Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليو فيريه يكرس نفسه شاعراً ويصدر مجموعة تضم 400 قصيدة

الصحافة تتساءل بغضب: أين صار فوضوي الربيع الباريسي بعد أن دجنته الحياة العائلية؟

ليو فيري خلال إحدى حفلاته (موقع الفنان)

ملخص

المغني والشاعر والموسيقي الفرنسي ليو فيريه كان يحسب دائماً في عداد الـ7 الكبار في الأغنية الفرنسية

"كان ما أردت إصداره نوعاً من ترتيل شعري على الورق، من دون أي مبالاة بأن هذه الأشعار إنما هي في الأصل أغنياتي التي كتبت نصوصها خلال المرحلة الأطول من حياتي، وموسقتها فانتشرت بين الناس وسمعت على نطاق عريض، وحان الوقت لإعادتها إلى جذورها، أي إلى إعادتها إلى ما كانت عليه حين اشتغلت عليها في البداية: قصائد شعرية تشبه كل القصائد الشعرية الأخرى".

قائل هذا الكلام هو المغني والشاعر والموسيقي الفرنسي ليو فيريه الذي كان يحسب دائماً في عداد السبعة الكبار في الأغنية الفرنسية. وحين نتحدث هنا عن الأغنية الفرنسية فإنما نتحدث بالطبع عن ذلك النوع رفيع المستوى والمنتمي حقاً إلى أسمى أنواع الإبداع وساد خصوصاً في سنوات الـ50 وما بعدها ليخبو بعض الشيء وبشكل تدريجي مع رحيل كل واحد من أقطابه، من جورج براسانس إلى جاك بريل، ومن إيف مونتان إلى شارل آزنافور وإديث بياف وجان فيرا، وصولاً إلى ليون فيريه.

ولعل الذي يميز غناء هذا الجيل هو التساوق التام لديه بين الشعر والموسيقى والأسلوب المميز دائماً في الغناء، ناهيك بالمواقف السياسية التي تراوحت بين أقصى درجات اليسار وأكثر ضروب النزعة الإنسانية وضوحاً، وصولاً إلى تلك الفوضوية الخلاقة التي ميزت خصوصاً ليو فيريه الذي تعتبر أغنيته "لا طاغ ولا سيد" المستعيرة عنوانها من التيار الفوضوي، واحدة من أشهر أغانيه وأكثرها قوة من الناحية السياسية.

غناء مسرحي حقيقي

لقد كان فيريه إذاً مغنياً كبيراً تميز أداؤه بنزعة مسرحية ممتعة، كما أن موسيقاه كانت تستجيب لتلك التوزيعات الأوركسترالية التي كانت تليق بأعظم السيمفونيات. ومع ذلك، أصدر في 1980 تلك المجموعة الشعرية التي عنونها بـ"وصية فونوغرافية" قرر أن يحاول عبرها أن ينسي الناس، قراءه في الأقل، أنها في حقيقتها نصوص أغنياته الـ400 التي زينت حياته الفنية وكانت، إلى جانب عديد من قصائد آراغون التي غناها أيضاً بعد أن موسقها، نتاجه الفني الكبير.

 ولكن يبقى هنا سؤال لا بد من طرحه. وهو: لماذا كتب فيريه تلك السطور متحدثاً فيها عن مجموعته الشعرية يوم أصدرها؟ المرجح أنه إنما فعل ذلك في نوع من رد، غير مباشر على زميله الذي كان مع ذلك من أصدقائه المقربين، جاك بريل البلجيكي الذي تبنى فرنسا وحياتها وثقافتها، تماماً كما حال فيريه نفسه الذي بدوره تبنى فرنسا وهو الذي يعود أصله إلى إمارة موناكو التي حمل دائماً جنسيتها وأمضى فيها بعض سنواته الأخيرة، من دون أن ننسى إيف مونتان الذي كان "فرنسياً من أصل إيطالي" أو أزانافور الذي كان فرنسياً بدوره، ولكن من أصل أرمني. إلخ، ولكن لماذا كان فيريه يرد على بريل؟

لأن بريل كان يعارض خلال السنوات الأخيرة من حياته وبشكل حازم كل محاولات الناشرين التي سعت إلى إصدار كتب تضم النصوص الشعرية لأغنياته التي كذلك كتبها بنفسه، كما حال معظم مبدعي الغناء في ذلك الجيل، فقد كان يقول إن الكلام والموسيقى وحتى أسلوب الغناء وظروف تقديمه تشكل كلاً واحداً لا مجال على الإطلاق لتقسيمه نتفاً نتفاً.

 

 

وبالنسبة إليه، بالتالي، تفقد القطعة الفنية المتكاملة التي هي الأغنية جزءاً كبيراً من قيمتها وكينونتها إن هي قدمت كقصيدة شعرية، كما تفقد جزءاً مماثلاً إن هي قدمت بوصفها قطعة موسيقية خالصة أي أوركسترالياً ومن دون غناء.

