ملخص
هل من عمر افتراضي للفنان على الشاشة وفوق المسرح؟
سر غريب يربط بين الفن ومن يعملون به وفكرة الاعتزال تكون صعبة جداً بل شبه مستحيلة عند معظم الفنانين لأنهم يرون في الفن عزاً وجاهاً وعلاقات وشهرة ومعجبين وأضواء. وحتى لو تقدم الفنان في السن وفقد الممثل كثيراً من لياقته وحركته وتخلى الصوت الجميل والعذب عن صاحبه، يظل الفنان متمسكاً بفنه حتى الرمق الأخيرة، غير مصدق أنه يمكن أن يغادر المسرح أو الشاشة بعد سنوات طويلة من التألق والنجاح والجماهيرية.
معظم حالات الاعتزال في الوسط الفني تعود لأسباب دينية، وفي حالات أخرى يمكن أن يتخلى الجمهور عن الفنان ويشعر بالتململ منه ولكن الفنان يرفض الإقرار بذلك، وقليلون هم الذين أعلنوا اعتزالهم مع أنهم ضمناً بحكم المعتزلين أو المستبعدين. فهل هناك عمر افتراضي للاعتزال؟
تجربة مختلفة
يندهش الفنان حسام تحسين بيك (83 سنة) عندما يسأل عن الاعتزال. فيقول لـ"اندبندنت عربية"، "لماذا يعتزل الممثل إذا كان يملك القدرة والنشاط ويتمتع بذاكرة جيدة. فعندما تتقدم به السن يمكنه أن يشارك في أدوار تناسب عمره أو أن يعتذر عن الأعمال التي يجري تصويرها في بلاد بعيدة. المرض هو السبب الوحيد الذي يجبر الممثل على الاعتزال. أما المسرحي فهو يستمر أيضاً ويبقى ممثلاً، لكن لياقته وحركته تضعفان وتتثاقل مشيته وتصبح ردود فعله أقل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف تحسين بيك "لكن وضع المغني يختلف تماماً عندما تتقدم به السن، لأن قدراته الصوتية تضعف ونفسه لا يظل بالقوة نفسها، ويصل إلى مرحلة يعجز فيها عن إرضاء جمهوره ويلجأ إلى ماضيه، لكن هذا لا يفيده ولا يصب في مصلحته".
تحسين بيك الموجود على الساحة الفنية منذ ما يقارب الـ60 عاماً لم تراوده يوماً فكرة الاعتزال كما يقول، "تجربتي تختلف عن تجارب الآخرين لأنني بدأت كمصمم رقص وملحن وكاتب نص، والاعتزال بعيد عني، وفي حال اعتزلت التمثيل يمكن أن أعمل في التلحين أو في الكتابة، وقد نفذت تصاميم الرقص في كل مسرحيات دريد لحام، إضافة إلى تأليف بعض الألحان وبعض كلمات الأغنيات، وعملي في التمثيل حصل من طريق الصدفة، ولم أركز يوماً في مجال على حساب المجالات الأخرى، بل استعملت كل مواهبي لخدمة فني".
إشاعات عفاف شعيب
الفنانة عفاف شعيب تؤكد أن إشاعات الاعتزال تلاحقها دائماً، ولكنها لم تعتزل أبداً، بل قدمت وهي ترتدي الحجاب 20 مسلسلاً من بينها "العار" و"الكيف" و"آدم" و"الشعراوي" وغيرها، تقول "من يرجون إشاعة اعتزالي دائماً يظنون أنني أحاربهم في رزقهم وعملهم، والفن مجال عمل فيه الغيرة والحسد كأي مجال آخر، ولكنني يمكن أن أبتعد عندما لا تتوفر الأدوار الجيدة، وقبل مدة عرض لي (زي القمر)، كما عرض عليّ قبله كثير من الأعمال اعتذرت عنها لأنها لم تعجبني. وفي الأساس لا يوجد عمر افتراضي لاعتزال الفنان، وأمينة رزق استمرت حتى سن 95 سنة، وقد عملت عندما تقدمت بها السن أكثر مما اشتغلت في صباها، وهناك أيضاً إنعام سالوسة وحسين فهمي ويحيى الفخراني وكلهم فنانون كبار قادرون على العطاء".
