ملخص
خسرت درنة كثيراً من كوادرها العلمية ومراكزها التجارية ومعامل الصناعات التقليدية وبدأت تظهر أعراض صدمات نفسية عنيفة على سكانها.
مع استمرار عمليات الترميم وجرف مخلفات السيول والتقاط جثث القتلى من البحر وتحت الأنقاض، بعد مضي أسبوعين على الإعصار "دانيال" الذي أحدث خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات بمدينة درنة الليبية، ما زالت تداعيات الكارثة تتكشف واحدة تلو الأخرى، وتظهر آثارها المرعبة في المستوى الاجتماعي والاقتصادي والنفسي.
هذه التداعيات للكارثة الطبيعية الأكبر في تاريخ ليبيا، يبدو أنها ستحتاج إلى سنوات من العلاج حتى يندمل الجرح الذي كان أكبر مما تصور الجميع، كما سيحتاج إلى دعم دولي مكثف، لأن المؤسسات الليبية لن تكون قادرة وحدها على مساعدة درنة في النهوض من كبوتها لأسباب كثيرة.
ضرب هوية المدينة
عند سؤال أي مواطن "درناوي" عن الخسارة الأكبر في مدينته بعد العاصفة "دانيال" يجيبك مباشرة والدموع تنساب من عينيه بأن فداحة المصاب تكمن في أن الجزء المدمر من درنة هو قلبها ومصدر هويتها الحضرية الذي يحتضن أهم كنوزها التراثية وكوادرها المثقفة، منه تأسست المدينة وبه اشتهرت وعرفت في أرجاء البلاد.
درنة بلا شلالها وواديها وشارع "الفنار" وشارع "المغار" وحي "وسع بالك"، درنة من دون مثقفيها وأزقة المدينة القديمة وقبور الصحابة، لم تعد درنة بالنسبة إلى كثير من سكانها، حتى إن كثيراً منهم باتوا يفكرون في مغادرتها نهائياً هرباً من الألم والحزن على فقد الأحباب وضياع معالم المدينة الأجمل وهويتها التي كانت سر ارتباطهم بها.
المعلم ياسر الحصادي، البالغ من العمر 43 سنة، الذي ولد في درنة وترعرع فيها ويعرف ويعشق كل أزقتها وأحيائها، هو أحد الذين استقر قرارهم على مغادرة المدينة نهائياً بعد كارثة السيول المدمرة، يقول إن "درنة التي عرفتها لن تعود يوماً، لقد جرفتها السيول إلى البحر بأهم معالمها وألمع سكانها".
وأضاف "المؤلم أن ما حدث يشبه الاصطفاء من السيول لنخب المدينة دكاترة ومعلمين وأطباء وشعراء وتجاراً، هذه الخسارة الفادحة لا يمكن تعويضها حتى ولو بنيت المدينة على أحدث طراز".
الحصادي فسر لنا سبب اتخاذه لقرار مغادرة درنة، وهو القرار الذي اتخذه سكان كثر غيره، بقوله "المشكلة أن الكارثة الطبيعية التي حلت بدرنة كانت تشبه الضربة القاصمة بعد سلسلة من الأزمات التي ألمت بالمدينة في السنوات الأخيرة، وتركت سكانها مدمرين نفسياً واقتصادياً مع اندلاع مشكلات اجتماعية كبيرة، وما إن بدأت المدينة تتعافى قليلاً منها حتى حلت هذه الكارثة على رؤوسنا".
حرب وإعصار
ويرى الحصادي أن كارثة الإعصار "دانيال" حرمت درنة من فرصتها الأخيرة للتعافي من آثار الحرب التي شهدتها بين عامي 2016 و2018، "الحرب التي دارت في درنة بتلك الفترة تسببت بشروخ اجتماعية كبيرة وخسائر اقتصادية فادحة، ودمرت جزءاً من معالم المدينة خصوصاً الجزء المعروف بالمدينة القديمة، أقدم أحيائها التاريخية، إضافة إلى آثار نفسية ضخمة، فأنا مثلاً لدي طفلة ما زالت تعاني آثار الصدمة جراء أصوات المدافع والقنابل في تلك الفترة".
وأضاف "على رغم كل المآسي التي ذكرتها فإن سكان درنة كانوا مصرين على إحيائها من جديد، إلا أن القدر كان له كلمة أخرى، فقبل العاصفة المدمرة كانت درنة تشهد انتعاشاً نسبياً وعملية إعمار ولو بسيطة، وكنت دائماً أقول إنها الفرصة الأخيرة لها للتعافي، لكن حتى هذا الأمل الضئيل انهار بانهيار سدود المدينة التي دمرتها ودمرت أحلام سكانها".
