Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السمسمية" تعزف لمصر أنغام الحرب والسلام

آلة وترية منتشرة بمدن القناة وأصبحت جزءاً من التراث الفني لفترات العدوان والنصر

يعود للفنان زكريا إبراهيم الفضل في إحياء السمسمية بجهود متواصلة على مدار 35 عاماً (اندبندنت عربية)

ملخص

"السمسمية" الآلة الموسيقية التي عزفت أنغام الحرب والسلام في مصر... تعرف إليها

لا يمكن اختزال الموسيقي والأغاني الشعبية في كونها مجرد كلمات غنائية متوارثة وألحان ارتبطت بمناطق معينة، بل هي جزء من الهوية ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والسياسة والأحداث المتعاقبة التي تمر على أي أمة في عصر معين فتعبر عنها بالفنون المختلفة ومن بينها الموسيقى والغناء.

ومن بين تراث ثقافي متنوع تزخر به مصر من الشمال للجنوب يعد الموروث الغنائي والموسيقي لمنطقة مدن القناة شديد الثراء، وعندما يذكر لابد أن تقترن به "السمسمية" تلك الآلة الموسيقية الوترية التي أصبحت عنواناً رئيساً للغناء الشعبي في هذه المنطقة.

ومدن القناة لها خصوصية فريدة في تاريخ مصر الحديث لارتباطها بأحداث سياسية متعددة، فمنذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مروراً بأحداث نكسة 1967، وما تلاها من تهجير لأهالي بورسعيد ثم النصر عام 1973، كانت السمسمية صوتاً للمقاومة وأنيساً للمهجرين ثم بطلاً لأفراح النصر.

كانت السمسمية في الفترة السابقة لحرب أكتوبر سلاحاً، ولكنه من نوع آخر يشحذ الهمم ويرفع الروح المعنوية ويؤرخ لأحوال الفترة وأهم أحداثها بكلمات الأغنيات التى أصبحت حالياً جزءاً من التراث الفني لفترة الحرب والنصر، فعندما تمت عملية تفجير المدمرة إيلات غنى فنانو السمسمية (يا دنيا غني واشجينا راحت إيلات المسكينة).

وعندما بدأ تهجير الأهالي من بورسعيد أصبح الغالب على الأغنيات حلم العودة لتأتي أشهرها (راجعين راجعين وكتاب الله راجعين)، وعندما أعلن عبور المصريين للقناة كان عنوان الأغنيات هو الأمل في النصر والدعوة للصمود فظهرت أغنيات مثل (عبروا الولاد السمر) و(غني يا سمسمية لرصاص البندقية).

 بعد الحرب

وبعد انتهاء الحرب ومع الانفتاح الاقتصادي أواخر السبعينيات وتحول بورسعيد لمنطقة حرة وسيطرة التجارة على المدينة بدأ صوت "السمسمية" في الخفوت نسبياً بتغير طابع الحياة واشتغال معظم أهل المنطقة في الأعمال لتجارية حتى قام الفنان زكريا إبراهيم بمبادرته التي أعادت الروح لهذه الآلة بإنشاء فرقة منذ 35 عاماً تعتمد على إحياء التراث الغنائي الخاص بها، وإقامة الحفلات ليس فقط في مصر، وإنما في كل قارات العالم حاملة "السمسمية"، لتتعدد من بعدها الفرق في مدن القناة وتتعاون وتتكامل في حفظ الموروث الغنائي المصري.

 

 

وإيماناً بأهمية السمسمية وقيمتها التاريخية والتراثية تجري حالياً جهود لتسجيلها على قائمة التراث العالمي غير المادي في "اليونسكو".

بداية الظهور

عن تاريخ "السمسمية" وبداية ظهورها يقول الفنان زكريا إبراهيم "هناك آراء متعددة في هذا الشأن، والأرجح أنها بدأت عن طريق قوارب الصيادين والتجار القادمة من مدن البحر الأحمر المختلفة، وهي قوارب صغيرة كان يطلق عليها (سنابك) وكانوا يصطحبون مع طاقم العمل عازفاً للترويح عنهم طوال رحلات الصيد الطويلة".

وأضاف إبراهيم "عن طريق جهود بحثية قمت بها من سنوات طويلة لتوثيق انتشار (السمسمية) في مدن القناة بالبحث عن قدامى العازفين في كافة مدن القناة، أجمعوا أن بدايات انتشارها كانت في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي لتبدأ بعدها في الانتشار تدريجاً".

 

 

وتابع الفنان المصري قوله "كان هناك رأي آخر سائد لفترة، وهو أن بداية ظهورها كان أثناء حفر قناة السويس من طريق القادمين من النوبة جنوب مصر للمشاركة في الحفر، ولكنه غير دقيق ويمكن الرد عليه بسهولة، فمن المعروف في علم الفلكلور أن أي آلة موسيقية تنتقل من مكان إلى آخر تحمل معها مخزونها الموسيقي من مقامات وألحان وأغان، ولم تظهر في تاريخ مدن القناة أي أغنية تغنى باللغة النوبية، كما لم يستخدم السلم الموسيقي لأغاني النوبة (الخماسي) في أي أغنية أو مقطوعة موسيقية واحدة، إضافة إلى  الاختلاف الظاهر بين تصميم آلتي القناة والنوبة".

فن الضمة

كان الشائع بالنسبة إلى الفنون الشعبية في منطقة بورسعيد أوائل القرن العشرين، ما كان يعرف بفن "الضَمة" وهو تجمع لمجموعة من الفنانين في أي فضاء متاح لتقديم غناء وموسيقى لينضم إليهم الجماهير، ومن هنا اشتقوا اسمهم "الضمة" وغلب على محتواهم  مزيج من الأغنيات الدينية والعاطفية باستخدام آلات موسيقية مثل الطبلة والرق والمثلث ليختلف الوضع مع تصاعد الأحداث السياسية وظروف العدوان الثلاثي، ومن ثم النكسة فالحرب والنصر في عام 1973.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأوضح إبراهيم "كان فن (الضمة) هو السمة العامة للغناء الشعبي في مدينة بورسعيد، ولكن تصاعد الأحداث السياسية وقيام الحرب في عام 1956، فرض ذوقاً جديداً وحالة مزاجية مختلفة عند الجمهور عن طبيعة الغناء، فحالة الحرب والأحداث السياسية طغت على كل شيء، فتألقت معها آلة (السمسمية) وتبارى الكتاب في تأليف العشرات من أغاني المقاومة"، لافتاً إلى أن ما ساعد على ذلك بقوة تبني محمد أبو يوسف (ريس الضمة الأكبر آنذاك) لآلة "السمسمية" فظهرت في حفلات الشوارع بجانب أهل الضمة واستمرا معاً في جذب مزيد من الجمهور حتى حدثت حرب 1967 ثم أحداث التهجير".

ونحو وضع مجهول سارت عائلات المهجرين من مدن القناة أواخر الستينيات من القرن الماضي لتستقر بهم الحال في محافظات مصر المختلفة وكانت "السمسمية" التي يعزفها المهجرون هي الصوت الذي يجمعهم ويواجهون من خلاله شعورهم بالغربة وحنينهم لبلدهم، بحسب قول الفنان المصري، لافتاً إلى أنه في الوقت ذاته مثلت جسراً للتواصل مع السكان المحليين للمحافظات التي انتقلوا إليها، وتعرفوا على التراث الغنائي لمدن القناة من خلال ألحان "السمسمية"، ومن أشهرها "فجر الرجوع أهو لاح"، و"يا مسافر بورسعيد"، و"هجرنا المصنع والولاد"، و"مركبنا المهاجرة"، و"هانت يا بلاطوة ".

وأشار إبراهيم إلى أنه "بعد انتصار أكتوبر 1973، عاد مهجرو مدن القناة إلى مدنهم وأقيمت الأفراح بالعودة والنصر إلا أنه في نهاية السبعينيات شهدت بورسعيد تحولاً كبيراً مع ما سمي وقتها بالانفتاح الاقتصادي لتتحول إلى منطقة حرة ويسيطر العمل بالتجارة والبيع والشراء على أهلها لتتغير منظومة القيم الاجتماعية ويخفت معها صوت (السمسمية) حتى محاولتنا لإحيائه".

تراث موسيقي 

ما يميز أي آله موسيقية شعبية في أي مكان في العالم، هو أنها تكون مستوحاة من طابع البيئة وخاماته المتاحة فيصنعها أهل المنطقة لتكون وسيلة للتعبير عن الثقافة والتراث، شريكاً في طبيعة الحياة الغالبة على المكان، وضيفاً دائماً في الأفراح والاحتفالات، وهكذا "السمسمية"، وعلى رغم أن الآلات الوترية في مصر معروفة منذ أقدم العصور فظهرت على المعابد المصرية القديمة كثير منها ومن بينها آلات بصورة شديدة الشبه بـ "السمسمية" في شكلها الحالي.

 

 

وعن كيفية صناعة "السمسمية" واختلافها من مكان لآخر يقول العازف الباحث التراثي عمرو راوي، إن "الشكل البسيط لها مكون من قطعة من الصاج مشدود عليها قطعة من الجلد تعمل كصندوق للصوت ويخرج منها ذراعان خشبيتان تصل بينهما من أعلى قطعة خشبية ثالثة تسمى الفرمان، وهي التي توجد فيها المفاتيح المستخدمة لضبط الأوتار، ومع التطور ظهرت أشكال جديدة لها مثل الاستغناء عن قطعة الصاج واستبدالها بصندوق خشبي وتنفيذ أذرع بأشكال جمالية تحتوي على حليات خشبية".

وأضاف راوي أن "السمسمية" موجودة  في مصر منذ أقدم العصور وظهرت على نقوش المعابد المصرية القديمة وهي بشكل عام متواجدة في مدن البحر الأحمر باختلاف وضعها، ومنها الساحلية ومنها المناطق ذات الطابع البدوي مثل الغردقة والقصير ورأس غارب وسفاجا وكل منطقة لها تراثها الغنائي، فبينما المناطق البدوية إلى حد كبير مرتبطة بالموروث الغنائي ولم تدخل كثيراً من التغييرات على الأغاني التراثية المعروفة منذ عصور، تعد منطقة مدن القناة أكثر من حمل لواء تطوير "السمسمية" باستحداث أغنيات وألحان، كذلك نشاط كبير للمؤلفين والعازفين على مر السنوات  بخاصة خلال فترات الحرب والنصر.

تطوير السمسمية

علاقة فريدة تجمع العازف بآلته الموسيقية على مر السنوات تدفعه إلى العمل على تطويرها وزيادة إمكاناتها، وهو ما فعله الفنان محسن عشري الذي يعد واحداً من أشهر عازفي "السمسمية" في مصر، وله عديد من المؤلفات الموسيقية واختارته مجلة (songlines) الإنجليزية ضمن قائمة أفضل 50 عازفاً لآلة شعبية في العالم.

يقول عشري عن "السمسمية" إنها "آلة وترية عرفت في البداية بأنها ذات خمسة أوتار واستمرت المحاولات مع الزمن لزيادة أوتارها، ومنذ سنوات قمت بتطويرها ليصل عدد الأوتار إلى 15 وتراً مع إضافة صف آخر للمفاتيح بفكرة مفاتيح البيانو السوداء نفسها، حتى أتمكن من عزف كافة المقامات عليها ومن بينها الشرقية الشهيرة مثل النهاوند والبياتي والسيكا، وأصبحت تضاهي أي آلة موسيقية وترية من حيث العزف".

 

 

وأضاف العازف المصري "هذا التطوير جعلها مؤهلة لأن تكون ضمن أكبر الفرق الموسيقية والأوركسترا، وأن تشارك في عروض موسيقية كبيرة"، مشيراً إلى أنه كانت هناك محاولات سابقة لدمج "السمسمية" في عروض قام بها بعض الفنانين، ولكنها محدودة جداً، إذ إن الأمر يحتاج لاهتمام أكبر من المؤلفين والموزعين الموسيقيين.

أجيال مستمرة

مثل كل أشكال التراث الثقافي تحتاج "السمسمية" إلى مبادرات للحفاظ عليها والعمل على نقلها لأجيال جديدة تكمل المسيرة في الحفاظ على جانب من التراث والهوية، وهو ما لفت له عشري قائلاً "لابد أن تبذل الجهود لإبقاء تراثنا حياً، وهذا ما نسعى جاهدين للوصول إليه، ومن هنا أنشأنا مدرسة للبراعم نقوم فيها بتعليم الأطفال والأجيال الجديدة العزف على (السمسمية)، وأخيراً بدأت  فرق شبابية عدة في الظهور وتقديم العروض في مدن القناة وهو توجه جيد نتمنى أن يستمر، ونأمل أن يكون هناك تكاتف بين المؤسسات سواء الرسمية أو الأهلية بالتوازي مع الجهود الفردية للحفاظ على جانب رئيس من تراثنا الموسيقي والغنائي".

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات