Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نعي جديد لليبرالية

دعوة إلى الاستعداد لـ"الفوضى العالمية" والإدراك أن المستقبل ليس للإنسانية

جون غراي يشتهر بمهارته في كشف التناقضات المقبولة على نطاق واسع (غيتي)

ملخص

يقدم كتاب "الطاغوت الجديد: أفكار بعد الليبرالية" رؤية متشائمة للمستقبل القادم للبشرية متوقعاً فوضى عالمية

"في الوقت الذي يعيش فيه البشر دونما قوة مشتركة يهابونها جميعاً ويعيشون بسببها في حالة رهبة، فإنهم يكونون في ظرف يطلق عليه الحرب، وهذه الحرب، في نظر كل إنسان، تكون ضد كل إنسان، وفي هذا الظرف، لا يكون من مجال للصناعة، لأن ثمارها غير مضمونة، بالتالي ما من زراعة، أو ملاحة، أو استعمال للسلع التي قد تستورد عبر البحر، أو بناء ربحي، أو أدوات للتحريك وإزالة ما يقتضي قوة كبيرة لإزالته، أو معرفة بسطح الأرض، أو حساب للزمن، أو فنون، أو مجتمع، والأسوأ من ذلك كله هو الخوف القائم الدائم، وخطر القتل العنيف، وحياة الإنسان في عزلة وفقر وشقاء وعناء وعوز".

لا أتصور دفاعاً عن "الحكومة" و"الدولة" أقوى من هذا. فتلك كلمات توشك أن تقول إنه "في البدء كان الحكومة"، ثم أعقبها كل شيء، فهي صاحبة الفضل على ما عداها ومن عداها، وكل ما سواها مدين لها أعظم الدين. ولا عجب، فهذه كلمات توماس هوبز (1588-1679) الفيلسوف السياسي الإنجليزي الذي اقترن اسمه بكتابه وأثره الباقي "اللفياثان" الذي فصل فيه نظرية سياسية تنظر إلى الحكومة باعتبارها الأداة الضامنة للأمن الاجتماعي، وبرر فيه ـ بحسب موسوعة بريتانيكا ـ السلطة السياسية بعقد اجتماعي افتراضي يحمل صاحب السلطة مسؤولية أمن الجميع وسلامتهم.

منذ صدور "اللفياثان" سنة 1651، وهو يقلقل الفهم الشائع للعالم، على اختلافات الفهوم الشائعة للعالم من جيل إلى جيل. ومنذ صدوره، دأبت الأجيال التالية على لعنه والطعن فيه، وبقى "اللفياثان" على رغم ذلك طرحاً صامداً ومؤثراً. ولم يقتصر أثره على خلفاء هوبز المشهورين فحسب، من أمثال جون لوك وجان جاك روسو وإيمانويل كانط، وإنما امتد تأثيره بشكل غير مباشر إلى منظرين ربطوا صنع القرار السياسي والأخلاقي لدى البشر باعتبارات المصلحة الذاتية.

ما بعد الليبرالية

والخلاصة أن دراسة "اللفياثان" لم تتوقف قط، سواء لمعارضته وتفنيده أو لاستلهامه والبناء عليه. وأحدث أمثلة ذلك، مع لمسة تناسب القرن الـ21، بل تفسر الوضع العالمي الجنوني الراهن، يتمثل في كتاب صغير الحجم (من 190 صفحة فقط) لجون غراي بعنوان "اللفياثان الجديد: أفكار بعد الليبرالية". وجون غراي مؤلف لعديد من الكتب المرموقة من قبيل "صمت الحيوانات" و"الكتلة السوداء" و"الكلاب الضالة"، وهو أستاذ سابق للعلوم السياسية بجامعة أكسفورد، وأستاذ زائر في هارفرد وييل، وأستاذ للفكر الأوروبي في مدرسة لندن للاقتصاد، وكاتب متواتر النشر في إصدارات مهمة من قبيل "ذي نيويورك رفيو أوف بوكس ونيوستيتسمان".

تكتب آندي أوين في استعراضها للكتاب "ذي كريتيك ـ 4 أغسطس (آب) 2023"، أن الفيلسوف الإنجليزي جون غراي يستعمل في كتابه الجديد أفكار توماس هوبز في درس ما يعتبره "سكرات موت الفكرة السياسية المهيمنة منذ نهاية الحرب الباردة، أي الليبرالية الغربية". هكذا تضع أوين كتاب غراي في سياق السيل الجارف من المقالات والكتابات التي تتناول "ما بعد الليبرالية" مبشرة بها أو نافية لها.