توضح شعيب أن الفنان يمكن أن يستمر حتى اللحظة الأخيرة وهذا هو دور الفن، لكن الأهم هو اختيار الأدوار وتقديم الشخصيات المناسبة، وعندما يتوفر الدور الجيد فلن ترفضه، والدور الذي لا يعجبها ولا يضيف إلى تجربتها الفنية لن توافق عليه.
في المقابل تشير شعيب إلى أن فكرة الاعتزال تراودها بين فترة وأخرى. تقول إن "كل شيء تغير والفن لم يعد كما كان عليه سابقاً، وعندما لا أجد نفسي في أدوار كثيرة من بين التي تعرض عليّ لا أعرف ماذا يمكن أن يكون موقفي. الفن يسري في دم الفنان الذي يجد صعوبة في الابتعاد عنه طالما أنه يقدم رسالة جميلة يستفيد منها الناس، وأنا أريد أن يستفيد الناس في المجتمع المصري والعربي من أعمالي، وأسعى إلى تقديم كل ما هو جيد، وهذا هو دور الفن والدراما، ولكنني لا أفكر حالياً في الاعتزال".
ترفض شعيب الحكم المسبق على الفنانات اللاتي يعتزلن ثم يعدن إلى الفن، فهو "ليس حكراً على أحد، ويحق لأي فنانة أن تعود إلى التمثيل إذا كانت تمر بظروف مادية صعبة أو تعاني بسبب الوحدة أو بسبب حنينها إلى الفن. إنها حرية شخصية وفاتن حمامة نفسها ابتعدت فترة طويلة ثم عادت، وغيرها كثيرات ممن ينتمين إلى جيلها الفني. الحنين للفن وارد جداً ومن يدخله لا يتخلى عنه بسهولة، وهو جميل لو تم استخدامه بشكل صحيح وبالسلوكيات والأخلاقيات والأعمال الهادفة كما في أعمال أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبدالقوي ومجدي صابر ويوسف الجندي ومحفوظ عبدالرحمن وعبدالسلام أمين، لكن كما أن هناك الجيد يوجد الرديء أيضاً، وهناك من يقدم فناً هابطاً ومبتذلاً ولا فائدة منه وأتمنى أن يعود إلى الفن رقيه واحترامه وسلوكياته الجيدة".
فن بلا قيمة
مايا يزبك اعتزلت الفن منذ نحو 40 عاماً عندما قررت أن تعطي الأولوية لعائلتها. تقول "قررت التفرغ لأولادي وحياتي الزوجية، واليوم عندما أفكر بالعودة أخاف كثيراً لأن الظروف تغيرت، وخصوصاً أنني أنتمي إلى جيل من زمن آخر وفن اليوم مصطنع وفاقد العمق، صحيح أن بعض الفنانات جمعن بين الفن والعائلة، لكن ظروفي كانت مختلفة لعدم وجود شخص يمكن أن أثق به للاهتمام بالأولاد، إضافة إلى ذلك، فالفن كان بالنسبة إليّ هواية وليس احترافاً، ولم أجد أن التخلي عنه أمر عظيم، واليوم كل من حولي انطلاقاً من خبرتهم لا يشجعونني على العودة أبداً".
الإعلامي والناقد روبير فرنجية يرجع قرار اعتزال الفنان إلى أسباب عدة "من بينها العامل الديني كما في تجربة نهاد فتوح التي ارتدت الحجاب وحاولت سحب أغانيها من الأسواق، فضلاً عن محاربة والدتها الفنانة سعاد محمد التي عارضت دخولها المجال الفني. وربيع الخولي الذي أصبح اليوم الأب طوني الخولي ولكنه لا يخجل من المرحلة التي كان فيها مغنياً، بل ينشر أغانيه على حساباته بمواقع التواصل الاجتماعي، وكان قد قرر الاعتزال عندما شعر بأن عائلته تتفتت بعد وفاة شقيقه في حادثة سيارة، وإحساسه بالذنب لأنه هو من اشتراها له، وبسبب تداعيات زواج شقيقته روزي الفاشل من الممثل محمود سعيد. وهناك سليم الجردي الذي أصبح شيخاً، وهو من مطربي الإذاعة اللبنانية وفي مقدمة الفنانين الذين أعلنوا الاعتزال. وباسمة وأمل حجازي وأدهم النابلسي وغيرهم".
