ملخص
تجارب تعكس التحولات الجديدة والرسم بالفحم ينقل أحوال المدينة
تختتم في الآونة الأخيرة الغاليريهات البيروتية موسمها الصيفي، بعد سنة من المعارض التي تتالت على المدينة بتجمعاتها الفنية كافة. تعود هذه المعارض في وقت تشهد فيه بيروت حال استعادة وإعادة تركيب للمشهد الذي غاب عنها لسنوات ثلاث بسبب الجائحة، وفترة ما بعد انفجار المرفأ. أجزاء كبيرة من الغاليريهات استعادت نشاطها وجرى ترميمها وإعادة طرح مقتنياتها أمام الزوار. واللافت أيضاً هو عدد الغاليريهات التي تم افتتاحها أخيراً وأغلب روادها ومنسقيها هم من الشباب المتحمسين، ربما لأنه لا يزال هناك شيء في هذه المدينة يستحق أن يروى ويعاش.
بين هذه المعارض يطالعنا معرضان. الأول احتضنته غاليري آرت أون 56 وقد حمل توقيع "صيف 2023" وضم مجموعة أعمال لفنانين لبنانيين وعرب شكلت إطلالة وافية على تجارب شبابية ونوعاً ما مكرسة في المشهد الفني العربي. الثاني قدمته "آبر غاليري" التابعة لغاليري صالح بركات وجاء بعنوان "صخر أسود" للفنان اللبناني سعيد بعلبكي. يضم المعرض الجماعي أعمالاً ومنحوتات لـ14 فناناً يشتركون في موضوعات ويفترقون في أخرى، هذا العرض الذي اختتمت فيه الغاليري صيفها لهذا العام، صادف أنه ترافق مع الذكرى العاشرة لتأسيسها في بيروت. هذه السنة الاحتفائية تخللتها أيضاً عدة معارض مميزة لهيبت بلعة بواب، ومنصور الهبر وديالا خضري التي قدمت بيروت بتنوعاتها، وأيضاً محمود حمداني الإيراني الأصل المقيم في لندن الذي وصف من خلال لوحاته الفن وعلاقته بالموسيقى خصوصاً بمتواليات باخ.
في حديثها إلى "اندبندنت عربية" تقول مديرة الغاليري نها محرم معلقة على الموسم الصيفي والأعمال المعروضة: "بعد معارض فردية عدة قدمناها هذا العام أردنا أن نودع صيف بيروت الحافل من خلال عرض يحمل بعداً ثقافياً. بعد الانفجار والدمار الذي لحق بنا وإقفال كورونا وكل ما يتوالى على مدينتنا، أردناها تحية كبرى للمدينة التي تبقى، ولم نحصر الأعمال في خانة واحدة أو جنسية واحدة، إنما كانت متنوعة وتغطي شرائح متعددة ومتباعدة فنياً وثقافياً". وتضيف محرم: "ما يقدم اليوم على تنوعه واختلافه وتفاوت مستوياته يبقى دليل عافية على أن هذه المدينة قادرة وما زالت تحارب".
تجريب متنوع ومفتوح
في مساهمته يعرض جورج باسيل لوحة ضخمة هي بورتريه لامرأة تحمل سيجارة. ضوء هذه المرأة يأتي من العتمة، وثيابها صبة واحدة بلا أي إغراء وبحزن دامس كأنها أرملة. محمد عمران يقدم في منحوتته شخوصاً أشبه بشخوص لوحاته التي نراها بأعين ونظارات ضخمة. شخوص هي في الغالب أطفال، كائنات ما زالت بصبغتها الخام.
ليلى داغر وألوانها الليلية وكائناتها الغامضة. في لوحة داغر بخل بالصورة وكأنها تقصدت إعطاء المشاهد الانطباع بشيء عام عن اللوحة. الملامح الشخصية احتفظت بها لنفسها، هذا هو طارق البطيحي في لوحته الضخمة التي تتشابك فيها الألوان. هي عبارة عن فوضى لونية منظمة. لوحة تصل إلى الذروة في تنويع الأخبار وتكثير التفاصيل المتنافرة التي ليس لها علاقة بعضها ببعض، وإنما تندرج في تركيبة اللوحة الكلية.
