ملخص
يصفها مراقبون بأنها ظاهرة تندرج ضمن الاقتصاد غير الرسمي والتوظيف الذاتي بسبب البطالة والفقر وبعض الخصائص النفسية والاجتماعية
وجد آلاف الأردنيين في مهنة البسطات ملاذاً للهرب من الفقر والبطالة بعد التحول الاقتصادي الذي شهده الأردن منذ نحو 15 عاماً، وتراجع حجم الوظائف وانسحاب الدولة من دورها الريعي لمصلحة سياسة السوق المفتوح.
ففي زوايا الشوارع الضيقة وعلى الأرصفة المتهالكة وبخاصة في الأحياء الشعبية، تنتشر البسطات بكثافة كجزء من المشهد الاجتماعي اليومي في العاصمة عمّان وباقي المدن الأردنية ضمن ما بات يعرف باقتصاد الظل.
وعلى رغم الاتهامات لهذا النوع من النشاط الاقتصادي الفردي بالعشوائية والفوضوية وغياب الرقابة، إلا أنه بات يشكل مصدر رزق لكثير من الناس، ويؤمن دخلاً جيداً لعائلات بأكملها، فضلاً عن أنه يعكس روح المبادرة والاعتماد على النفس ويساعد في تنشيط الاقتصاد المحلي.
تنوع وبساطة
وما بين بيع الخضراوات والفواكه والملابس والحلويات تتنوع أنواع البسطات، لكن ما يجمع بينها هو الصخب والازدحام ومحاولة الباعة جذب المارة والمتسوقين عبر النداء بصوت عال.
وعبر أكشاك صغيرة متنقلة وعربات معدنية أو خشبية متواضعة، يعرض الباعة بضائعهم صيفاً وشتاء وحتى ساعات الليل المتأخر، على أمل العودة إلى منازلهم ببضعة دنانير تكفيهم متطلبات اليوم التالي، على رغم المنافسة الشديدة التي يواجهونها من أصحاب المحال التجارية، والتعرض للملاحقة والمراقبة من قبل السلطات المحلية.
ووسط تنوع لا مثيل له وبضائع تشكل لوحة فنية تجذب انتباه الزبائن، يحمل الباعة تجارب وقصصاً مختلفة، وهم يجتهدون في البحث عن لقمة عيشهم بإصرار وصلابة لا تضعفها أعباء الحياة اليومية.
وفي الصباح الباكر تعلن هذه البسطات عن يوم جديد، حيث تمتزج روائح الخضراوات والفواكه والقهوة والفطائر والحلويات، فيما يجد المتسوقون فيها ضالتهم بحثاً عن حاجاتهم اليومية وبسعر رخيص.
مطاردة وملاحقة
يفضل الأربعيني محمد بيع حلوى "كرابيج حلب" على مقربة من تقاطع حيوي شرق العاصمة بعد ساعات العصر لتلافي ملاحقة أو مصادرة البسطة التي يعمل عليها من قبل موظفي البلدية بحجة عدم الترخيص.
بدأ محمد العمل في هذه المهنة منذ 10 أعوام بعد أن فقد وظيفته كمراقب للعمال في أحد المصانع، وتستوفي السلطات المعنية مبلغاً قدره 200 دولار سنوياً لقاء ترخيص عربته المتنقلة، لكنه يقول إن هذا المبلغ كبير بالنسبة إلى بائع متواضع مثله، بخاصة عند مصادرة عربته ودفع غرامات بحجة مخالفة القوانين أو تعطيل حركة المرور.
ويرفض محمد فكرة الانتقال إلى سوق شعبية بحجة عدم الإقبال على بضاعته التي يختار لها أماكن محددة قرب المدارس والمساجد والأسواق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما رائد فيتحدث عن استيقاظه فجراً كل يوم تقريباً والتوجه إلى السوق المركزية للخضراوات أو (الحسبة) باللهجة المحلية، لشراء عدد من صناديق الخضراوات وبيعها مع ساعات الظهيرة على بسطة قرب أحد أكبر الأسواق التجارية في منطقة طارق شرق العاصمة عمّان.
ويواجه رائد بشكوى مستمرة من أصحاب المحال التجارية بسبب احتلاله مساحة كبيرة من الشارع العام، ويظل مترقباً على الدوام حضور موظفي البلدية الذين يحررون المخالفات، وفي كثير من الأحيان يقومون بمصادرة البضاعة.
في حين يتحدث أبو أيمن عن سلبيات هذه المهنة كغياب التأمين الصحي وعدم الشمول بمظلة الضمان الاجتماعي والعمل بنظام المياومة والتعرض لفارضي الإتاوات، وهو ما تترتب عليه أخطار كبيرة على أصحابها.
