من حوّل العلمانية إلى بعبع في المجتمعات العربية والمغاربية؟
إن تجار الدين السياسي هم الذين زرعوا الخوف من "العلمانية" في أوساط العامة من الشعب البسيط من المؤمنين، حتى أضحت كلمة "علمانية" رديفا للكفر والإلحاد والمثلية والشيوعية والزندقة.
هل يمكن للمسلم أن يكون علمانيا؟
لا يمكن للعربي والمغاربي أن يتصور أن المسلم قد يكون علمانيا! أن يكون المسلم علمانيا معنى هذا، وبكل بساطة، أنه تحول إلى مواطن مدافع عن الدولة المدنية التي تسمح بإشاعة المساواة في المواطنة بعيدا عن اعتبارات عقائدية.
أن يكون المواطن المسلم علمانيا هو أن يكون له موقف معارض لإقامة "الدولة الدينية" التوتاليتارية التي يتم فيها اعتبار كل من يدين بدينها مواطنا، ومن يدين بغيره أو من لا دين له هو من الغرباء ومن أهل الذمة الذين يجب محاربتهم!
ما هي الأسباب التي تجعل المجتمعات العربية والمغاربية تعادي العلمانية؟
إن المجتمعات التي تعادي وتحارب "العلمانية" هي عادة مجتمعات تتميز بعدد من الخصائص الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأولها هيمنة الدين السياسي ودين الدروشة (السحر وتفسير الأحلام والمداواة بالرقية..)، وهي المجتمعات التي تقع ضحية مؤامرة "الدعاة"، تجار المواقف السياسية والذين استولوا على قنوات التلفزيونات، وقاموا بغسيل مخ لأجيال متلاحقة، وهم اليوم يزحفون على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة فيتخذون منها، أو اتخذوها، وكرا مرعبا من أمثال: محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وطارق رمضان وسلمان العودة وعوض القرني ومحمد العريفي وغيرهم، لقد استطاع هؤلاء وغيرهم "شيطنة" العلمانية لا لشيء إلا لأنها تحرر الدين منهم، ومن السياسة، وتعيده إلى الله.
إن المجتمعات التي تخاف من "العلمانية" هي مجتمعات تفتقر إلى الوعي السياسي المتعدد، وتلعب فيها الأحزاب السياسية المهيمنة على الساحة مهما كانت تسمياتها (وطنية أو اشتراكية أو ديمقراطية) دور آلة تفريخ للنفاق السياسي والديني، على حد سواء، حتى لتبدو جميع هذه الأحزاب وكأنها إسلامية دينية، همها الأول هو وضع اليد على عقول المؤمنين البسطاء، في انتظار موعد انتخابي محلي أو وطني.
إن الخوف من العلمانية سببه أيضا غياب وتغييب الثقافة العميقة في المجتمع، تلك التي تطرح الأسئلة الجديدة من خلال الكتاب والسينما والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى الراقية، فالثقافة الراقية المسائلة للذات وللتاريخ هي التي تحرك المواطن وتحطم الجدران المضروبة عليه من قبل تجار وسماسرة الدين السياسي، لقد علّمنا التاريخ القريب جدا بأن المستهدفين الأوائل من قبل الإرهاب الديني هم المثقفون التنويريون، ولعل تجربة الجزائر في العشرية السوداء 1990-2000 وما خلفتهم من ضحايا من المثقفين الذين عرفوا بالجرأة والإبداع والدفاع عن القيم الإنسانية الكبرى لدليل واضح على ذلك، لقد قتل الإرهاب الأعمى في الجزائر خيرة الكتاب والفنانين والمفكرين، من أمثال الطاهر جاووت وعبد القادر علولة والهادي فليسي وعزالدين مجوبي و الجيلالي اليابس والجيلالي بلخنشير وسعيد مقبل وحفيظ سنحضري ومحفوظ بوسبسي ويوسف سبتي وبختي بنعودة وغيرهم.
والمجتمعات التي لا تقرأ تاريخها جيدا، ولا تعمل على تفكيك رموزه الفاعلة بكل حرية، فإنها مجتمعات تخاف من "العلمانية"، وتختصر علاقتها بتاريخها في مفهوم "المكتوب" و"القدرية" و"الاتكالية"، وبالتالي تسلم أمرها لتجار الدين السياسي، ليغتصبوا تطلعاتها في التغيير والعيش المشترك والحوار مع الآخر واحترام حقوق الإنسان واحترام حقوق المرأة والطفل والحيوان.
ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي تجعلنا نتساءل، هل قرأ الجزائريون تاريخهم، وهل قرؤوا شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس بعيدا عن تقديس اللحية، وتقديس "الشيخ" وتقديس "العربية"؟
أتصور أنه وباستثناء الكاتب والمفكر والباحث علي مراد (1930-2017) في كتابه المتميز "الإصلاح الإسلامي في الجزائر من 1925 إلى 1940"(نشر العام 1967) «Le réformisme musulman en Algérie de 1925 à1940» والذي كتبه بالفرنسية، فإن كل ما كتب عن ابن باديس، وهو كثير جدا، يدخل في باب تكريس أسطورة، لم يكن هو نفسه يؤمن بها، فالجانب التقديسي لعب دورا في إخفاء "تاريخية" ابن باديس، بل وإنسانيته، وإدخاله في خانة "الملائكية" والخرافة. حتى إن كثيرا من الجزائريين اليوم يعتقدون بأن ابن باديس استشهد في ثورة التحرير أو إنه أحد قادة ثورة أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 وكرّست البرامج المدرسية هذا التجهيل وعممته.
فمن يدعون اليوم بأنهم أتباع ابن باديس، وأعني بهم من يدير "جمعية العلماء المسلمين" الحالية، التي أسسها العام 1931 والذين هم في الحقيقة أتباع الإخوان المسلمين، وأن ابن باديس ما هو إلا شعار يرفع في كل مناسبة لتمرير أفكار الإخوان المسلمين، وبالتالي محاربة الإسلام الجزائري وتعويضه بإسلام غريب، استقدم من شاشات التلفزيونات الأجنبية ومن كتب الإرهاب والتعصب التي يبثها الدعاة المتطرفون الذين أسسوا شخصياتهم على كراهية الآخر وكراهية المرأة وكراهية الثقافة التنويرية الناقدة.
يدعون إلى الحجاب ويعتبرون ذلك من صلب الدين، ولم تكن زوجة الشيخ ابن باديس متحجبة يوما. يحاربون اللغة الفرنسية وقد كان ابن باديس مصرا على تدريسها والدفاع عنها، لأنها نافذة الجزائري على العالم المعاصر، كان يحب الموسيقى، بل كانت هناك فرقة موسيقية تابعة لجمعية العلماء المسلمين التي كان يرأسها، وهم اليوم ينادون بمحاربة الموسيقى التي تهذب المشاعر وترفع من الذوق الإنساني، أقول الموسيقى العالية، كان حريصا على المسرح وهم اليوم يعادون أصحاب هذا الفن الرابع أو يعتبرونه تهريجا، كان يحب الأدب والشعر، ولعل رائد القصة القصيرة والرواية أحمد رضا حوحو هو أحد أهم أعضاء جمعية العلماء المسلمين، وهم يصنفون اليوم الأدب في باب "الشيء غير النافع" و"الخرافي" و"المفسد للأخلاق"، وما إلى ذلك من أوصاف نقرأها لبعضهم هنا وهناك.
هل كان الشيخ عبد الحميد بن باديس مسلما علمانيا؟
قد يثير هذا السؤال استغراب بعض الغوغاء من أشباه المثقفين الذين يقدسون الجهل، معتقدين أن طرح مثل هذا السؤال إنقاص من شخصية الشيخ ابن باديس، والعكس تماما، فأن يكون ابن باديس مسلما علمانيا فهذه واحدة من مزاياه التي جعلته يحترم المرأة ويحترم الديانات الأخرى ويدافع عن الثقافات الأخرى، ويرافع لصالح الدولة المدنية لا الدينية، ففي ثلاثينيات القرن الماضي، كان يدعو وبكل وضوح إلى ضرورة احترام المجتمع الإسلامي الجزائري بثقافته ولغته تحت مظلة الدولة الفرنسية، كل ما كان يشغله هو أن تحترم الثقافة المحلية والإسلام تحت سلطة فرنسا،أي الدعوة إلى الدولة المدنية ذات المؤسسات العلمانية، حتى وإن كانت "استعمارا".
ابن باديس يرافع لصالح المدرسة العلمانية
لقد نبه الشيخ ابن باديس وبشكل واضح إلى احترام العلمانية في موقعين أساسيين عرضهما في كتاباته: المدرسة العلمانية والدولة العلمانية.
وقد طمأن الجزائريين من عدم الخوف من العلمانية لأنها هي الرؤية وطريقة إدارة المؤسسات التي تحترم الاختلاف في الثقافات وفي الديانات، فقد نبّه الجزائريين إلى أنه لا خوف على أبنائهم من المدارس العلمانية لأنها الفضاء الذي يحترم فيه العلم والمعرفة بعيدا عن الدين، ولنقرأ ما كتبه في افتتاحية جريدة "الصراط"، لسان حال جمعية المسلمين الجزائريين الصادرة بتاريخ 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1933، تحت عنوان "مدارس الحكومة العلمانية..."، ما يلي:
"... نحسب لأبنائنا أن يتعلموا اللغة الفرنسية وما يعلم باللغة الفرنسية فهي لغة علمية عالمية، ولغة الأمة التي تربطنا بها روابط اجتماعية، والحكومة التي تتصل شؤوننا ومصالحنا بها. لهذا يجب علينا عندما نأخذ بيد أبنائنا لتعلم اللغة الفرنسية وما يعلم بها أن نبحث عن المدرسة التي نريد تقديمهم إليها. هل هي من المدارس العلمانية المحضة التي لا تتعرض للدين والعقيدة لا بشيء تعرضه على الصبيان ولا بشيء تناقشهم فيه ولا بكلمات دينية يفتتحون بها الدرس ولا بدعوات دينية تقام في بعض الأوقات. نعم علينا وجوبا أكيدا أن نتحرى في كل مدرسة نريد أن نقدم لها أفلاذ أكبادنا هل هي من هذا أم من ذاك، فإذا كانت علمانية قدمنا لها أبناءنا ونحن مطمئنون على عقيدتهم، وإن كانت دينية تركناها لأبناء دينها الذي تنتمي إليه".
ويتابع "إن مدارس الحكومة العلمانية المحضة موجودة بالقدر الذي هي موجودة عليه فليؤمها المسلمون بأبنائهم دون غيرها... وبذلك يكونوا قد أوصلوا أبناءهم إلى اللغة الفرنسية وما يعلم بها...".
واليوم أيضا لا يمكننا تحقيق الاطمئنان السياسي لبلدنا إلا بتحييد المدرسة وإبعادها عن الدين وتعميق البعد المعرفي والتربوي والعلمي فيها، وذلك هو خلاص الجزائر والدول العربية والمغاربية من أمراض التطرف والإرهاب.
كثيرا ما نسمع ونقرأ من بعض أعضاء جمعية المسلمين "اليوم" هجوما وتكفيرا للعلمانية وللعلمانيين في الجزائر، وقد فاتهم أن مؤسس جمعيتهم الشيخ عبد الحميد بن باديس قد دافع بقوة وإعجاب عن مصطفى أتاتورك العلماني، قائلا: "لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة، ولكنه لم يثر على الإسلام، وإنما ثار على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين، فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم فرفض مجلة الأحكام واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها، وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم وعليّ نفسي، لا خير لي في الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه... نعم! إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية وليس مسؤولا في ذلك وحده، وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا وكيفما شاءوا، ولكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض. وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره. ثم إخوانه المخلصون. فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود) نابليون فماذا أعطوا أمتهم؟ وماذا قال علماؤهم؟" (آثار ابن باديس الصفحة 215 -216)
إذاً ألم يكن الشيخ عبد الحميد بن باديس علمانيا؟ لا تقديس للأشخاص ولا خرافة في التاريخ.