ويبدو أنه لا مهرب حقاً من مصطلح "ما بعد الليبرالية" مثلما يكتب سهراب الأهمري "نيوستيتسمان 8 سبتمبر (أيلول) الجاري". و"افتحوا صفحة الآراء في أي صحيفة كبيرة ناطقة باللغة الإنجليزية، وستجدون على أقل تقدير مقالاً مخصصاً لهذه الظاهرة، عرضاً أو مراجعة. وعادة ما تتعلق هذه المقالات بمجموعة صغيرة من الكتاب الأميركيين الكاثوليك بالأساس ممن يذهبون إلى أن كثيراً من أزماتنا اليوم السياسية والاقتصادية والثقافية إنما مردها إلى الأيديولوجية الليبرالية".

يصر القائلون بما بعد الليبرالية ـ بحسب الأهمري ـ أن مشكلات التفاوت والتدهور البيئي وحروب الهوية وما يتصل بها من اضطرابات "ليست تشوهات طارئة على المثال الليبرالي الأصلي، وإنما هي كمال الليبرالية وتحققها، ذلك أن اندفاع الليبرالية الطائش إلى تعظيم الاستقلال الفردي أدى إلى ألوان جديدة من الطغيان الشنيع، طغيان شركات التكنولوجيا الكبرى واستبداد وول ستريت... واستشراء الوحدة".

ومهما تكن المآخذ على اتجاه "ما بعد الليبرالية"، تطرح ما بعد الليبرالية عدسة قوية لرؤية عالم اليوم على حقيقته الواقعية بحسب ما يقول أستاذ العلوم السياسية غلادن بابين في ما ينقله عنه الأهمري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"وانظروا مثلاً في أن السماح للصين بدخول نظام التجارة الحرة العالمي لم يثمر عن لبرلة المملكة الوسطى [أي الصين]، وإنما أثمر عن أن الغرب هو الذي اعتراه شبه ما بالصين. وتأملوا أيضاً أن الوباء، وحرب أوكرانيا، وصعود بريكس قد ألقت جميعها بظلال شك على كون العولمة ذات القيادة الغربية حتمية لا مفر منها، فضلاً عما نشهده، في الوقت نفسه من لجوء الطبقات الحاكمة في معاقل الغرب باطراد إلى وسائل رقابية وغير ليبرالية للحفاظ على الإجماع الاجتماعي، بما يعني أن الليبراليين أنفسهم لم يعودوا شديدي الليبرالية".

مفارقات التاريخ الفكري

"في ظل هذه الخلفية يأتي كتاب "اللفياثان الجديد" لجون غراي ليطرح تأملاً مطلوباً في الزعم بانتهاء عصر الليبرالية، وفي حياة جدها توماس هوبز وما بعد حياته. ويمتاز الكتاب بما يمتاز به مؤلفه من سعة اطلاع واستطابة لمفارقات التاريخ الفكري، بما يجعله كتاباً مبهجاً ومحرضاً على التفكير، حتى لو أن مؤلفه ينذر بقدوم عالم لا يبدو مريحاً على الإطلاق".

"يبدأ غراي بحكم قاسٍ بأن هوبز هو الفيلسوف الليبرالي العظيم الأول والأخير وربما الوحيد الذي لم يزل جديراً بالقراءة". أما غيره من الأسماء البارزة في المستند الليبرالي ـ ومن أبرزها جون لوك وهيغل وأسماء أكثر معاصرة من قبيل رونالد داوركين وفرانسين فوكوياما ـ فتظهر بين الحين والآخر، لكنها سرعان ما تلقى الأعراض، وبقسوة.

وفي حين أن مكيافيللي كان أول مفكر سياسي ينفصل عن اليقينيات الأخلاقية الخاصة بالعالم الكلاسيكي وعالم العصور الوسطى، فإن هوبز هو الذي مضى إلى تأسيس السياسة الحديثة على أساس أمل ليبرالي هو الحفاظ على الفرد، بل للحفاظ على سيادته في واقع الأمر. وهكذا فمن أجل أن نفهم "لماذا ماتت الحضارة الليبرالية" على حد قول غراي، فخير لنا أن نرجع إلى منبعها الفكري لدى العبقري الإنجليزي الموسوعي (توماس هوبز)".

"كان هوبز هو الذي حدق في أرواح مجايليه فلم يكتشف فيهم فقط كائنات سياسية اجتماعية بفطرتها، وإنما رأى فيهم وحوشاً ملقاة في عالم وحشي، مجهزة لإخضاع وتدمير بعضها بعضاً ما لم تكبلها الدولة الحديثة ـ أي اللفياثان، ذلك "الإله الفاني" الذي يجسد عزيمة سلالتنا على الارتقاء عن (حالة الفطرة) الفوضوية".