هيبت بلعة بواب التي تقدم كولاجاتها الغاضبة والمشغولة بعناية فائقة تدفعنا إلى السؤال عما وراء هده اللوحة والأناقة. كولاج لعالمنا اليوم يتوافق معه تماماً، بلا أي مراعاة للألفة أو التناغم بين الشخوص، غضب واختلاط ألوان وخطوط وتمزيق ولصق ووجوه ممسوحة غائرة. هذه الحشود التي تقدمها بواب، هي ذاتها يقدمها غيلان الصفدي باستمراره في لعبة الوجوه المتناحرة والمتآلفة. هناك خيط يجمع كائنات الصفدي هو الوحشة. نرى بصارة وطاولة ومزمورا ويداً ممدودة وقارئ فنجان ومهرجاً وملائكة بأثواب وأجنحة. اللوحة يمكن للناظر أن يخالها صالة انتظار في جهنم أو الجحيم.
في لوحة سعود العبدالله تقشف وانسيابية في الخط وكأن هناك جسمين. مشهد عاطفي بأدوات بسيطة، محاولة تقديم للوحة خام كأنها أساس أو سكيتش، هو يقدم الخطوط ومخيلة المشاهد تكمل اللعبة، وكأنها اقتراح لتمرين المخيلة. مهارة منصور الهبر لا تختفي في مشاركته البسيطة في المعرض بل نرى طبقات الألوان الموجودة بلوحاته وكأنها تكوين للأشياء العائمة بعضها فوق بعضها. الشيء وما تحته وما دونه. هي لوحة أو إيكو للصورة. أما في النهاية فيرى الناظر ديالا خضري وعملها المقسوم إلى قسمين مقدمة العين وهي تتذكر. تذكر وسرد للتفاصيل يعطي أهمية للهامش والنافل واللاضروري واللامرئي. العمل والمتن هما سماء فقط.
"صخر أسود"... المعابد وأثرها
في المعرض الثاني في "آبر غاليري" نبصر منحوتات سعيد بعلبكي الفحمية، مجسمات أو منحوتات مشغولة بعناية. ليست المرة الأولى التي يعرض بعلبكي فناً مفهومياً كهذا، هذا شغله وهذه سيرته مع الفن. ما يخطر في بال المشاهد لحظة الدخول إلى القاعة الصغيرة هو نوعية هذا الفحم. قد يعتقد الناظر أنه فحم حجري أو نوع آخر غير الفحم الذي نعهده. نظرة بسيطة ونكتشف أنه فحم عادي صناعي وظفه بعلبكي لتشييد معابده ومجسماته المنمنمة والصغيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه المجسمات تصاحبها أرضية بيضاء تلمع، لكنها باردة وأشبه بمخططات البناء التي يبنيها المهندسون. منحوتات بعلبكي تمشي عكس السائد دائماً إذ لا يجد لها الزائر ظرفاً أو شرحاً أو تفسيراً واضحاً، إلا إذا أرفقها بالفكرة التي تمشي إلى جانب الأعمال المطروحة. دائماً ما تحتاج أعمال بعلبكي إلى شرح ومسوغات. للوهلة الأولى يشعر الناظر أنها كما الأفكار غير ناضجة أو بالأحرى غير مكتملة.
في بوب آرت بعلبكي محاولات لنبش التاريخ ومكنوناته، لا بل فرصة للانقضاض عليه بطريقة حديثة. معابد من عصور سحيقة ومعاصرة مطروحة أمام الزائرين لمحاولة مناقشتها والتفكير بها، وطرح أسئلة حول أدوارها وما يمكن أن تقدمه اليوم في رحلة الإنسان المعاصر.