ملخص
معرض باريسي يكشف عن دورهما في تثوير الفنون التشكيلية والكتابية
نعرف الصداقة الحميمية التي ربطت الكاتبة والشاعرة الأميركية غرترود ستاين (1874 - 1946) والفنان الإسباني بيكاسو (1881 - 1973)، خصوصاً من خلال رواية ستاين "سيرة أليس توكلاس الذاتية" (1933). نعرف أيضاً أن هذه الأخيرة دعمت صديقها في بداياته بشرائها منه لوحات عديدة، لكن ما لا نعرفه جيداً هو إلى أي حد كان كل منهما مديناً للآخر بما أنجزه، وإلى أي حد يقف هذا التواطؤ والتفاعل الخصب خلف انبثاق التكعيبية، ومعظم الطلائع التشكيلية والشعرية في القرن الـ20 في أوروبا وأميركا. حقيقة تشكل موضوع المعرض الضخم الذي تنظمه "جمعية المتاحف الوطنية" في "متحف لوكسمبورغ" في باريس، في مناسبة مرور 50 عاماً على رحيل بيكاسو.
قيمة هذا المعرض الذي لا يفوت، لا تكمن فقط في تفحصه الدقيق للحوار الذي قام بين هذين العملاقين وثماره على مستوى عمل كل منهما، بل في متابعته أيضاً بل وكشف عنه نتائج هذا الحوار وتداعياته على المقاربات التصورية والأدائية والنقدية للفن والشعر والموسيقى والمسرح، التي ظهرت لاحقاً على يد وجوه الفن الأميركي الكبرى، مثل جون كايج وجاسبر جونس وروبرت روشنبرغ وميرسي كونينيغام وبروس نومان وأندي وارهول وديبورا كاس وفيلكس غونزاليس توريس وكثر غيرهم.
يلقي المعرض نظرة غير مسبوقة وموثقة على عمل ستاين الأدبي الذي ما زال غير معروف كما يستحق، بمقابلته بلوحات بيكاسو ومنحوتاته. عمل متعدد الأشكال لا تدهشنا قيمته ولا ضخامته، بما أن ستاين أمضت حياتها في الكتابة، مختبرة جميع الأنواع الأدبية: الشعر والرواية والنص المسرحي والأوبرا والبحث النقدي والسيرة الذاتية والسرد الحر... عمل تطور مع مرور الزمن، وتخلت ستاين فيه بسرعة عن المقاربة التقليدية للكتابة (دال/ مدلول)، لمصلحة كتابة تكعيبية إيقاعية وسمعية، تغذى بيكاسو منها لدى ابتكاره الفن التكعيبي، ملهماً في المقابل صديقته بحسه الإبداعي الفريد.
الهوية الثقافية
في الصالة الأولى من المعرض ندرك أن بيكاسو وصل إلى باريس عام 1902، وستاين بعده بعامين، وأن الاثنين قدما إلى هذه المدينة لافتتانهما بحماستها الفنية والحياتية. ندرك أيضاً أن مسألة هويتهما الثقافية كانت في قلب عمل ستاين، منذ وصولها، نظراً إلى شغلها آنذاك على كتابها الشهير "تكوين الأميركيين"، بينما كانت كامنة لدى بيكاسو قبل أن تطفو على السطح حين أعلن نفيه من إسبانيا فرانكو. ونظراً إلى موقعها في باريس كامرأة أجنبية حرة، وإلى بحثها الخاص في اللغة، الذي بدأته لدى دراستها علم النفس مع ويليام جايمس في جامعة هارفرد، تمتعت ستاين بحساسية كبيرة تجاه الاستكشافات الأكثر راديكالية في الفن. حساسية تفسر شراءها لوحة ماتيس "المرأة ذات القبعة" التي أحدثت فضيحة في "صالون الخريف" عام 1905، وخطها كتاب "ثلاث حيوات" أمام "بورتريه مدام سيزان مع مروحة"، في الوقت الذي رأى بيكاسو سبيلاً جديداً لفنه، إثر تأمله في لوحات سيزان وماتيس التي كانت تزين جدران منزل صديقته الباريسي.
الصالة الثانية تتوقف عند اهتمام بيكاسو وستاين بمسألة الواقع وطرق تمثيله، بالتالي عند تقاسمهما إرادة لفت الانتباه إلى الأشياء المرئية، ضمن ارتكاز إلى التجربة الحسية للحاضر. وفي هذا السياق، تشكل "آنسات أفينيون" و"تكوين الأميركيين" بداية بحثهما في موضوع البورتريه الذي قاد بيكاسو إلى التكعيبية، وستاين إلى "البورتريه المؤلف من كلمات". بحث طور كل منهما من خلاله كتابة خاصة: أدبية، تقوم على "الإصرار" النحوي والسمعي والمعجمي بالنسبة إلى ستاين، وتشكيلية، تقوم على تبسيط الأشكال وتحليلها بالنسبة إلى بيكاسو. هكذا تمكنت ستاين بواسطة الإيقاع الشفهي أو البصري لتكرار المفردات بتنويعات لامتناهية من الإيحاء بنبض حياة موديلها، بينما تمكن بيكاسو من تشييد جوهر الوجه المرسوم عبر تكثيف ملامحه وطريقة ترتيبها.
الصالة الثالثة تسلط الضوء على التحول الراديكالي في عمل كل منهما، انطلاقاً من موضوع "الطبيعة الصامتة"، في العقد الأول من القرن الماضي. مرحلة قادت تأملاتهما خلالها في العلاقة التي تجمع الكلمات أو الصور بالأشياء، إلى بلورة كتابة تجريبية هرمسية، تقوم على تفكيك اللغة ونحوها مع ستاين، وعلى تفكيك الأحجام والتصاميم مع بيكاسو، مما أدى إلى تفجير حاسم للجملة أو الشكل. وفي تلك الأثناء وضعت الشاعرة مجموعتها "أزرار رقيقة"، التي تتألف من قصائد نثر حول حياتها اليومية، لا تسمي فيها أي شيء، بل توحي بحالات، بواسطة الأفعال والعبارات الظرفية المستخدمة، بينما استكشف بيكاسو أسلوب التكعيبية التحليلية، ملامساً التجريد بواسطته، قبل الانطلاق في إدخال أشياء ومواد حقيقية على لوحاته وملصقاته التكعيبية التوليفية. ومع أن ستاين دعمت أيضاً براك وخوان غري آنذاك في أبحاثهما المشابهة، لكن بيكاسو بقي موضوع افتتانها الأول نظراً إلى كونه الوحيد في نظرها الذي كان على علاقة بالشيء الملموس. وفي المقابل افتتن بيكاسو بعمل صديقته الكتابي إلى حد اعتبارها صنوه الأدبي.
الحداثة الأخرى
الصالة الرابعة تتناول بطء الاعتراف بعبقرية ستاين في وطنها، على رغم شهرة صالونها الباريسي الذي كان يستضيف أبرز وجوه الحداثة الفنية والأدبية. فمع أن صدور كتابها "سيرة أليس توكلاس الذاتية" في نيويورك عام 1933، الذي روت فيه صداقتها مع بيكاسو، وفر لها انقشاعاً عززه إخراج الموسيقي الكبير فيرجيل تومسون نصها المسرحي، "أربعة قديسين في ثلاثة فصول"، عام 1934، إلا أنه كان يجب انتظار الخمسينيات وحتى الستينيات كي يعي الشعراء والفنانون الأميركيون قيمة الراديكالية الشكلية والتصورية لكتاباتها، ويتملكوا لغتها وابتكاراتها ويبجلوا مسيرتها الخلاقة.
وفعلاً تبين الصالة الخامسة كيف فرضت ستاين نفسها بعد وفاتها نموذجاً مرجعياً للطلائع الأميركية والثقافة المضادة، خصوصاً في محيط المسرح والموسيقى والرقص الحديث، إثر الاختبارات التي قادها جون كايج وميرسي كونينغام في كلية "بلاك ماونتين" الحرة في الخمسينيات، والمستوحاة مباشرة من عملها. ففي سياق النشاط الفني والاجتماعي والسياسي الاحتجاجي الذي شهدته "قرية غرينويتش" في نيويورك ظهرت بعد هذه الاختبارات كوكبة من المجموعات البديلة، مثل "المسرح الحي" و"شعراء مسرح جادسون" و"مسرح جادسون للرقص" وحركتي "فلوكسوس" و"بوب آرت"، أسهمت في الترويج لكتابات ستاين من طريق أداءات مسرحية أو موسيقية تعكس تماثلاً بمسعاها: الترسخ في الحاضر والحضور الصافي والملموس للأشكال ونبذ السرد الخطوطي التقليدي واستكشاف مادية الوسائط (الجسد والحركة في الرقص، الصوت في الموسيقى...) والتلاعب في علم النحو وقواعده بواسطة التكرار ومفهوم التسلسل، أو عبر ولوج الواقع اليومي انطلاقاً من معجم مفردات مصفى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتستكشف الصالة السادسة سعي فناني الطلائع النيويوركية خلال الستينيات إلى إعادة الفن إلى قلب الحياة والمجتمع عبر مساءلتهم قدرات اللغة البصرية على الإمساك بالواقع. سعي قادهم إلى تبني جمالية الـ"كولاج" التي تقوم على تهجين تقنيات ومواد وقطع من الحياة اليومية وصور من الثقافة الشعبية، وإلى استثمارها وفقاً لمقاربة لعبية وساخرة لمجتمع الاستهلاك والفرجة الأميركي. جمالية تتعارض مع الأسلوب التعبيري التجريدي الطاغي، وتستمد مصادرها من ملصقات بيكاسو والدادائيين، من "القطع الجاهزة" لمارسيل دوشان، وأيضاً من نصوص ستاين التي أعادت "منشورات شيء آخر"، المرتبطة بحركة "فلوكسوس"، نشر أربعة من كتبها بين عامي 1966 و1972.
وفي الصالة السابعة نرى كيف أن الفن التصوري مثل حركة "فلوكسوس" طرح سؤال تعريف الفن وممارساته، مؤكداً أولوية الفكرة أو التصور على العمل الفني المنجز. وهو ما مهد لانبثاق أشكال فنية جديدة بأساليب ومناهج بديلة كاللغة والخطاب أو الفعل الجسدي أو الصوت أو الأرقام أو التوثيق غير الفني. وثمة فنانون آخرون مثل جوزيف كوسوت دافعوا عن رؤية تكرارية وحرفية للفن مستقاة بدورها من عمل ستاين الذي يجسده بيتها الشعري الشهير: "الوردة هي وردة هي وردة هي وردة". وبالتالي، صحيح أن دور دوشان كان مركزياً في انبثاق الفن التصوري، لكن ستاين فتحت أيضاً حقل استكشافات فنية وشعرية أمام ممارسيه، تركزت على مرونة اللغة والبعد الأدائي والمادية البصرية والسمعية للكلمات، وفتحت حقلاً موازياً أمام الفنانين والشعراء المينيماليين بكتابتها القائمة على التكرار والتسلسل.
وتختم المعرض صالة مرصودة لكتابات ستاين التي استقتها جميعاً من تجربتها الحياتية الخاصة، ومزجت فيها الواقع بالخرافة لخوض تساؤل عميق في الهوية المتحركة والمراوغة للأشياء والأمكنة والكائنات. نصوص يظهر فيها اهتمامها الشديد بالأفراد في بعدهم الجماعي (كالخصائص الأميركية في "تكوين الأميركيين"، أو الخصائص الفرنسية في "باريس - فرنسا")، وفي بعدهم الحميمي (الحياة اليومية والعلاقة بالآخر والحب والإروسية والمثلية والنوع الجنسي...). وهو ما يفسر تحولها مطلع السبعينيات إلى أيقونة للحركات النسوية والجنسية الغيرية (queer). نصوص يشهد استيلاء فنانين كبار في وطنها على جمالياتها في الفترة الأخيرة مثل غلين ليجون، أو إعلان فنانين آخرين بوضوح تماثلهم بها شكلاً ومضموناً مثل هان داربوفين وفيلكس غونزاليس توريس وديبورا كاس وإيلين غالاغر، على مدى راهنيتها، ومن ثم على عدم المبالغة في اعتبار غرترود ستاين اليوم رائدة الفن الحديث في أميركا بلا منازع، وأحد أبرز رواد هذا الفن في العالم.