لقد تخيل هوبز ـ بحسب ما يكتب ستيوارت جيفرايز (ديلي تلغراف - 27 أغسطس الماضي) ـ أن الإنسانية "قد تفلت من هذه الحالة الفطرية، أي حرب الجميع ضد الجميع، إذ يواجه كل واحد منا خطراً مستمراً وخوفاً دائماً من الموت العنيف. فكان لفياثانه هو الدولة التي لا تخضع سلطاتها للمحاسبة، لكن أغراضها تقتصر بصرامة على تأمين رعاياها من الطغيان وغياب القانون".

أما غراي فيذهب إلى أن اللفياثانات الجديدة ـ ومن هنا عنوان الكتاب ـ "ترغمنا على الحرية، بأن تملي علينا ما تعتقد أننا في حاجة إليه حقاً لكي نكون أحراراً". ويضرب هنا مثلاً بنظامي ستالين وماو اللذين "بدلاً من ضمان الحماية من الطغيان، كانت سلطاتهما غير المحاسبة تعنى بهندسة النفوس البشرية. ويتبع خليفتا ستالين وماو، أي بوتين وشي، كتاب القواعد نفسه. فيكتب غراي أن روسيا (فرضت المجاعة والفقر في جميع أنحاء العالم، وأن الصين أنشأت نظام مراقبة يهدد الحرية في الغرب من خلال صادرات التكنولوجيا).

كان هوبز مفكراً حديثاً بوضوح، في نبذه ـ بحسب الأهمري ـ لـ"الفكرة القديمة الخاصة بوجود خير أسمى (إلهي في أكثر الحالات) واضح للبشر كافة قابل للاكتساب، وهو بمثابة الغاية النهائية من تطورنا. فأعلن في اللفياثان أنه "ما من غاية نهائية، أو خير أسمى، كاللذين تتكلم عنهما كتب الأقدمين والفلاسفة الأخلاقيين"، وما الحديث عن الخير الأسمى في رأي هوبز إلا كلمات أخطأ أمثال أرسطو والأكويني بتصورها حقائق مطلقة".

"وفي حين أن هوبز لم يعترف صراحة بإلحاده، فإن إنكاره التصور الكلاسيكي للبشر ـ بوصفهم كائنات تسعى إلى أغراض وغايات تمثل جزءاً من الكل الكوني المنتظم ـ يجعله ملحداً من الناحية العملية، فإذا لم يكن من قانون أسمى حاكم للمخلوق، يستتبع ذلك بالضرورة أنه ما من خالق أسمى واضع للقانون".

غير أنه "لو كان هوبز ملحداً فإن إلحاده"، بحسب ما يكتب غراي، "لا يشترك في كثير مع أشكال إلحادية تالية" تخيلت أن بوسعنا رفع أنفسنا إلى درجة الألوهة في ظل عدم وجود رب واحد، إنما كانت رؤية هوبز أشد قتامة، فالبشر في رأيه "شأن أي شيء آخر، إنما هم مادة في حالة حركة"، وهم في المقام الأكبر مخلوقات ضعيفة، دائمة الخوف من العجز والموت العنيف.

وفي رد فعل على ذلك، صاغ أسلافنا مواثيق اجتماعية ترتكز على مخاوفهم من بعضهم بعضاً. فكانت هذه هي "الأرض الدنيئة والصلبة" (على حد تعبير ليو شتراوس) التي أقام عليها الليبراليون السلام الاجتماعي".

"واقعية" هوبز الصارمة

أما بالنسبة لغراي، فإن "واقعية" هوبز الصارمة كانت في ذاتها حجابا لطوباويته، إذ يتساءل غراي عما يجعل أي شخص في الحالة الفطرية يتخلى عن حريته في ممارسة العنف في مقابل حماية "اللفياثان" له. ففي نهاية المطاف بوسع كل قوي أن يفلت بأي شيء يعمله أما الضعيف فلا ثقة له في شيء ولا سبب يدعوه إلى الثقة في وعود مستقبلية من أي شخص. وإذاً تفتقر السياسات الهوبزية إلى المحرك الأساس و"العقد الاجتماعي الذي يكتب عنه هوبز هو محض أسطورة ذهنية"، فضلاً عن قول غراي إن "هوبز عندما يؤكد أن الحفاظ على الذات هو طريق السلام فإنه لا يكتب من منطلق كاتب واقعي، وإنما من منطلق حالم طوباوي".