خسائر بالجملة
تداعيات كارثة الإعصار "دانيال" يراها ياسر الحصادي أكبر من قدرات الدولة ولا يمكن علاجها بسهولة، لذلك قرر البحث عن بداية جديدة في مدينة بنغازي "ما خسرته درنة بالنسبة إلي لا يمكن تعويضه على المستوى الإنساني. فقدنا أهم العقول في المدينة وعلى المستوى السياحي فقدنا الشلال والوادي ومزارعه الشهيرة، على المستوى الاقتصادي كانت الحركة التجارية في وسط المدينة الذي دمر تماماً ومعظم هذه الأرزاق جرفت إلى البحر، والعيش فيها بعد ما حدث سيكون عذاباً يومياً مع ذكريات مؤلمة لذلك اخترت الرحيل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليست درنة الوحيدة التي خسرت في هذه الكارثة، بحسب الحصادي، بل هناك خسائر للبلاد برمتها لا يمكن تعويضها خصوصاً على مستوى الصناعات التقليدية، "كانت المدينة تعج بصناعات تقليدية لا توجد خارجها مثل معامل تقطير الورد الدرناوي الذي ينتج عبره أجود أنواع ماء الورد الطبيعي وورد الشاهي المشهور جداً وصناعة الحرير اليدوي، وصناعة الذهب اليدوية التقليدية التي ينتج منها أطقم الأفراح المطلوبة في كل أرجاء البلاد".
وتابع "كل هذه الصناعات صعب أن تعود، ليس فقط لأن المعامل الخاصة بها دمرت، بل لأن الصناع المهرة لهذه المنتجات مات أغلبهم غرقاً في السيول الجارفة".
صدمات نفسية
أسرع التداعيات الكارثية لفاجعة الإعصار "دانيال" في مدينة درنة التي يمكن ملاحظتها بسهولة عند التجول في شوارعها المدمرة هو الصدمات النفسية الظاهرة في تصرفات أغلب السكان، ومشاهدة بعض الذين فقدوا عقولهم بالمعنى الحرفي للكلمة بسبب صدمة فقد عائلاتهم.
أحد هؤلاء هو شيخ أنيق المظهر ومعه عصا يأتي كل يوم إلى شاطئ البحر ويبدأ في البحث بين المخلفات عن عائلته المفقودة، من دون أن يتحدث مع أحد أو يجيب عن أي سؤال، قبل أن يرحل في صمت عن المكان.
ولأن الصدمة كانت عنيفة على كل سكان درنة بسبب الدمار المروع وكثرة الضحايا والمشاهد المأسوية التي عايشوها، شددت متحدثة منظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس على أن "دعم الصحة العقلية لأهالي درنة في المرحلة الحالية لا يقل أهمية عن الصحة الجسدية".
وأوضحت أن "منظمة الصحة العالمية تهدف إلى تقديم الرعاية الطبية الأولية في مجال الصحة العقلية لمن يعيشون أزمات نفسية، ومساعدتهم في بدء عملية التعافي نفسياً".
أعراض كثيرة
في المقابل كشف مستشار مركز البحوث النفسية والتربوية بالهيئة الليبية للبحث العلمي في درنة الدكتور خالد المختار نصر عن أعراض كثيرة لأمراض وصدمات نفسية بين سكان المدينة، قائلاً إنه "من خلال الكشف الميداني بعد حدوث الكارثة ظهر عديد من الأعراض النفسية عند كثير من الناس بعد الصدمة، وهذه الأعراض تزداد يوماً بعد آخر مثل القلق النفسي الحاد والاكتئاب والشعور باليأس والإحباط، وعدم القدرة على التعبير عن الحزن، وعدم قبول فكرة خسارة الأقارب، والشعور بالغضب والتمرد وإلقاء اللوم على الآخرين، والشعور بالذنب والعجز والفقدان العاطفي وسرعة الانفعال وتوتر العلاقة مع الآخرين، وسجلت حالات انتحار وموت مفاجئ نتيجة السكتة القلبية".
ومن المرجح أن تبلغ أعداد المصابين بأمراض نفسية مختلفة في درنة حالياً أكثر من ثلث السكان، بالنظر إلى عينة واحدة كشف عنها مركز البحوث النفسية والتربوية في المدينة، الذي قال قبل يومين إنه "كشف على 30 حالة مصابة بصدمة نفسية حادة، بينها ست حالات تعاني اكتئاباً حاداً أحيلت إلى فريق الطب النفسي، من بين المقيمين بكلية التقنية الطبية في باب طبرق".