمال الأطلسي" (ناتو)، وهما رومانيا وبلغاريا.
كير جايلز الزميل الاستشاري البارز في "برنامج روسيا وأوراسيا" Russia and Eurasia Programme التابع لـ "مركز أبحاث تشاتام هاوس"Chatham House، رأى أن تركيز القوات الأوكرانية على البحر الأسود يُعد "تغييراً نسبياً"، خصوصاً أنها "تحافظ على الإنجازات التي تحققها ميدانياً على الجبهات في شرق البلاد".
وتوقّع أن يكون هناك المزيد من التطورات الملحوظة التي تحدث الآن، مع تسارع وتيرة العمليات ضد شبه جزيرة القرم. لكن ذلك يحصل بعد فترة طويلة من التحضيرات.
وأضاف: "لقد شهدنا في وقت سابق وقوع هجمات بصواريخ وعمليات إنزال لقوات خاصة، كانت تهدف إلى إضعاف قدرة الدفاع الجوي الروسية في شبه جزيرة القرم، ونتيجةً لذلك، بات الآن بإمكان (القوات الأوكرانية) تنفيذ عمليات أخرى تعتمد على عدم فاعلية تلك الدفاعات الجوّية".
وأشار جايلز إلى أنه "لهذا السبب نلاحظ زيادةً في وتيرة الأنشطة. وهذا أيضاً جزءٌ من استراتيجية لتقويض قدرة روسيا على الحفاظ على سيطرتها على شبه جزيرة القرم، ما يجعلها في نهاية المطاف غير مستدامة".
وإضافةً إلى الأهمية الاستراتيجية للبحر الأسود، هناك عنصرٌ رمزي يمكن أن يضطلع بدور قوي. فضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، هو أمرٌ تسعى كييف إلى الانتقام منه منذ فترة طويلة. ومن هنا جاء حديث المسؤولين الأوكرانيين عن أن استعادة شبه جزيرة القرم يُعدّ هدفاً طويل الأمد (وكذلك بقية الأراضي التي احتلتها روسيا خلال غزوها الراهن لأوكرانيا).
أما بالنسبة إلى روسيا ـ وبوتين على وجه التحديد ـ فهناك أيضاً رمزيةٌ عميقة لشبه جزيرة القرم والبحر الأسود. إذ إن المنطقة تُعدّ وسيلة يمكن للروس من خلالها خنق أوكرانيا وشلّ اقتصادها. ويقول جايلز: "في اللحظة التي استولى فيها الروس على شبه جزيرة القرم في عام 2014، أعاقوا على الفور قدرة كييف على ممارسة التجارة والوصول إلى البحر الأسود من جميع موانئها الشرقية".
وأضاف: "لذلك يمكن لروسيا - انطلاقاً من شبه جزيرة القرم - أن تبسط سيطرتها على مسافات هائلة، فهي تُعدّ بمثابة قاعدة أمامية للقوة العسكرية الروسية".
ويوضح جايلز أن "بقاء أوكرانيا لا يعتمد على السيطرة على البحر الأسود، بل على الوصول إلى مياهه من أجل التمكن من الاستمرار. وهي تحتاج لمواصلة الشحن السلمي لبضائعها من دون التعرض لتهديد مستمر من جانب روسيا".
ويقول الاستشاري: "لسوء الحظ، هذه القضية لن تختفي مع انتهاء الاشتباك العسكري في أوكرانيا. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل فكرة إنهاء القتال الفعلي والتوصل إلى تسوية تفاوضية مع روسيا مشحونةً للغاية، لأنها تعني أن روسيا يمكن أن تبقي الاقتصاد الأوكراني رهينةً لها من خلال ممارسة ضغوط اقتصادية للإبقاء على تلك القبضة الخانقة على موانئها، خصوصاً إذا ما بقيت في أوكرانيا، وتحديداً إذا ظلت شبه جزيرة القرم تحت سيطرتها".
لكن كييف كررت غير مرة أن أي تسوية سلمية يجب أن تشمل إعادة روسيا جميع الأراضي الأوكرانية. من هنا يمكننا أن نتوقع استمرار الهجمات الأوكرانية على البحر الأسود والأسطول الروسي في المنطقة. وتعمل هذه الاستراتيجية على مواصلة الضغط على موسكو بينما تخوض القوات البرية معارك شرسة للسيطرة على كل شبر من الأراضي على الخطوط الأمامية في جنوب وشرق أوكرانيا. إن أي ضربات كبيرة، كالضربة الأخيرة التي تعرضت لها الغواصة من طراز "كيلو"، لا توفر ميّزةً دعائية لكييف فحسب، بل تضعف أيضاً القدرات الروسية.
وفي ظل غياب الرغبة لدى كل من كييف وموسكو في تقديم أي تنازل في البحر الأسود، فإن ذلك يجعل المنطقة مسرحاً ذا أهمية متزايدة في الصراع الدائر.
© The Independent