 

 

يتبع غراي ذلك بجولة في المجتمعات، التاريخي منها والمعاصر، التي وجهت دافع الحفاظ على الذات لحساب أغراض أخرى بما أدى إلى صعود ما يطلق عليه غراي "الفطرة المصطنعة"، وبما أدى إلى ظهور اللفياثان الجديد الوحشي الذي لا حسبان عنده للفرد".

"في رأي غراي، أن الأشد دلالة وصدمة بين جميع تلك اللفياثانات الجديدة، أي الدول الجديدة، كان النظام البلشفي في بداياته، فلا عجب أن يكرس له معظم الكتاب... ليذكرنا غراي من خلال ذلك بأن "أي يوتوبيا مصيرها الحتمي أن تكون دستوبيا"، لأن السعي إلى تحرر ذهني لا يمكن أن يثمر إلا "موت الروح". ومع ذلك ظل الناس يتبعون تلك الرؤى، ويضحون بحياتهم وحياة الملايين في تلك الصفقات. وما لشيء من ذلك أن يكون ذا معنى في النظرية الهوبزية الكلاسيكية".

"يرى الكاتب دافعاً لا يقل جنونية في الليبرالية التقدمية في ما بعد الحرب الباردة، أو ما يسميه الليبرالية الفائقة. ففي الغرب بحسب ما يكتب غراي يتمثل "هدف الليبرالية الفائقة في تمكين البشر من الدفاع عن هوياتهم. ومن وجهة نظر معينة هذه هي الغاية النهائية المنطقية للفردانية، يكون كل فرد صاحب سيادة في تحديد ما يريد أن يكون إياه. ولقد أدى ذلك ـ على مستوى التطبيق ـ إلى توليد فطرة مصطنعة أخرى، في ظل خوض الأفراد والجماعات الفرعية حرب الجميع ضد الجميع دفاعاً عن التصنيفات الهوياتية المحمية".

"يرى غراي أن جميع هذه التطورات تكذب حلم هوبز الطوباوي بإقامة السلام على أرضية خوف الفرد من الموت العنيف. غير أنه بعد مرور قرابة أربعة قرون على اللفياثان، فإن الليبراليين مصرون على فرض شكل واحد ليبرالي من الحكم على جميع الأمم".

وهنا يصل غراي إلى غايته من الكتاب، ورؤيته القاتمة ـ من وجهة نظر الليبراليين في الأقل ـ إذ "يعتقد غراي أن أفضل ما يمكن أن نرجوه الآن هو أن ينبذ الغرب الليبرالي هذه الحماقة، ويتعلم العيش في عالم يخضع لأنظمة إقليمية عدة في الحكم، كل منها متكيف مع منظومات ثقافية تاريخية نسبية، فثمة أوروبا الرومانية، وروسيا الثيوقراطية، وأميركا الرأسمالية، والصين الكونفشيوسية الاستبدادية، وهكذا، مع احتواء المناطق البينية على تشكيلات أقل خضوعاً للحكم أو غير محكومة بالمرة".

وتأكيداً لهذه الرؤية القاتمة على حد تعبير الأهمري، يكتب جوناثان راي ـ (جارديان ـ 19 سبتمبر 2023) أن "اللفياثان الجديد" كتاب قوي، "لكنه يسدد لكماته إلى أمثالي من الناس الذين يتوقون إلى أن يعيشوا في مجتمع يحتفي بالحياة ويحترم الحقيقة ويتيح لكل شخص أن يعبر عن رأيه. نحن الذين يسمينا غراي "الليبراليين"، ويلتذ بأننا أثنينا ذات يوم على أفعال مقاومة بعيدة منا ـ من قبيل الربيع العربي أو ثورة المظلات في هونغ كونغ ـ لم تمض بعد ذلك على ما يرام. وهو يرى أن علينا أن نخجل من أنفسنا، وأنه آن الأوان بحسب ما يقول لأن نعرض عن (الليبرالية) ولأن نفقد الأمل".

ويمضي راي فيقول إن "غاري يعتقد أننا (معشر الليبراليين) في حاجة إلى أن ننضج وندرك أن المستقبل ليس للإنسانية. "فستوجد ملكيات وجمهوريات، وأمم وإمبراطوريات، وطغاة وثيوقراطيون، ومناطق بلا دولة ولا حكومة على الإطلاق". باختصار، علينا أن نتهيأ لـ(الفوضى العالمية). وقد يكون مصيباً، بطبيعة الحال، لكنه أيضاً في ما نرجو قد لا يكون كذلك".

العنوان: الطاغوت الجديد: أفكار بعد الليبرالية

تأليف: جون غراي

الناشر: ألين لين

اقرأ المزيد

المزيد من كتب