مبادرة ذاتية
ويرصد الباحث والكاتب الأردني أحمد أبو خليل حال بائعي البسطات واصفاً هذا القطاع بالحيوي الذي يضم مجتمعاً كاملاً، وفي محاولة منها لحل مشكلة فوضى البسطات خصصت أمانة عمّان 16 قطعة أرض كمواقع لهذه البسطات، فضلاً عن الأسواق الشعبية، وهو ما يراها أبو خليل حلولاً غير مجدية ومصيرها الفشل.
ويعتبر أبو خليل "البسطات" بمثابة موقف احتجاجي من الفقراء حيال فقرهم، ومبادرة وتنظيماً ذاتياً لتحسين أحوالهم الاجتماعية، واصفاً التحديث الكبير الذي طرأ على العاصمة عمان بأنه معاد للفقراء، حيث كانت متنفساً للبسطات بأنواعها الثابتة المرخصة والمتنقلة غير المرخصة قبل أن تطاولها الحداثة والحركة العمرانية وإنشاء الأسواق الكبيرة والمولات التجارية.
ويرى الباحث أن فكرة القضاء على البسطات صعبة على رغم ما تحمله هذه المهنة من مخالفة واعتداء على الرصيف، وممارسة نشاط يضر بفئات أخرى، لأنها ظاهرة اقتصادية تندرج ضمن الاقتصاد غير الرسمي والتوظيف الذاتي الذي أفرزه وجود خلل تنموي، فضلاً عن البطالة والفقر وبعض الخصائص النفسية والاجتماعية، داعياً أصحاب القرار للموازنة بين الكلف الاجتماعية والاقتصادية تجاه قطاع تنموي وحيوي.
تنظيم لمهنة عشوائية
وقد بدأت ظاهرة البسطات في الانتشار وسط العاصمة الأردنية القديمة أو ما يعرف بوسط البلد، إضافة إلى مناطق أخرى مثل منطقة الوحدات التي تضم أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين، ومنطقة جبل الحسين والهاشمي، لكن اليوم لا يكاد يخلو أي حي من الأحياء الأردنية من هذه البسطات التي تنشط أيام الجمعة من كل أسبوع.
ولا توجد أرقام دقيقة لإحصاء عدد البسطات المنتشرة، لكنها ظاهرة آخذة في التزايد والتوسع، بخاصة أنها قليلة الكلفة حيث لا ضرائب أو إيجارات أو رسوم.
لكن أصحاب البسطات يواجهون ضريبة وكلفة أكبر تتمثل في حملات للمنع والملاحقة وأحياناً مصادرة بضائعهم، مما دفع أحد الشبان إلى الانتحار في مدينة أربد شمال الأردن قبل سنوات.
وخلال تسعينيات القرن الماضي كانت أول محاولة رسمية لتنظيم هذه البسطات عبر ما كان يعرف بسوق الأحد ثم سوق الإثنين، إلا أن التجربتين فشلتا وطواهما النسيان لأن الفكرة كانت تقوم ببساطة على توفير مساحة فارغة يجري ترتيبها وتوزيعها ودعوة أصحاب البسطات وزبائنهم إليها من دون اعتبار لرغبة الباعة أنفسهم الذين يختارون أماكن محددة تناسب بضائعهم وزبائنهم، ووفق سياسة العرض والطلب وحركة الدخول والخروج.
قوانين وأنظمة
وفي المقابل يضج كثيرون بالشكوى من ظاهرة البسطات باعتبارها مخالفة للقوانين، فضلاً عما تسببه من ازدحام مروري واعتداء على حق المشاة في الأرصفة والضوضاء والتلوث الصوتي.
وتقول أمانة عمّان (بلدية العاصمة) إنها تحاول ضبط مهنة البسطات من خلال قوانين وأنظمة بعد اتساع رقعتها على مساحة جغرافية واسعة في المملكة، وورود شكاوى يومية على الباعة المتجولين وأصحاب البسطات الذين يتسببون بضرر واعتداءات على ممتلكات المواطنين ويقلقون راحتهم.
وتخصص الأمانة فرقاً للتعامل مع البضائع المصادرة من الشوارع تحت ما يسمى البيع العشوائي، ووفق قانون البلديات وأنظمة منع المكاره والأرصفة والباعة المتجولين والعوائق.
وينص نظام الباعة المتجولين والبسطات على أنه "يحظر على أي شخص مزاولة عمل بائع متجول أو استعمال عربة أو إقامة بسطة أو مظلة أو كشك من دون ترخيص من المجلس، مما يضعه تحت طائلة الإزالة".
كما يحظر وضع أو إقامة الأكشاك والبسطات والمظلات وحظائر بيع الأضاحي على الأرصفة والطرق وأي مكان يؤثر في حركة المرور والمشاة، مما يضعها تحت طائلة الإزالة ومصادرة السلع المعروضة للبيع وفرض الغرامة المنصوص عليها في قانون البلديات.
وتوفر أمانة عمّان أسواقاً بديلة ومناسبة لأصحاب البسطات مع توفير الخدمات اللوجيستية من ماء وكهرباء مجاناً، لكن غالبية أصحاب البسطات يرفضون هذه الفكرة.