ويتابع فرنجية "كما يمكن أن يعتزل الفنان عندما تتراجع جماهريته كما في حال ماري سليمان التي تفرغت لأمورها العائلية وهي في عز تألقها، ولم تتمكن بعدها من استرجاع نجوميتها أو تتقبل أن تكون نجمة صف ثان بعد أن كانت تنافس أولاد بلدتها (كفر شيما) ماجدة الرومي وملحم بركات وعصام رجي. ومثلها منى مرعشلي التي ابتعدت عن الفن قبل 12 عاماً من رحيلها، وطالما أكدت لي أن العصر لم يعد عصرها، بل عصر الغنوجة والدلوعة وهي ليست غنوجة أو دلوعة، ولم تكن ترغب بالاعتزال، لكنها أجبرت عليه وركزت على الاهتمام بوالدتها ودفعت الثمن من هذه الناحية أيضاً".
سميرة وذكاء الاعتزال
إلى جانب السببين الديني والجماهيري، يتحدث فرنجية عن أسباب أخرى، فـ"هناك فنانون اعتزلوا عندما غادروا لبنان، من بينهم محمد جمال ورجا بدر وطروب ونهاد سرور، وقد شعروا أن الحرب همشتهم وأبعدتهم عن المسرح. وفئة أخرى اختفت مع أنها كانت قد حققت نجاحاً كبيراً كـمروان أدهم ومنعم فريحة ونديم برباري ومها الريم ومي بيلوني ورونزا التي تركز على تدريب الأصوات، فضلاً عن فنانين آخرين يحاولون مقاومة الاعتزال عبر الوجود في الإعلام والمناسبات الاجتماعية، لكنهم لا ينتجون أعمالاً جديدة، كما أن بعض الفنانين اعتزلوا بسبب خيبة أملهم في مديري أعمالهم".
وبين الاعتزال والعودة يرى فرنجية أن "للفن مغرياته والانسحاب منه والابتعاد عن الأضواء ليس بالأمر السهل على الإطلاق، فهم يعتبرون أن الفن يؤمن لهم نجومية كبيرة وحالاً اجتماعية معينة لا يمكنهم أن يعيشوا من دونها، ولكن هناك فنانين معتزلين ضمنياً ولا يطرحون أعمالاً جديدة أو يحييون حفلات، لكنهم لا يعلنون اعتزالهم لأنهم يفكرون في أنهم يمكن أن يعودوا يوماً ما إلى الساحة".
كما يعتبر فرنجية أن تمسك الراحلة صباح بالغناء حتى آخر أيامها جعل منها نموذجاً عند الفنانين الذين يرفضون فكرة الاعتزال حتى لو تقدموا في العمر، "صباح لقنت الفنانين درساً هو أن الفنان يجب ألا يعتزل ومن حيث المبدأ يعرف الفنان الذكي أنه يجب أن يعتزل عندما يتعب صوته ويخف وهجه ولا يعود مطلوباً. وبرأيي فإن هناك عمراً افتراضياً للاعتزال لأن الصوت يتعب بعد عمر الـ70، والأمثلة كثيرة على ذلك، وفي حال أصر على الاستمرار فإنه يجني على نفسه وتاريخه الفني، وتململ الناس منه ليس بالأمر السهل على الإطلاق. وهناك عدد كبير من الفنانين كان يفترض بهم أن يعتزلوا ولكنهم استمروا لسبب أو لآخر من بينهم صباح ووديع الصافي وصباح فخري، بينما سميرة توفيق قررت الانكفاء والابتعاد مع أنها لم تعلن اعتزالها رسمياً".
وعن رأيه بحفل ميادة الحناوي الأخير في السعودية والانتقادات التي تعرضت لها بسبب تراجع صوتها وأدائها، يوضح "هذا صحيح. هي حاولت أن تحيي حفلاً في لبنان قبل موجة كورونا، وطلب مني يومها أن أقدمها ولكنها أصيبت بنكسة بسبب قلة الحجوزات، وحملت المتعهد المسؤولية واتهمته بعدم الاهتمام، ولكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق".