ملخص
خلاف جديد بين الحكومة الإثيوبية وإقليم تيغراي يقف خلفها مشروع "العدالة الانتقالية" المقدم من أديس أبابا... فما السر؟
اعترضت حكومة إقليم تيغراي الموقتة على مبادرة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لتطبيق مشروع "العدالة الانتقالية"، معتبرة إياها قائمة على أسس خاطئة تتجاهل طبيعة الصراع في شمال البلاد.
وفي رسالة موجهة إلى وزارة العدل الإثيوبية، طلب نائب رئيس حكومة الإقليم الجنرال تسادكان غبرتينساي عقد اجتماع لمناقشة المخاوف وإيجاد طريقة للمضي قدماً.
ونصت الرسالة على أن المبادرة الفيدرالية تجاهلت شروط اتفاق بريتوريا وانتقدت نظام العدالة الانتقالية الوطني الذي تقوده الحكومة الفيدرالية، من دون إشراك الفرقاء بمن فيهم حكومة إقليم تيغراي في إثيوبيا.
ورأى غبرتينساي أن "المبادرة فضلاً عن أنها تعبر عن رؤية أحادية للحكومة الفيدرالية، فهي تفتح الباب أمام المتهمين بالضلوع في جرائم حرب للإفلات من العقاب"، مشيراً إلى أن اتفاق بريتوريا للسلام ينص على ضرورة تشكيل لجان حقوقية وقضائية للنظر في مزاعم الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، فضلاً عن تهم تتعلق بـ"الإبادة الجماعية والتصفية العرقية للتيغراويين".
ولفت الانتباه إلى أن "أي مبادرات للسلم ينبغي أن تتوافر على شرطين أساسيين، أولهما اعتبار اتفاق بريتوريا أساساً متيناً لها، والثاني أن تتوافر على توافق وطني حول محاورها الأساسية".
ودعا المسؤول التيغراوي الذي شغل منصب قائد الجيش خلال حرب تيغراي الأخيرة إلى عقد "مؤتمر للحوار الوطني الشامل" يقرر بشكل توافقي إطلاق مشروع العدالة الانتقالية، بما يتوافق مع نص وروح اتفاق بريتوريا للسلام.
وثيقة العدالة الانتقالية
وكانت الحكومة الفيدرالية أزاحت الستار لوسائل الإعلام المحلية عن مسودة "مشروع العدالة الانتقالية"، وقالت وزارة العدل الاتحادية إن الوثيقة تم إعدادها بناء على نتائج دراسة أجراها خبراء حقوقيون بهدف "التماس مداخلات من أصحاب المصلحة المعنيين، سواء بإضافة اقتراحات جديدة أو إثراء مضمونها".
وتضم المسودة ثلاثة أجزاء رئيسة، يتناول الجزء الأول منها تاريخ العدالة الانتقالية في إثيوبيا وصلتها بالوضع الحالي، بينما يتطرق الجزء الثاني إلى تحليل خيارات السياسة البديلة على نطاق واسع من الآليات لتحقيق العدالة الانتقالية في إثيوبيا، أما الجزء الأخير فيبحث اقتراح مجموعة من الترتيبات المؤسسية لتنفيذ آليات العدالة الانتقالية في البلاد التي لا تزال تشهد حروباً في أكثر من إقليم.
وعلقت وزارة العدل الاتحادية على المسودة بقولها إنها في حال إقرارها بوسعها الإسهام في استتباب السلام المستدام والمصالحة والعدالة.
وكشف المتخصص الإثيوبي في مجال العدالة الانتقالية ماريشيت تاديسي خلال مؤتمر صحافي عن أن "إثيوبيا حاولت تطبيق بعض مبادئ العدالة الانتقالية في تجارب سابقة"، مضيفاً "نظراً إلى عدم وجود إطار شامل للعدالة الانتقالية، جعل جهودها غير فاعلة وغير متماسكة ومشتتة إلى حد كبير".
وتابع أن "سياسة العدالة الانتقالية لن تعفي المتهمين بارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من المقاضاة"، موضحاً أن "كل المزاعم بما في ذلك الاتهامات المتعلقة بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، سيبتّها القضاء".
تجاوز ذاكرة الحرب
بدوره، رأى المتخصص في شؤون القرن الأفريقي عبدالرحمن أبو هاشم أن "ثمة إشكالاً كبيراً لدى الطرفين الحكومي وجبهة تحرير تيغراي في ما يتعلق بمفهوم العدالة الانتقالية"، ويعود ذلك لتباين التعريفات لدى كل طرف حول ما حدث خلال عامي الحرب في شمال البلاد.
ففي حين تعرف الجبهة ما جرى باعتباره "حرب إبادة جماعية استهدفت وجود عرقية تيغراي"، ترى الحكومة الفيدرالية أنها واجهت تمرداً مسلحاً من قبل تنظيم الجبهة الشعبية وجيشها الذي نفذ عملية عسكرية استباقية ضد الحامية الشمالية للجيش النظامي.
وذكر أبو هاشم أن "الجبهة نجحت نسبياً في الترويج لسرديتها التي استمالت جزءاً مقدراً من الرأي العام التيغراوي والدولي، وما زالت تزعم بوقوع جرائم إبادة جماعية وأخرى ترقى إلى جرائم حرب" ارتكبت بحق المدنيين من قبل الجيش النظامي وحلفائه من القوات الخاصة لإقليم أمهرة والقوات الإريترية.
في المقابل تواجه الحكومة الفيدرالية تلك الحملة بسردية مغايرة، وتتهم الجبهة بارتكاب مجزرة بحق الجيش الإثيوبي الذي كان يحمي حدود البلاد الشمالية، إضافة إلى مجزرة أخرى بحق المدنيين الأمهريين في إقليم "ولقايت" الذي ظل تحت إدارة الحكومة التيغراوية السابقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى أبو هاشم أن التباين المركزي بين السرديتين يعد العائق الأول لمسيرة "العدالة الانتقالية"، إذ يستوجب الأمر إجراء تحقيقات موسعة حول كل المزاعم القائمة من الطرفين لتحديد مدى صحة الروايات المتعلقة بوقوع جرائم إبادة، أو أي نوع آخر من الجرائم المتصلة بالحروب، على أن يتم تحديد الجاني، ومن ثم الاتفاق حول سبل معالجة الأمر.
ويوضح أن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية في الغالب يعالج مثل هذه القضايا من خلال التعويضات وجبر الضرر، مع إمكان تقديم بعض المسؤولين إلى المحاكم أو إعفائهم من أي مهمات قيادية.
وينوه بأن هذا المفهوم الذي تم تطبيقه في تجارب دولية وإقليمية عدة، بما في ذلك في جنوب أفريقيا التي رعت اتفاق السلام بين أديس أبابا والجبهة، يهدف في الأساس إلى تضميد الجراح وتحقيق المصالحة الوطنية وإجراء إصلاحات مؤسسية لتفادي وقوع أحداث مماثلة، وهذا بدوره يتطلب من أطراف النزاع الإثيوبي التوافق والعمل على إنجاح العدالة الانتقالية.
وفي حديثه إلى "اندبندنت عربية"، يشكك أبو هاشم في نجاح المشروع المقترح للعدالة الانتقالية إذا ما أصرّت الجبهة على مواقفها المدعومة من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وتنشغل الحكومة الفيدرالية بإدارة حروب في أقاليم أخرى كإقليمي أمهرة وأورومو، علاوة على تداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة واستحقاقات سد النهضة.
ويضيف، "من الصعوبة بمكان توقع نجاح هذا المشروع وذلك لتمسك كل طرف بمواقفه"، إذ لا يمكن تصور تحقيق أي تقدم في ظل الحال السياسية القائمة، موضحاً "أن الطرفين مدعوان إلى تقديم تنازلات كبيرة من أجل مرور المشروع وضمان عدم تكرار تجربة الحرب".
ويؤكد أن معظم التحليلات السياسية في إثيوبيا تشير إلى أن الطرفين "يسعيان إلى كسب الوقت أكثر من سعيهما لإنهاء ذاكرة الحرب وتجاوز تداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية".
المأزق السياسي
ورأى أبو هاشم أن المأزق الحقيقي ليس قانونياً بل سياسياً، موضحاً أن "الحديث عن تناقض مشروع العدالة الانتقالية مع مخرجات اتفاق بريتوريا للسلام عار من الصحة".
ويقول "لا تناقض بين اتفاق بريتوريا ومشروع العدالة الانتقالية لأن أهم أهداف الاتفاق هو إنهاء الصراع المسلح بين الطرفين بشكل كلي والسماح بدخول المساعدات الإنسانية والخدمات إلى إقليم تيغراي، فضلاً عن التأسيس لحياة سياسية انتقالية"، مشيراً إلى أن اتخاذ تدابير العدالة الانتقالية يعد خياراً مهماً لتطبيق الاتفاق، لا سيما أن هذا الخيار يسعى إلى تضميد الجراح التي خلفتها الحرب ويؤسس لذاكرة جديدة، وفق قواعد تعلي من شأن الدستور الفيدرالي الذي يعتبره الاتفاق المرجع الرئيس لبتّ النزاعات الداخلية كافة.
وأقر بأن ذلك يتطلب إرادة سياسية مشتركة مع الاعتراف بأن ملف الانتهاكات سيظل يلاحق من أصدر قرار الحرب في الأساس، باعتبار تلك الانتهاكات نتيجة مباشرة لهذا القرار. وطالما وقع الطرفان على اتفاق لإنهاء الحرب، فثمة متطلبات بالضرورة تؤدي إلى تنازلات متبادلة عن المطالبة بتقديم القادة إلى العدالة".
أزمة بناء الثقة
من جهته، يرى المتخصص في الشأن السياسي التيغراوي سلمون محاري أن العدالة الانتقالية منصوص عليها في اتفاق بريتوريا للسلام، وكخيار لا بديل عنه، مؤكداً "أنها الطريقة المثلى لتجاوز حال الحرب وتداعياتها السياسية والنفسية".
ويعرب عن اعتقاده بأن "الأزمة الحقيقية تكمن في انعدام الثقة بين طرفي النزاع"، فعلى رغم توقيعهما على الاتفاق وسعيهما إلى إنهاء الأعمال العدائية لأسباب لوجستية واستراتيجية، إلا أنهما فشلا في بناء الثقة، بخاصة وسط الضغوط السياسية والشعبية التي تمارس على الطرفين.
ويشير محاري إلى أن "الجبهة تبدو الطرف الأضعف في المعادلة"، لجهة الضغوط التي تمارس عليها من قبل منتسبي قوات الدفاع التيغراوية، فضلاً عن القوى السياسية المعارضة التي تتظاهر ضدها، واعتبر أنها خسرت الحرب ولم تكسب السلام بشكل يحقق مصالح التيغراويين.
ويلفت إلى أنه على رغم الرغبة الكبيرة للتعاون التي أبداها رئيس الإقليم غيتاشوا ردا تجاه الحكومة المركزية وتأكيده على عدم العودة لأي نزاع مسلح، إلا أن إدارة آبي أحمد تتصرف بشكل لا يوحي برغبتها في بناء شراكة حقيقية.
وينوه بأن مشروع "العدالة الانتقالية" المقترح تم إعداده من قبل موظفين في وزارة العدل الاتحادية من دون إشراك الطرف الرئيس في المعادلة، وهو القيادة السياسية في تيغراي.
ويختتم محاري حديثه بالقول إن ثمة حاجة ملحة للمشاركة السياسية الواسعة ليس من قبل حكومة تيغراي فحسب، بل من كل القوى السياسية والمجتمعية في البلاد لصياغة مسودة تستوعب كل الحساسيات، وتخطو بالبلاد نحو عدالة ناجزة لتجاوز تواريخ الحروب.