ملخص
مقاتلون بريطانيون يحملون السلاح من تلقاء نفسهم في سبيل أوكرانيا
في صباح يوم وفاة غوست (الشبح)، كان صولو (الوحيد) منخرطاً في قتال ضار، وتبادل للنيران مع الروس وسط حقل من العشب الطويل المتمايل على وقع الصراع الدامي لإحراز تقدم ميداني خارج باخموت.
ويعود الجندي البريطاني السابق بالذاكرة إلى ظلال الرجال وقد أضاءها وميض فوهات أسلحتهم في ضباب الفجر، فيصف شحوب الأفق الذي يتوهج باللون البرتقالي جراء قصف المدفعية، فيما وقف محاطاً بهمس الجرحى الملح وصرخاتهم.
بعد ساعة ونصف الساعة من هذا القتال المنهك، تقع عينا صولو على غوست - قائد فصيله - الممدد في مكان قريب وقد اخترقت جسده تسع رصاصات، ويداه مطبقتان على سلاحه.
كان مقاتل آخر اسمه كيف، قد أصيب هو الآخر، والدم يتدفق من عنقه. لم ينج الرجل، على رغم محاولات مستميتة قام بها رفيق ثالث هو محارب بريطاني أيضاً معروف باسم ليدز.
كان صولو، 43 سنة، المتحدر من يوركشير، مقرباً من الرجلين اللذين قتلا، إذ وطد علاقته بهما أثناء خدمتهم في الجبهة مع الفيلق الدولي المؤلف من متطوعين أجانب يقاتلون إلى جانب أوكرانيا بعد غزو فلاديمير بوتين البلاد.
ويسترجع تلك الأحداث فيقول "وقعت اشتباكات ضارية فعلاً عندها. عادة، أستخدم 60 طلقة كحد أقصى في عملية كهذه، لكنني أطلقت 140 منها ذلك اليوم، وأصبحت الأسلحة التي نحملها ساخنة. كان الروس على بعد 10 أو 15 متراً عنا فحسب، ساد وضع غريب إلى حد الجنون بعض الشيء".
"في إحدى اللحظات، تسلل جندي روسي وراء ليدز الذي كان يعتني بكيف. وفيما همَّ بإطلاق الرصاص عليه، تمكنت من إصابته. ابتسم ليدز وأشار إليَّ بإبهامه، كان الرجل قريباً منه لدرجة أنه وقع عليه، ثم عادت الفوضى".
إن صولو وغوست وليدز وكيف أسماء مستعارة وهي رموز نداء عسكري. ولا يمكن الكشف عن هوية صولو وليدز، الرجلين المتحدرين من يوركشير، والجنديين السابقين، لدواع أمنية.
أما غوست، فكان لقب مايكل زوريك البالغ من العمر 45 سنة، الذي خدم في صفوف الجيش البولندي قبل أن يقصد أوكرانيا. وحضر عناصر من القوات المسلحة التابعة للبلدين جنازته التي أقيمت في مسقط رأسه، برلين.
جاء في نعي السيد زوريك، الوالد لأربعة أبناء "مات في سبيل أوكرانيا حرة وبولندا آمنة. وقدم دمه وروحه". خلال الجنازة، تحدثت نتاليا، ابنته البالغة من العمر 16 سنة عن "أب رائع، علمنا أهمية دعم بعضنا بعضاً واعتماد بعضنا على بعض".
في بداية الحرب، ذهب كيفن ديفيد، 30 سنة، من فرنسا إلى أوكرانيا، للعمل في مجال الإغاثة الإنسانية. وأسرَّ لأصدقائه بأن المعاناة التي شاهدها بسبب القوات الروسية جعلته يحمل السلاح. وقال أحد زملائه من المتطوعين الفرنسيين "فكر ملياً بالموضوع وقرر أن قتال العدو هو أفضل طريقة لحماية المدنيين".
صولو هو أحد المحاربين الذين بقوا [في أوكرانيا] بعدما عاد كثير منهم إلى ديارهم. كان بعض الذين غادروا متوهمين ومتخيلين وأصحاب قصص منمقة ومشكوك بها عن القوات الخاصة. وغادر بعضهم بعد مواجهته حقيقة وحشية النزاع. ورحل آخرون في البداية عندما قيل لهم إن القواعد تنص على ضرورة بقائهم طوال مدة الحرب.
والعناصر الذين لم يغادروا هم جنود متمرسون في القتال، عجنتهم ميادين الحرب، ملتزمون خوض هذا الصراع، ويشاركون في بعض أخطر المهام القتالية في الحرب. وهم يقولون إنهم مدركون تماماً سقوط الخسائر بلا هوادة من الطرفين وليسوا بغافلين عن احتمال عدم عودتهم إلى ديارهم.
يقدر عدد المتطوعين البريطانيين الذين لقوا حتفهم في أوكرانيا بنحو 10 أشخاص. في بعض الحالات، مرت أشهر قبل أن تعرف أسرهم ما حل بهم. خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، أخطر الأوكرانيون السلطات البريطانية بالعثور في جنوب البلاد على جثة دانيال بورك، العضو السابق في كتيبة المظليين الذي فقد أثره في بداية أغسطس (آب).
ويقول صولو "ندرك جميعاً احتمال موتنا. لقد واريت أكثر من 50 صديقاً التراب هنا، كانوا من مختلف الجنسيات. أما غوست، فكان صديقاً جيداً، وقائداً عظيماً. عرفناه رحيماً جداً في الوقت الذي لم ير فيه الآخرون سوى رجل ضخم ومخيف. وكيف كان شاباً رائعاً وسوف نفتقدهما".
"أؤكد لك أننا نسعى حثيثاً للبقاء على قيد الحياة. لا نقوم بمهام نعتقد أنها تنطوي على مخاطرة غير ضرورية لكننا نعرف واقع الحال هنا كذلك. لا تضاهي خسائر الأوكرانيين خسائر الروس ضخامة لكنها مرتفعة. صحيح طبعاً أن الأوكرانيين يملكون الآن كثيراً من دبابات وناقلات الجند المدرعة من "الناتو"، لكننا نضطر إلى الترجل لخوض جزء كبير من القتال لأن حقول الألغام تمثل مشكلة بالنسبة إلى المدرعات. ولهذا فالخطر يحدق بك دوماً لأنك هدف في الخنادق والميادين المفتوحة".
بعد أسبوعين من وصول صولو ورفاقه من مختلف الجنسيات إلى أوكرانيا، طالعتهم اللمحة الأولى عما ينتظرهم. وقع 30 صاروخاً على القاعدة التي يتدربون فيها في يافوريف، قرب لفيف في الغرب. وتفاخر الكرملين بـ"مقتل 180 عنصراً من المرتزقة الأجانب".
في المقابل، أفادت السلطات الأوكرانية عن مصرع 60 شخصاً وجرح 160 آخرين، جميعهم من الأوكرانيين، فيما زعمت روايات أخرى أن عشرات المتطوعين الأجانب قد قتلوا. وأشار تقرير إخباري محلي عن مقتل ثلاثة مواطنين بريطانيين. كان الخبر غير صحيح لكنه أوقع اضطراباً شديداً في نفوس العائلات في المملكة المتحدة.
كان نحو ألف أجنبي موجودين في معسكر يافاريف وقت الإغارة عليه. ويتذكر صولو الأحداث فيقول "إن ما قاله الروس عن مقتل المئات كان دعاية، لكن الهجوم خلَّف الوقع المنشود الذي صبوا إليه- غادر نحو نصف المتطوعين البلد في اليوم التالي".
"كان الأمر مفهوماً، فما حصل مريع. وقعت الانفجارات بوتيرة متتالية. أخذت بعض المباني تحترق، وكان الناس ملطخين بالدماء ويصرخون والجثث محترقة، كان مشهداً بالغ القباحة".
أثنى الجيش الأوكراني على صولو لمساعدته في الإشراف على إجلاء المتدربين الآخرين من المهاجع. وهو آخر شخص غادر المبنى.
ويقول "ظهر [تبدت ثمار] تدريبي العسكري بسرعة، هذا كل ما في الأمر". قضى الرجل سبع سنوات في الجيش البريطاني، في فصيل مشاة مسلح بالهاون، مع كتيبة يوركشير وخدم في مهام عدة للجيش في الخارج. خدم جداه أيضاً في القوات العسكرية، في الجيش وسلاح الجو الملكي.
ترك صولو الجيش برتبة ضابط صف واستقر مع شريكته. بدأ العمل في قطاع الأمن الخاص، وفي توفير الحراس لقطاع البيع بالتجزئة. لم تستمر علاقته العاطفية طويلاً لكنه نجح في حياته العملية وازدهرت شركته.
مع ذلك، اشتاق الجندي السابق لشكل حياة أكثر نشاطاً وقدم طلباً للالتحاق بالشرطة وتلقى قبولاً للانضمام من خلال نظام المسار السريع، لكن قبل أن يتسنى له أن يبدأ حتى، أصيب صولو بجروح بالغة في حادثة سيارة.
أبلغه الأطباء بأنه لن يعاود المشي من دون مساعدة مجدداً على الأرجح، وقضى الـ12 سنة التالية من حياته على كرسي متحرك، ثم بدأ يسير بمساعدة عكاز. ركز على إعادة التأهيل وعلى اللياقة البدنية، وحصل على شهادة في علم الحفريات من الجامعة المفتوحة.
التقينا في مقهى في مدينة دروجفيفكا في دونباس، بعد عودته من دورية حراسة. هو رجل متوسط الطول، ورشيق ويحرص على التصرف بلباقة مع الأشخاص المحيطين بنا فيما يتبادل التحية مع المدنيين والجنود الأوكرانيين. ويتحدث عن تجربته وعن عواطفه بصوت واقعي عملي، فلا يتوقف عن الكلام إلا لكي يتذكر التفاصيل.
إن حركة صولو وأفراد وحدته مقيدة حتى عندما لا يكون في الخدمة. غالباً ما تكون فرص التبضع هنا محدودة، لذلك سألته إن كان باستطاعتنا أن نزوده بأي شيء.
يقول إنه لا يحتاج إلى شيء شخصي لكنه يطلب بعض "الهدايا الصغيرة" لرجال وحدته، إن أمكن. "هذا يسعدهم وهم يستحقون ذلك بعد كل معاناتهم، سنكون ممتنين جداً".
انفصل صولو عن زوجته ولديهما صبي مراهق. بث قراره بالتطوع في أوكرانيا شعوراً بالقلق وسط عائلته، يزداد مع زيادة فترة وجوده هناك. وهو يحاول أن يطمئنهم لكنه يقر بالضغط النفسي الذي لا بد يشعرون به.
يرفع يديه في الهواء ويقول ضاحكاً "اعتمدت أمي مقاربة أكثر عملية الآن. هي مستشارة نفسية، ومعروفة جداً في مجال عملها في الحقيقة، لدرجة أن أحد عملائها كان فرداً من العائلة المالكة، وقررت أن تتعامل معي كما لو كنت أحد عملائها، لكنني أجاريها، فأنا متأكد أن هذا يساعدها. يجب أن نستعد ذهنياً كما جسدياً لما نواجهه".
لم يغادر صولو أوكرانيا منذ لحظة وصوله. وخلال وجوده هناك، نجا ثلاث مرات من الموت بقذائف المدفعية والهاون والعبوات اليدوية الصنع، وأصيب بكسور في ضلوعه وعظامه. خضع الأسبوع الماضي إلى عملية جراحية في معدته في خاركيف لمداواة إصابة لم تشف بعد.
بعد التحاقه بالفيلق الدولي، تقلد الجندي السابق رتبة رقيب في الكتيبة الأولى ثم حصل على ترقية وأصبح رقيباً أول. شارك ووحدته في الدفاع عن كييف في مارس (آذار) ثم خاركيف الشهر التالي.
يشارك صولو الآن في فرقة رد سريع تتمركز حالياً على مسافة قريبة من الحدود الروسية. تحدث اشتباكات على طول الجبهة لكن المهمة الرئيسة هي استعادة باخموت. أصبحت السيطرة على المدينة التي سويت بالأرض تقريباً، بمثابة جائزة رمزية بدلاً من أن تكون استراتيجية، بالنسبة إلى موسكو وكييف على حد سواء.
لا يزال محيط باخموت خطراً جداً. في وقت سابق من الشهر الجاري، قتل متطوعان أجنبيان يعملان في توصيل المساعدات، هما الكندي زنثوني إينات والإسبانية إيما إيغوال، فيما جرح اثنان آخران بضربة صاروخية.
كانت روسيا وضعت اليد على باخموت بقيادة مجموعة مرتزقة "فاغنر". حلت المجموعة بعد محاولة الانقلاب على الرئيس بوتين. تمت تصفية رئيس المجموعة يفغيني بريغوجين، كما قيادتها العليا عندما أسقطت الطائرة التي كانوا يسافرون على متنها. اعتبر تدمير الطائرة عملاً انتقامياً قاسياً قام به الكرملين.
خاض صولو ورفاقه معارك كثيرة ضد "فاغنر" وكان المرتزقة الذين حاربوه أعداء أشداء، كما أن الاشتباك الذي جرى في باخموت وأدى إلى مصرع غوست وكيف كان في مواجهة قوات "فاغنر"، إضافة إلى معركة شرسة أخرى في كوبيانسك في منطقة خاركيف، أثناء محاولات استرجاع جثة متطوع بريطاني اسمه سكوتي.
ويقول صولو "نلتزم شعاراً في الجيش البريطاني، كما تعلم، وهو ’لا تتخل عن أي رجل‘. ذهبنا لاستعادة جثة سكوتي خمس مرات، وكان في حقل لدوار الشمس. عرف الروس بأننا سنستمر في المحاولة وأصلونا نيران ردع قوية".
"في إحدى الليالي، ذهبنا ونحن نرتدي ملابس تمويه عازلة للحرارة من المفترض أن تقلل من فرص اعتبارنا هدفاً. ربما كان ذلك لينجح لكننا لم نعلم بأن مزيداً من الألغام زرعت في الحقل. فجأة، همس لي أحد الرجال قائلاً ’لا تحرك ساكناً‘. جمدت في مكاني والتفت ببطء عندما طلبوا مني ذلك. كان الرجل يحمل بيده خيطاً التف حولي سابقاً، وطرفه الآخر مربوط بلغم. قطعوا السلك بحذر: كنت أتصبب عرقاً بارداً".
ويرغب صولو بالتشديد على أن الأوكرانيين أيضاً بذلوا كل ما بوسعهم لاستعادة الجثة. "ذهبوا عدداً لا بأس به من المرات كذلك، مخاطرين بحياتهم. استخدم الروس جثة سكوتي طعماً، وفخخوها. في النهاية توجب سحبها ببكرة خطاف ورافعة. بقي ما يكفي من الجثة لاستخراج عينات من الحمض النووي للتعرف إليها".
يحزن صولو وفريقه على خسارة رفاق مثل سكوتي، لكنهم سعيدون لمغادرة آخرين. أحد هؤلاء كان أميركياً لقب نفسه بـ"جوني ألاباما". سرعان ما أصبح الجندي السابق المزعوم في الجيش الأميركي وعمره 25 سنة غير محبوب بعد وصوله بسبب سلوكه وتبجحه.
ويقول صولو "كان جندياً فوضوياً وأزعج الآخرين فلم ترغب أي وحدة به [بانضمامه إلى صفوفها]. شعرت بالأسف تجاهه، وفكرت أنه مع بعض التمرين، يمكن أن يحسن وضعه. دفعت أجرة غرفته في الفندق عندما كان لا يملك المال. أصبح عبئاً فعلياً، وبدأ يأتينا ثملاً. بلغ الأمر حد عدم السماح له باستخدام سلاح. غادر بعد ذلك بفترة قصيرة، اختفى ببساطة".
في فبراير (شباط) 2023، ظهر شريط فيديو لـ"جوني ألاباما" وهو جالس في مطعم في موسكو برفقة صحافي من محطة "آر تي" التي تسيطر عليها الدولة الروسية. وزعم أنه شيوعي مخلص اخترق صفوف الجيش الأوكراني لجمع المعلومات الاستخباراتية.
يهز صولو رأسه ويقول "يا رجل، لقد التقينا بعض المتوهمين وغريبي الأطوار. يأتينا شباب في الـ18 من العمر ليقولوا لنا إنهم كانوا ضباطاً في وكالة الاستخبارات المركزية. أما بالنسبة إلى من يقولون إنهم كانوا في القوات الجوية الخاصة… فحدث ولا حرج".
في المقابل، استبعد بعض الجنود من القوات كذلك. وجد ليدز بطاقة صحافة وصور نفسه وهو يضعها فوق بدلته الواقية من الرصاص فيما يحمل سلاحه. "كانت دعابة سخيفة، وتصرفاً أحمق، لكن النتيجة أنهم سرحوه. كان ذلك مؤسفاً لأنه رجل محترم. أعتقد بأنه يأخذ استراحة الآن في الديار ويقرر ماذا سيفعل. على أمل بأن يعود إن كان يرغب بذلك. سنرى".
أما بالنسبة إليه شخصياً، فلا يزال صولو ملتزماً أوكرانيا. إلى جانب مخاطرته بحياته، أنفق قسماً كبيراً من مدخراته على نفسه وزملائه المتطوعين، كما يقول.
ويفكر في الموضوع، فيضيف "أعتقد أنه يمكنك القول إنني أحاول إعادة عيش الفترة التي قضيتها في الجيش. لا شك في أنني استمتعت بوقتي هناك وغادرت في وقت مبكر بعض الشيء، لكن الأمر أكثر من ذلك بقليل. أشعر هنا بأنني أقوم بعمل قيم، بأنني أحارب من أجل قضية خيرة. أعلم بأن بعض الأشخاص سيعتبرون ذلك القول مبتذلاً لكن هذا ما أؤمن به وسوف أواصل هذه المسيرة".
© The Independent