ونعرف طبعاً أن ذلك النقاش كان محتدماً أيام كان الفن فناً والناس يتابعون كل الأمور الجدية التي تتعلق به. ومن هنا تفاقم ذلك السجال وتشعب وتدخل عدد من كبار الموسيقيين والشعراء والمغنين فيه. بل إن بعضهم تساءل حتى عما حدث لفيريه الذي كان من شأن فوضويته المعلنة أن تجعله في منأى من تلك المواقف الفنية الحاسمة، واصلة إلى تأكيدات تقف بالتعارض التام مع تلك الفوضوية الممتعة. وكانت تلك مناسبة للعودة إلى ما آلت إليه أحوال هذا الفنان الذي بعدما كان رمزاً للعيش الفوضوي وحرية الإبداع المطلقة، ها هو جمهوره يكتشف فجأة كيف أنه وفي غفلة من الزمن، بل حتى عن ذلك الجمهور بات شيئاً آخر تماماً.

ففي الوقت الذي صدرت فيه مجموعته الشعرية "وصية فونوغرافية"، راح الإعلام يشير إلى أن فيريه الذي عرف منذ سنوات الـ60 ككاتب وشاعر ومغن ممارساً مهنة رائعة تحدو به إلى الظهور تحت عديد من الأقنعة "الخلاقة". قناع الفوضوي كما أشرنا ولكن أيضاً قناع المناضل اليساري (لا سيما بعد ربيع باريس 1968 وعبر حفلة لا تنسى قدمها حينذاك في قاعة "الموتياليتيه" التي كانت بؤرة التحركات النضالية في باريس)، والتروبادور الذي يغني في قاعة الباجازيت المعروفة بكونها موئل الفوضويين الصاخبين، لـ"نساء إسبانيا الولادات" ولـ"لحياة من دون وسادة" ولـ"بيكاسو". ها هو اليوم يضع شروطاً لنشر أشعاره معلناً أن القلم هو السيد لا البيانو ولا القيثارة ولا صوت المغني مهما كان شأنه.

أين صار فنان الحي اللاتيني؟

وهكذا راح الجمهور يتساءل أين صار إذن فنان الحي اللاتيني؟ وأتى الجواب عبر الإعلام: إنه الآن يعيش هادئاً كرب عائلة ممتثلاً مع زوجته وقد بات أباً ينفق بعض وقته في شراء حاجات البيت ويساعد زوجته في أشغال المنزل. فهل كان يحاول في تلك المناسبة المتعلقة بنشر أشعاره أن يفرض صورة جديدة له تقدمه كشاعر لا كمغن ولا كموسيقي؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في نهاية الأمر كان له ما أراد، وصدرت مجموعته الشعرية ليقول قائل متذكراً سنوات نضاله في مدينة نانتير القريبة من باريس التي كانت في الستينيات بؤرة العمل الثوري ومنطلق الربيع الباريسي: يا لبؤسك يا نانتير. ها أنت تخسرين مغنيك بعدما خسرت ثائريك الكبيرين والوجهين الأبرز في ذلك الربيع آلان جيسمار ودانيال كوهن – بنديت، اللذين كانا من زعماء الحركة الطلابية الثورية في جامعة المدينة والرفيقين المقربين من فيريه.

ومن هنا قد يكون لافتاً إلى أن يكتب بعض إعلام تلك المرحلة معقباً على موقف فيريه من الغناء والشعر قائلاً: "أولسنا أمام نهاية زمن وانقضاء عصر بأكمله؟".

الرد شعراً

والحقيقة أن مثل هذه التساؤلات وصلت إلى مسامع المغني الكبير وكان رده عليها ضحكة لطيفة. ومن دون أن يبادر يومها إلى الإجابة مباشرة، قال إن ثمة من الناس، و"المحبين خصوصاً من يحاول على الدوام وضعك في قالب من التبجيل يريح ضميره هو فيقنع نفسه بأنه يناضل من خلالك".

وأضاف فيريه من معتزله الإيطالي في ريف غير بعيد من منطقة سيينا التي اختارها لسكناه ولحياته العائلية أن "جريمتي في نظر هؤلاء الناس تكمن في أنهم باتوا يعتبرونني بورجوازياً صغيراً. ويا حبذا لو يعرفون أنني لا أعترض على كوني بورجوازياً. بل على تصنيفهم لي صغيراً!".

 ولقد وعد فيريه يومها بأنه سيرد على هؤلاء ولكن بـ"السلاح الذي أتقن استخدامه أي بالغناء، "وأعدهم أنني لو فعلت سأكرر مرة أخرى الفصل حين النشر بين الشعر والغناء نفسه".

وهو يومها، وبعد شيء من الصمت استطرد بالقول، في نهاية المطاف يكاد يعتبر نفسه شاعراً "وقد بدا لي كثيراً أن أكتب أشعاراً من دون أن أرغب في موسقتها، كما أفعل الآن أمامكم إذ ها أنا يحلو لي أن أكتب سطوراً حول النظام الشمسي الذي يحيط بي هنا في سيينا، ويشعرني أن العمل الفني فريد تماماً كالمشهد الطبيعي الذي أنظر إليه في هذه اللحظة بإيقاعاته المستمدة من ضياء الشمس بين الأشجار الواقفة المطلقة أغصانها في كل الاتجاهات وهي تبدو مشيرة إلى لست أدري أي اتجاهات جغرافية. ما أراه في الحقيقة عملاً فنياً حقيقياً. عمل تعيد عيني رسمه واختراعه، وبشكل لا يمكن التواصل معه إلا بشروطه الخاصة". وبعد هذا "يأتون ليحدثونني عن التبرجز والتدجين؟ ترى في أي عالم يعيش هؤلاء الناس؟".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة