ملخص
تعمل حملة ترمب على تحويل سخطه إلى مكاسب سياسية من خلال الاستفادة من التغطية الإخبارية في وسائل الإعلام السائدة والإعلام المحافظ على وجه خاص
على رغم أن محاكمة دونالد ترمب في المحكمة العليا لولاية نيويورك كانت الأولى من بين عديد من المحاكمات تنتظره العام المقبل، وتتزامن مع ترشحه الثالث للبيت الأبيض، فإن الرئيس السابق ظل قادراً على تحويل سخطه ووجهه العابس إلى مكاسب سياسية وتمويل أكثر لحملته الانتخابية، فما عوامل نجاحه؟ وإلى متى يمكن أن تستمر؟ وهل تمثل محاكمته الأخيرة في مانهاتن استثناء في التأثير فيه أم أن البوصلة ستبقى على اتجاهها؟
معركة أولية
لم يتحدث ترمب في قاعة المحكمة حول التهم التي وجهها إليه الادعاء بالاحتيال التجاري والتآمر وتضخيم ثروته بما يعادل ملياري دولار لدى شركات التأمين والبنوك التي اقترض منها، لكنه خاض معركة ضد المدعين العامين والقاضي خارج القاعة وقدم للصحافيين خطاباً لاذعاً، مصوراً المحاكمة المدنية على أنها جزء من 91 تهمة جنائية وجهت إليه في أربع قضايا منفصلة سابقة، باعتبارها مخططاً شاملاً ومنسقاً من الاضطهاد السياسي لإضعاف حملته لاستعادة البيت الأبيض.
وفي حين كان ترمب واضحاً منذ البداية في شأن عزمه جعل محنته القانونية جزءاً من خطابه، بينما يسعى إلى استعادة منصبه وسط احتشاد واسع من الجمهوريين إلى جانبه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، وتأكيده أن شعبيته تتزايد كلما وجهوا إليه لائحة اتهام مزورة على حد قوله، إلا أنه ليس من الواضح كيف سيكون تأثير ذلك في الانتخابات العامة المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 إذا انتهت الحال كما هو متوقع حتى الآن إلى ترشيح الحزب الجمهوري الرئيس السابق.
وعلى رغم أن محاكمة نيويورك التي بدأت، أمس الإثنين، وربما تستمر حتى شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، لن تسفر عن أي حكم بالسجن، وقد تحمل عواقب مالية تغير حياته من خلال التخلص من ممتلكاته العقارية وعلامة ترمب التجارية في المدينة التي أحبها وعاش بها معظم حياته، فإن ذلك لم يردعه عن مواصلة هجماته الحارقة ومزاعمه بأن المدعين والقضاء يستهدفونه لمنعه من أن يصبح رئيساً مرة أخرى، فيما بدا أنها استراتيجية ناجحة تحقق له ما يريده على رغم أنه قد لا يستطيع مواصلة ذلك بسبب الشروط التي وضعتها مقاطعة فولتون في جورجيا والتدقيق الذي يجريه مكتب المدعي الخاص جاك سميث الذي يحاكم ترمب في قضيتين فيدراليتين منفصلتين.
مكاسب سياسية
ومع ذلك تعمل حملة ترمب على تحويل سخطه إلى مكاسب سياسية من خلال الاستفادة من التغطية الإخبارية المكثفة في وسائل الإعلام السائدة والإعلام المحافظ على وجه خاص، وتأجيج شعور جماعي لدى أنصاره بأنهم جميعاً ضحايا اضطهاد سياسي، كما حدث مع لوائح الاتهام الجنائية الأربع منذ شهر مارس (آذار) الماضي، وهو ما اعترف ترمب نفسه بأنها كانت استراتيجية ناجحة، لأن خصومه أخرجوه من مسار الحملة الانتخابية ليظهر في المحاكمات الواحدة تلو الأخرى، بما في ذلك محاكمة مانهاتن الأخيرة حين كان وضع ترمب في قاعة المحكمة يشبه لقطة له في مقاطعة فولتون، التي جعلتها حملته بوجهه العابس شعاراً على أكواب القهوة والقمصان وجمعت بسببها ملايين الدولارات.
وشجع ترمب حلفاءه ومحاميه للدفاع عنه في وسائل الإعلام المحافظة، بينما تمثل إجراءات المحكمة تحدياً مستمراً لمنافسي ترمب من المرشحين الجمهوريين الآخرين الذين يكافحون من أجل إيجاد خط هجوم فعال ضد الرئيس السابق، ويعانون الإحباط وبخاصة حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، بسبب تفوق ترمب المستمر في السيطرة على العناوين الرئيسة وتقدمه في استطلاعات الرأي، إذ ما زال يتمتع بتأييد أكثر من 60 في المئة من الجمهوريين.
سبب عدم التأثر
ويثير تقدم ترمب المستمر بين الجمهوريين في استطلاعات الرأي كثيراً من الأسئلة والدهشة، غير أن عدداً من الباحثين الأميركيين مثل أستاذ الإعلام والاتصالات في جامعة ولاية تكساس مايكل ديفيلين، وأستاذة مساعدة الإعلان في جامعة "تكساس أوستن" ناتالي براون، يرون أن الناخبين الأميركيين أصبحوا أكثر انقساماً وحزبية، وأن هذا الانقسام المستمر لا يتعلق بالسياسة بقدر ما يتعلق بتسميات مثل "المحافظين" و"الليبراليين"، إذ يرى الناخبون أنفسهم على نحو متزايد في واحد من معسكرين، "الفريق الأحمر" الذي يرمز إلى الجمهوريين و"الفريق الأزرق" الذي يرمز إلى الديمقراطيين، ويضم كل منهما فصيلاً من الأعضاء المتشددين.
ويرى الباحثون ما يجري الآن بأنه يعكس التشابه بين الهوية السياسية والجماهير الرياضية، التي تشير إلى بعض المخاطر المرتبطة بما يسمى "الجماهير السياسية"، إذ تكون القاعدة الجماهيرية عنصراً أساسياً في الهوية، وكما يلاحظ في الرياضة من استمتاع بعض المشجعين بالمباريات وهم يرتدون قميص فريقهم كعنصر دال على الهوية، فإن هذا المفهوم يتجاوز مجرد دعم الفريق، ويتميز بدلاً من ذلك بارتباط عاطفي أعمق يشعر فيه المشجعون بالارتباط النفسي بفريقهم المفضل.
الولاء والانتماء
ومن المرجح أن يعبر هؤلاء المشجعون الذين يطلق عليهم "المشجعون المتميزون" عن حبهم لفريقهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويحضرون المباريات والنشاطات الخاصة بفريقهم ويشترون المنتجات المتعلقة بالفريق حتى عندما لا يحبون المنتج نفسه، ذلك أن الأمر كله يتعلق بإظهار الولاء، لكن المستوى الذي يتعاطف به المشجعون مع فريقهم يمكن أن يؤثر في الواقع في شعورهم وتصرفاتهم بعد المباراة، وبالنسبة إلى الجماهير الأكثر ارتباطاً، فإن الفوز يبدو وكأنه انتصار شخصي والخسارة تبدو وكأنها هزيمة شخصية، غير أن الخسارة لا تكون مجرد مخيبة للآمال، بل تشكل تهديداً لهويتهم وتسبب لهم انزعاجاً نفسياً يؤدي إلى التوتر والاكتئاب والاستعداد الأكبر لمواجهة الآخرين، ولهذا غالباً ما يضاعفون دعمهم لفريقهم، وقد يعلنون أن فريقهم هو الأفضل، بغض النظر عن النتيجة، ويقولون إن الخسارة كانت مجرد صدفة وإن أسباباً خارجية هي السبب مثل سوء الإدارة أو الإصابة أو الغش من قبل الفريق الآخر.
الرياضة كالسياسة
وكما هي الحال مع الرياضة يحدث الانتماء السياسي والمشاركة على نطاق واسع، إذ يصوت بعض الأشخاص في كل دورة انتخابية لحزبهم السياسي المفضل، لكن أشخاصاً آخرين ينخرطون بشكل كبير في الحزب ومرشحيه، ويتابعون وسائل الإعلام التي تعبر عن توجهات الحزب، ويشترون البضائع المرتبطة بالحملة الانتخابية، وكثيراً ما يتباهون بدعم المرشحين في الأماكن العامة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
ولهذا تظهر الدراسات أن 55 في المئة من ناخبي ترمب كانوا ما زالوا يعتقدون خطأ أن الرئيس السابق فاز بانتخابات عام 2020، وعزز ترمب وبعض أعضاء الكونغرس ووسائل الإعلام المحافظة هذه المعتقدات من خلال تبادل معلومات لا أساس لها من الصحة تزعم وقوع مخالفات في الانتخابات وتزوير إرادة الناخبين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعندما سأل الباحثون أنصار ترمب عما إذا كان من المرجح أن ينأوا بأنفسهم بعد الخسارة، تبين أنهم احتفظوا بولائهم المطلق لترمب، على غرار الطريقة التي يتفاعل بها مشجعو الرياضة بعد خسارة كبيرة، وعندما سئلوا عن سبب إعلان جو بايدن رئيساً منتخباً، ألقوا باللوم بغالبية ساحقة على كل شيء باستثناء ترمب، مرددين في معظم الأحيان مزاعم الرئيس السابق عن تزوير الانتخابات.
ووفقاً لهذه الدراسة، فإن ناخبي بايدن وترمب حصلوا على تصنيف مماثل من حيث مستويات هويتهم كفريق سياسي، مما يشير إلى المدى الذي بلغته السياسة الأميركية من الاستقطاب، إذ يعيش الناخبون في معسكرات منفصلة مكرسة لفريقهم وقادته وهو ما يفسر عدم رغبة قطاع واسع من الجمهوريين في التخلي عن ترمب الذي يبدو بالنسبة إليهم بطلاً قومياً يدافع عنهم.
من يحب ترمب؟
وعلى رغم لوائح الاتهام المتعددة على المستوى الفيدرالي والولايات، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن ترمب يحتفظ بصدارة قوية في السباق للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة عام 2024، غير أن فهم طبيعة أكثر المؤيدين للرئيس السابق تبدو مهمة لمعرفة سبب تزايد شعبيته بين الجمهوريين مع توجيه كل اتهام جديد لترمب.
وبينما لم يتخط جميع منافسيه حاجز خمسة في المئة من التأييد باستثناء رون ديسانتيس حاكم فلوريدا، فقد حافظ ترمب على تفوقه على ديسانتيس عبر جميع الفئات الديموغرافية الرئيسة، وظهر تفوقه كبيراً بشكل خاص بين الناخبين من البيض ومن أصول أميركا الجنوبية (اللاتينيين) ومن ليست لديهم شهادات تعليمية عليا وأولئك المحافظين جداً والأصغر سناً والذين يعيشون في أماكن ريفية للغاية أو من ذوي الدخل المنخفض.
قضايا ترمب غير مؤثرة
ويتفوق الرئيس السابق بشكل كبير على ديسانتيس بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي، لكن الفجوة تتسع بين الجمهوريين من ذوي الدخل المنخفض والأقل تعليماً، ومع ذلك أشارت دراسة أجراها أستاذ العلوم السياسية في جامعة "نورث وسترن" جوناثان شولمان، وأستاذ السياسة العامة في كلية "كينيدي" بجامعة "هارفرد" ماثيو بوم، أن تأييد ترمب تأثر بشكل بسيط بين الجمهوريين المعتدلين عندما سئلوا عن مرشحهم المفضل بعد توجيه اتهامات لترمب، لكن ذلك لم يصب في صالح ديسانتيس.
غير أنه بالنسبة إلى الجمهوريين المحافظين والمحافظين للغاية، فإن حثهم على التفكير في لائحة اتهام ترمب قبل الإجابة عن سؤال مرشحهم المفضل لعام 2024، أدى إلى زيادة الدعم لترمب بنسبة ثلاث نقاط مئوية، وهذا يضفي صدقية على الفكرة التي عبر عنها بعض الجمهوريين بأن توجيه الاتهامات يمكن أن يفيد ترمب، ولكن فقط بين الجمهوريين الأكثر تحفظاً.
وبطبيعة الحال، تشير النتائج التي توصلت إليها الدراسة إلى أن قضايا ترمب من شأنها أن تزيد من تنشيط قاعدته المحافظة أيديولوجياً، وبشكل عام تمثل النتيجة صورة لهيمنة ترمب الساحقة على جميع جوانب الحزب الجمهوري تقريباً.